اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وافضل الصلوات على سيد الخلق الميامين من آله الطاهرين محمد وعلى الهداة.
استعرضنا فيما سبق المبررات الموضوعية والفكرية لإيثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسير الموضوعي أغنى عطاء واكثر قدرة على التحرك والإبداع وعلى تحديد المواقف النظرية الشاملة للقرآن الكريم.
الآن أود أن أذكر مبررا عمليا وهو ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لأنه يبدأ يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله إلى فترة زمنية طويلة أيضاً.
ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الأعلام إلاّ عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته.
ونحن نشعر بأن هذه الأيام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل ولهذا كان من الأفضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع ان نكمل بضعة أشواط من هذه الجولات في رحاب القرآن الكريم.
من هنا سوف نختار موضوعات متعددة في القرآن الكريم ونستعرض ما يتعلق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء.
وسوف نحاول أن يكون البحث مضغوطاً بقدر الإمكان لكي نستطيع أن نصل إلى عدد من المواضيع المهمة.
فنقتصر على الأفكار الأساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة إلى كل موضوع وسوف أحرص على أن لا يستوعب كل موضوع إلاّ عددا محدوداً من المحاضرات.
أرجو أن يكون بين خمس إلى عشر محاضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن الكريم الآن نوجه هذا السؤال: ما هو الموضوع الأول الذي سوف نبدأ به الآن إنشاء اللّه تعالى؟ الموضوع الأول الذي سوف نختاره للبحث هو «سنن التاريخ في القرآن الكريم»، هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم؟ هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره؟ ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري؟ كيف بدأ التاريخ البشري؟ كيف نما؟ كيف تطور؟ ما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة البشرية؟ هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان، عنوان سنن التاريخ في القرآن الكريم، وهذا الجانب من القرآن الكريم قد بحث الجز الأعظم من مواده ومفرداته القرآنية لكن من زوايا مختلفة، فمثلا قصص الأنبياء عليهم السلام التي تمثل الجزء الأعظم من هذه المادة القرآنية.
فحصت قصص الأنبياء من زوآية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم.
وحينما لاحظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز، حاولوا ان يملؤا هذه الفراغات بالروايات والأحاديث، أو بما هو المأثور عن أديان سابقة، أو بالأساطير والخرافات فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية، كذلك أيضاً بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى، من زاوية منهج القصة في القرآن، مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وإبداع، ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية، من حركة، من أحداث، هذه أيضاً زاوية أخرى للبحث في هذه المادة تضاف إلى زوايا أخرى، من زاوية مقدار متلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شي من هذه النواميس والضوابط والقوانين.
الساحة التاريخية كأي ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر كما ان الساحة الفلكية، الساحة الفيزيائية، الساحة النباتية زاخرة بمجموعة من الظواهر، كذلك الساحة التاريخية بالمعنى الذي سوف يفصل من التاريخ إنشاء اللّه بعد ذلك، زاخرة بمجموعة من الظواهر، كما ان الظواهر في كل ساحة أخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس، من حقنا أن نتسأل: هل هذه الظواهر أيضاً ذات سنن وذات نواميس؟ وما موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس؟ وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا أو سلبا، أجمالا أو تفصيلا؟ . .
وقد يخيل إلى بعض الأشخاص، إننا لا ينبغي ان نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي كالبحث في سنن الطبيعة والذرة والنبات.
والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هدآية، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا، لم ينزل على رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بوصفه معلما بالمعنى التقليدي من المعلم لكي يدرس مجموعة من المتخصصين والمثقفين، وإنما نزل هذا الكتاب عليه لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجاهلية إلى نور الهدآية والإسلام.
إذن فهو كتاب هدآية وتغيير وليس كتاب اكتشاف.
ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ لعامة للعلوم الأخرى ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان.
صحيح أن في القرآن الكريم إشارات إلى كل ذلك، ولكنها إشارات بالحدود التي تؤكد على البعد الإلهي للقرآن، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة من الميادين العلمية المتفرقة، لكن هذه الإشارات القرآنية إنما هي لأجل غرض علمي من هذا القبيل لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء.
القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الإنسان الخلاقة، عن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين، وإنما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للإنسان، مفجرة طاقاته، محركة له في المسار الصحيح.
فإذا صار القرآن الكريم كتاب هدآية وتوجيه وليس كتاب اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن نترقب منه استعراض مبادئ عامة لكل واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها.
لماذا ننتظر من القرآن الكريم أن يعطينا عموميات، أن يعطينا مواقف، أن يبلور له مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الأخرى، ولا حرج على القرآن لو صار في مقام استعراض هذه القوانين، وكشف هذه الحقائق لكان بذلك يتحول إلى كتاب أخر نوعيا، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء إلى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة.
