الحقيقة الثانية التي أكدت عليها النصوص القرآنية ربانية السنة التاريخية، ان السنة التاريخية، ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، سنة الله، كلمات الله على اختلاف التعبير، بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ، فهو كلمة من الله سبحانه وتعالى، وهو قرار رباني، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي، يستهدف شدّ الإنسان حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون بالله سبحانه وتعالى، واشعار الإنسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، ولان هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.
وقد يتوهم البعض أن هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية يبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ويجعله يتجه اتجاه التفسير الإلهي للتاريخ الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين حيث فسروا تفسيرا إليهاً قد يخلط هذا الاتجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي الذي اتجه إليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين، فيقال بأن إسباغ هذا الطابع الغيبي على السنة التاريخية يحول المسألة إلى مسألة غيبية وعقائدية ويخرج التاريخ عن إطاره العلمي الموضوعي لكن الحقيقة أن هناك فرقاً أساسيا بين الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي إسباغ الطابع الغيبي على السنة التاريخية، وبين ما يسمى بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت، هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين، وحاصل هذا الفرق هو أن الاتجاه اللاهوتي، للتفسير الإلهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع اللّه بديلا عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث، بديلا عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات، لا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل أوجه الانطباق والعلاقات والأسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية بل إنه يربط السنة التاريخية بالله، يربط اوجه العلاقات والارتباطات باللّه، فهو يقرر أولا ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية، إلاّ أن هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية، إذا أردنا أن نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهين من الظواهر الطبيعية.
نستطيع أن نستخدم هذا المثال:
قد يأتي إنسان فيفسر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بأن المطر نزل بإرادة من الله سبحانه وتعالى ويجعل هذه الإرادة بديلا عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر، فكأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا نسب لها، وإنما حادثة مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيار الحوادث، هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي الظاهرة المطر، لكن إذا جاء شخص وقال بأن الظاهرة، ظاهرة المطر لها أسبابها وعلاقاتها وإنها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلا، الماء يتبخر فيتحول إلى غاز، والغاز يتصاعد سحاباً والسحاب يتحول بالتدريج إلى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر إلاّ أن هذا التسلسل السببي المتقن، هذه العلاقات المتشابكة بين هذه الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي والتفسير الموضوعي لظاهرة المطر، لأننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى لا الحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها.
إذن القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنة التاريخية لا يريد أن يتجه اتجاه التفسير الإلهي في التاريخ، ولكنه يريد أن يؤكد أن هذه السنن ليست هي خارجة ومن وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله، فهي كلماته وهي سننه وإرادته وحكمته في الكون لكي يبقى الإنسان دائماً مشدوداً إلى الله، لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى هذه السنن نظرة علمية، ينظر أيضا إليها نظرة إيمانية.
وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف، ان نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضا، عملية الإمداد الإلهي بالنص، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطا بالسنة التاريخية، مرتبطا بظروفها غير منفك عنها، وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحا تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاك الإمداد الإلهي الذي يساهم بالنص ذاك الإمداد أيضا ربط بالسنة التاريخية.
قرأنا في ما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنص حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يأتكم مثل الّذين خلّوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللّه)(42) الآن تعالوا نقرأ الآيات التي تتحدث عن الإمداد الإلهي الغيبي لنلاحظ كيف ان هذه الآيات ربطت هذا الإمداد الإلهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضاً إذ تقول للمؤمنين (ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاث آلافٍ من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّكم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النّصّر إلاّ من عند العزيز الحكيم)(43.) هناك إمداد إلهي غيبي ولكنه شرط بسنة التاريخ، شرط بقوله: (بلى إن تصبروا وتتّقوا) أجملت هنا شروط التاريخ التي فصلت في الآيات الأخرى، إذن هذا الإمداد الغيبي أيضا مرتبط بسنة التاريخ.
إذن فمن الواضح أن الطابع الرباني الذي يسبقه القرآن الكريم ليس بديلا عن التفسير الموضوعي وإنما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي باللّه سبحانه وتعالى من أجل إكمال اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.