، فهو يريه الحركة و الموقف و الصفاء و الطهر متجسدا أمامه فى النبى و الوصى، و فى نسوة واجهتهن أعظم المحن و البلايا كامرأة فرعون، و فى الزهراء فاطمة (ع)، حيث واجهتها أجواء الانحراف و الشدة و الظلم، و فى مريم بنت عمران التى واجهت ضغوط البيئة فى أشد الامور حساسية بالنسبة لجنس المرأة بصورة عامة.
قد يورد البعض ملاحظة ذات مغزى! تقول: «اننا لا نجد فى التاريخ ما يشير الى نشاط اجتماعى للسيدة فاطمة الزهراء فى داخل المجتمع الاسلامى الا فى رواية أو روايتين».
و تعليقا على هذا نقول:
كل زمان له متطلباته و تقنياته، وأطر نشاطه. و انما يطالب كل من الرجل و المرأة و يحاسب وفقا لذلك، و يتم تقويم نشاطاته أيضا على هذا الأساس، من حيث حجم تأثيرها فى الواقع الاسلامى كله.
و بالنسبة لعصر النبوة، فان تعليم الزهراء القرآن للنساء، و تثقيفهن بالحكم الشرعى، و بالمعارف الالهية الضرورية. ثم مشاركتها الفاعلة و المؤثرة فى الدعوة الى الله سبحانه و تعالى فى المواقع المختلفة،
حتى فى المباهلة مع النصارى. ثم دورها الرائد فى الدفاع عن القضايا المصيرية، و منها قضية الامامة. ثم خطبتها الرائعة فى المسجد، التى تعتبر مدرسة و معينا يرفد الأجيال بالمعرفة...
هذا، عدا عن اسهامها المناسب لشخصيتها و لقدراتها، و لظروفها فى حروب الاسلام المصيرية. و عدا عن طبيعة تعاملها مع الفئات المحتاجة الى الرعاية كاليتيم، و الأسير، و المسكين، و هو ما خلده الله سبحانه قرآنا يتلى الى يوم القيامة.
و أعظم من ذلك كله... موقفها القوى و المؤثر، الذى وظفت فيه حتى فصول موتها و دفنها لصالح حفظ ثمرات الجهاد، فى سبيل قضية الاسلام الكبرى، تماما كما فعلته ابنتها زينب (ع) فى نطاق حفظها القوى و المؤثر لثمرات الجهاد و التضحيات الجسام للامام الحسين عليه السلام و صحبه فى كربلاء..
نعم، ان ذلك كله، و نظائره، يدل على ان الزهراء (عليهاالسلام)، قد شاركت فى العمل الانسانى، و السياسى، و الثقافى، و الايمانى بما يتناسب مع واقع، و حاجات، و ظروف عصرها. و فى نطاق أطر نشاطاته، وفقا للقيم السائدة فيه.. و قد حققت المجازات أساسية على صعيد التأثير فى حفظ الدعوة، و فى نشرها، و تأصيل مفاهيمها، و سد الثغرات فى مختلف المجالات التى تسمح لها ظروف ذلك العصر بالتحرك فيها.
و هذا الذى حققته قد لا يوازيه أى انجاز لأية امرأة عبر التاريخ، مهما تعاظم نشاطها، و تشعبت مجالاته، و تنوعت مفرداته؛ لأنه استهدف تأصيل الجذور. فكان الأبعد أثرا فى حفظ شجرة الاسلام، و فى منحها المزيد من الصلابة و التجذر، و القوة. و فى جعلها اكثر غنى
بالثمر الجنى، و الرضى، و الهنى..