قد يلاحظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع إلاّ ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة بمعنى أن القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف، ولم يطرح نفسه ليجمد في الإنسان طاقات النمو والإبداع والبحث، وإنما هو كتاب هدآية، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبط أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هدآية، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الأخرى للمعرفة البشرية، وذلك أن القرآن الكريم كتاب هدآية وعملية تغيير هذه العملية التي عبر عنها في القرآن الكريم بأنها إخراج للناس من الظلمات إلى النور.
وعملية التغيير هذه فيها جانبان:
«الجانب الأول» جانب المحتوى والمضمون ما تدعو إليه هذه العملية التغييرية من أحكام، من مناهج، ما تتبناه من تشريعات، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني، جانب إلهي سماوي، هذا الجانب يمثل شريعة اللّه سبحانه وتعالى التي نزلت على النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحدث بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية لان هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه، ومن البيئة التي حلت فيها، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها.
هذا الجانب من عملية التغيير، جانب المحتوى والمضمون، جانب التشريعات والأحكام والمناهج التي تدعو إليها هذه العملية، هذا الجانب جانب رباني إلهي، لكن هناك جانب آخر لعملية التغيير التي مارسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه الأطهار، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصحابة، بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة، وبوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرين بوصفها تجسيدا بشريا واقعاً على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الأخرى التي تكتنف هذا التجسيد والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد، حينما تؤخذ العملية من هذه الزاوية تكون عملية بشرية، يكون هؤلاء أناسا كسائر الناس تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن.
إذن عملية التغيير التي مارسها القرآن و مارسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي، هي ربانية، هي فوق التاريخ ولكن من حيث كونها عملا قائما على الساحة التاريخية، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية أخرى، من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية، عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس، يتحدث عن بشر، لا يتحدث عن رسالة السماء، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الآخرين حينما أراد أن يتحدث عن انتصار المسلمين في غزوة أحد بعد ان أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أحد، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة، ماذا قال؟ هل قال بأن رسالة السماء خسرت المعركة بعد ان كانت ربحت المعركة؟ لا. لان رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي، رسالة السماء لا تهزم، ولن تهزم أبدا، ولكن الذي يهزم هو الإنسان، الإنسان حتى ولو كان هذا الإنسان مجسداً لرسالة السماء، لان هذا الإنسان تتحكم فيه سنن التاريخ، ماذا قال القرآن؟ قال (وتلك الأيام نداولها بين النّاس)(7.) هنا أخذ يتكلم عنهم بوصفهم أناسا قال بأن هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة أحد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة.
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)(8) لاتتخيلوا أن النصر حق إلهي لكم، وإنما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى كونيا لاتشريعيا، وحيث أنكم في غزوة أحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة.
فالكلام هنا كلام مع بشر، مع عملية بشرية لامع رسالة ربانية.
بل يذهب القرآن إلى اكثر من ذلك، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ، يهددهم بأنهم إذا لم يقوموا بدورهم التاريخي، وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فإن هذا لا يعني ان تتعطل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم بل انهم سوف يستبدلون، سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتي بأمم أخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الأفضل لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدة على الناس إذا لم تتهياء لهذه الأمة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة (إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً، ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً واللّه على كل شي قدير)(9) (يا أيّها الّذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم. )(10) إذن فالقرآن الكريم إنما يتحدث مع الجانب الثاني من عملية التغيير، يتحدث مع البشر في ضعفه وقوته، في استقامته وانحرافه، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها.
من هنا يظهر بان البحث في سنن التاريخ مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب اللّه بوصفه كتاب هدى، بوصفه اخراج للناس من الظلمات إلى النور لان الجانب العملي من هذه العملية، الجانب البشري والتطبيقي من جانب هذه العملية جانب يخضع لسنن التاريخ، فلابد إذن ان نستلهم، ولابد إذن ان يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين إطار عام للنظرة القرآنية والإسلامية عن سنن التاريخ.
إذن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير.
باعتبار الجانب الثاني، إذن لابد من شرح ذلك ولابد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك، نعم لا ينبغي ان نترقب من القرآن ان يتحول أيضاً إلى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الأساسي والرئيسي، يحتفظ بوصفه كتاب هدآية، كتاب اخراج للناس من الظلمات إلى النور، وفي حدود هذه المهمات الكبيرة العظيمة التي مارسها في صدور هذه المهمة يعطي مقولاته على الساحة التاريخية ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءاً على عملية التغيير التي مارسها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لتبصّر موضوعي للأحداث والظروف والشروط.
ونحن في القرآن الكريم نلاحظ أن هذه الحقيقة حقيقة ان للتاريخ سنناً ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الأخرى بسنن.
هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم، فقد بيّنت هذه الحقيقة في آيات أخرى على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصادق ونماذج وأمثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان وبيّنت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية أي بيّن المفهوم الكلي وبيّن في إطار مصداق، وفي آيات أخرى حصل الحث الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتاريخ، وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها، تريد أن تفتش عن سنة، عن قانون، وإلا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة أو قانون.
إذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الميامين الطاهرين.
قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ، بلورت في عدد كثير من الآيات بأشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، وفي بعض الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية، من اجل الوصول إلى السنة التاريخية.
وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة، وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة على المقصود، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر أو يكون معززاً ومؤيداً للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية.
فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية، فكرة ان التاريخ له سنن وله ضوابط مايلي:
(لكلّ أمّة أجلّ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(11) (ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون)(12.) نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين، أن الأجل أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للامة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراد العلاقات والصلاحيات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادي المسندة بمجموعة من القوى والقابليات، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة، هذا له أجل، له موت، له حياة، له حركة، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم أيضاً لها آجالها المضبوطة.
وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الاجل، إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد، بهوياتهم الشخصية:
(وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون)(13.) (ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون)(14) (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق اللّه من شي وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأىّ حديث بعده يؤمنون)(15) ظاهرة الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقب أن يكون قريبا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريباً، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي، لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله.
فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة، لاعن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمناظر الفردي، لكن حينما ننظر إليهم بالمناظر الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها، في سرّائها وضرائها، حينئذ يكون لها أجل واحد فهذا الأجل الجماعي المشار إليه إنما هو أجل الأمة، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة (وربّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً) (16)، (ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ولكن يؤخّرهم إلى مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ اللّه كان بعباده بصيراً)(17)، في هاتين الآيتين الكريم تحدث القرآن الكريم عن أنه لو كان اللّه يريد أن يؤاخذ لناس بظلمهم، وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة، يعني لاهلك الناس جميعا.
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني، حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، فيهم الأنبياء، فيهم الأئمة فيهم الأوصياء.
هل يشمل الهلاك الأنبياء، والائمة العدول من المؤمنين؟ حتى ان بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء عليهم السلام، والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أمة عن طريق الظلم والطغيان، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع، بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هواياتهم، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم.
حينما وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني إسرائيل، وإنما شمل موسى (عليه السلام) شمل اطهر الناس وازكى الناس، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت، شمل موسى (عليه السلام) لأنه جزء من تلك الأمة وقد حلّ الهلاك بتلك الأمة قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما، وبهذا شمل التيه موسى (عليه السلام) حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الإسلامي، وقتئذ شمل الحسين (عليه السلام)، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس، شمل الامام المعصوم (عليه السلام) قتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته.
هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ، لا يختص بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية أخرى (واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا انّ اللّه شديد العقاب)(18) بينما يقول في موضع آخر (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(19.) فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك، إذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لاعن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الأمة، سعي الأمة، جهد الأمة.
(وان كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلاّ قليلاً سنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنّتنا تحويلاً)(20) هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد المفهوم العام، يقول (ولا تجد لسنّتنا تحويلاً)، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمر ولن تتغير.
أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لأنهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك، وعلى كلمتك وعلى دعوتك، ولهذا صار أمامهم طريق واحد إخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي إنشاء اللّه شرحها بعد ذلك يشار إليها في هذه الآية الكريمة.
وهي أنه إذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي من هذا البلد، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الأخرى، فانهم لا يلبثون إلاّ قليلا.
ليس المقصود من انهم لا يلبثون إلاّ قليلا، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه وتعالى من السماء، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة.
استفزوه وارعبوه وخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة إذ لم يجد له ملجاً وأمانا في مكة فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة، وإنما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون، لا كأناس، كبشر، وإنما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية، سوف ينهار هذا الموقع، لا يمكثون إلاّ قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة، وهذا ما وقع فعلا.
فان رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلاّ قليلا، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها، وتحولت مكة إلى جز من دار الإسلام بعد سنين معدودة.
إذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ، وتؤكد وتقول (ولا تجد لسنّتنا تحويلاً) (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين)(21.) تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن:
(ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات اللّه ولقد جاءك من نبأ المرسلين )(22) هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، تحدثه عن التجارب السابقة، تربط بقانون التجارب السابقة، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين ما رسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية: الصبر، والثبات، واستكمال الشروط، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا يقول (فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات اللّه) إذن هناك كلمة اللّه لا تتبدل على مر التاريخ،هذه الكلمة التى لا تتبدل على مر التاريخ،هذه الكلمة التى لا تتبدل هي علاقة قائمة بين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الجمال هنا.
إذن فهناك سنة التاريخ (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السّيء ولا يحيق المكر السّيء إلاّ بأهله فهلّ ينظرون إلاّ سنّة الأولين فلن تجد لسنّة اللّه تبديلاً ولن تجد لسنّة اللّه تحويلاً)(23.) (ولو قاتلكم الّذين كفروا لو لوا الأدبار ثمّ لا يجدون وليّاً ولا نصيراً سنّة اللّه التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة اللّه تبديلاً)(24) هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ (انّ اللّه لايغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم)(25) المحتوى الداخلي النفسي الروحي للإنسان هو القاعدة، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي، لا يتغير هذا البناء العلوي إلاّ وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي انشأ الله شرحه بعد ذلك.
هذه الآية إذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان، وبين الوضع الاجتماعي، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان، فخارج الإنسان، يصنعه داخل الإنسان، مرتبط بداخل الإنسان، فإذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.
إذن فهذه سنة من سنن التاريخ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي (ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرا نعمة انعمها على قوم حتّى يغيّر واما بأنفسهم)(26.) (ام حسبتم ان تدخلوا الجنّة ولمّا يأتيكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضّرّاء وزلزلوا حتى يقول الرّسول والذين معه متى نصر اللّه ألا ان نصّر اللّه قريب)(27.) يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل إلى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم؟ ان هذه الحالات، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة، هي امتحان لارادة الأمة، لصمودها، لثباتها، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
إذن نصر الله قريب لكن نصر الله له طريق.
هكذا يريد ان يقول القرآن، نصر الله ليس أمرا عفويا، ليس أمر على سبيل الصدفة، ليس أمرا عمياويا، نصر اللّه قريب ولكن اهتد إلى طريقه، الطريق لابد وان تعرف فيه سنن التاريخ، لابد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى.
قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلى إثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
إذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصل إلى النصر.
فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها انّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن اكثر اموالاً واولاداً وما نحن بمعذّبين. )(28) هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات.
هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة وإلا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها) اذن هناك علاقة سلبية، هناك علاقة تطارد وتناقض، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع.
هذه العلاقة جز من رؤية موضوعية عامة للمجتمع، كما سوف يتضح إنشاء اللّه حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.
إذن هذه سنة من سنن التاريخ (. وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً)(29)، هذه الآية أيضاً تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا.
وهذه العلاقة أيضاً الآية تؤكد إنها علاقة مطلقة، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.
(ولو انّهم أقاموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. )(30) (ولو انّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون(31) (وأن لو استقاموا على الطّريقة لاسقيناهم ماءاً غدقاً بل قالوا انّا وجدنا آبأنا آبأنا على أمّةٍ وانّا على آثارهم مهتدون)(32) (وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها انّا وجدنا آبائنا على أمّة وانّا على آثارهم قتدون)(33) هذه الآيات الثلاث أيضاً تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللّه سبحانه وتعالى و بين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه.
(لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقاً) واخرى بانه (لو ان أهل القرى آمنوا واتّقوا) وأخرى بأنه (لو انّهم أقاموا التّوراة والإنجيل)، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع، من اجل إنشاء علاقات التوزيع على أسس عادلة، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع، إذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات.
لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار إلى وفرة الإنتاج والى زيادة الثروة، إلى ان يفتح على الناس بركات السماء والأرض.
إذن هذه أيضاً سنة من سنن التاريخ.
وهناك آيات أخرى أكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةً الّذين كانوا من قبلهم دمّر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها)(34) (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم)(35)، (فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطّلة وقصر مشيد، أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو إذان يسمعون بها فانّها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور.
)(36)، (وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد هل من محيص، انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد )(37.) من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى.
وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم لأننا في حدود ما نعلم القرآن أول كتاب عرفه الإنسان أكد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث، الإنسان الاعتيادي كان يفسر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، يفسرها على أساس الصدفة تارة، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللّه سبحانه وتعالى، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري إلى ان هذه الساحة لها سنن، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثراً لابد لك أن تكتشف هذه السنن، لابد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.
هذا الفتح هذا الفتح القرآنى الجليل هو الذى مهد إلى تنبيه الفكر البشرى بعد ذلك بقرون إلى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهمها علميا بعد نزول القران بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم،فقال ابن خلدون بمحاولة الدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة ـ على اقل تقدير ـ اتجه الفكر الاوربي فى بدايات مايسمى بعصر النهضة،بداء لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة، هذا المفهوم الذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي فى بدايات عصر النهضة وبأت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ومدارس متعددة كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.
وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه، إذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقية هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.
من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية الكريمة التي أوضحت فكرة السنن التاريخية وأكدت عليها، يمكننا أن نستخلص من خلال المقارنة بين تلك النصوص ثلاث حقائق أكد عليها القرآن الكريم بالنسبة إلى سنن التاريخ.