فيتضح مما تقدم: ان الاختلاف فى مجالات النشاط و حالاته، و كيفياته بين عصر الزهراء عليهاالسلام و هذا العصر، لا يجعل الزهراء فى دائرة التخلف و النقص و القصور. و لا يجعل انجاز المرأة فى هذا العصر أعظم أثرا، و أشد خطرا. حتى و لو اختلفت متطلبات الحياة، واتسعت و تنوعت آفاق النشاط و الحركة فيها.. لأن من الطبيعى أن يكون عصر التأصيل لقواعد الدين. و التأسيس الصحيح لحقائق الايمان، و قضايا الانسان المصيرية هو الأهم، و الأخطر، و الانجاز فيه لابد أن يكون أعظم و أكبر..
و هكذا يتضح: أنه لا معنى للحكم على الزهراء عليهاالسلام بقلة النشاط الاجتماعى فى عصرها قياسا على مجالات النشاط للمرأة فى هذا العصر..
و بعد ما تقدم فاننا نذكر القارى الكريم بالامور التالية:
أولا: ليته ذكر لنا الرواية أو الروايتين لنعرف مقصوده من النشاط الاجتماعى . فان كان المقصود به هو أنها قد تخلفت عن وظيفتها و لم تقم بواجبها كمعصومة و بنت نبى، و زوجة ولى.
فقد كان على خصومها أن يعيبوها بذلك و كان على أبيها و زوجها أن يسددوها فى هذا الأمر و ان كان المقصود بالنشاط فى داخل المجتمع الاسلامى هو انشاء المدارس، و المؤسسات الخيرية، أو تشكيل جمعيات ثقافية، أو خيرية، أو اقامة ندوات، و احتفالات، أو القاء محاضرات، و تأليف كتب تهدى أو تباع، فان من الممكن ان لا تكون الزهراء (عليهاالسلام) قد قامت بالكثير من هذا النشاط كما يقوم به بعض النساء اليوم، و لا يختص ذلك بالزهراء عليهاالسلام، بل
هو ينسحب على كل نساء ذلك العصر، و العصور التى تلته. فان طبيعة حياة المجتمع و امكاناته و كذلك طبيعة حياة المرأة آنذاك كانت تحد من النشاط الذى يمكنها أن تشارك فيه الا فى مجالات خاصة تختلف عن المجالات فى هذه الايام، بقطع النظر عن المبررات الشرعية التى ربما يتحدث عنها البعض بطريقة أو بأخرى.
اما اذا كان المقصود هو أن التاريخ لم يذكر: أنها كانت تجهر بالحق، لمن أراد معرفة الحق، و لا تقوم بواجباتها فى تعليم النساء و توجيههن و فى صيانة الدين، و حياطته، على مستوى قضايا الاسلام الكبرى، و غيرها خصوصا ما أثير عنها من معارف نشرتها، حتى و لو فى ضمن اعمالها العبادية و غيرها. فان ما أنجزته فى هذا المجال كالنار على المنار، و كالشمس فى رابعة النهار.
و ان خطبتها فى مسجد النبى (صلى الله عليه و آله و سلم)، و مع نساء الأنصار تعتبر بحد ذاتها مدرسة للأجيال، و منبعا ثرا للمعرفة على مدى التاريخ لو احسن فهمها، و صحت الاستفادة منها.
هذا مع وجود أبيها رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)، و ابن عمها أميرالمؤمنين عليه السلام، اللذين هما محور الحركة الاجتماعية، و الانسانية و الاسلامية و كان نشاطها (ع) جزءا من مجموع النشاط العام الذى كان آنئذ.
على أن قوله «الا فى رواية أو روايتين» يبقى غير واضح و غير دقيق. فهناك العديد من الروايات التى ذكرت مشاركتها فى أنشطة مختلفة، اجتماعية و سياسية و ثقافية و تربوية، و قد ذكرنا بعضا من ذلك فيما سبق، بل ان بعض الروايات تذكر: أنها كانت تشارك حتى فى مناسبات غير المسلمين. و ذلك حينما دعاها بعض اليهود الى
حضور عرس لهم.
و ثمة تحدثت عن ذلك الأعرابى الذى أعطته عقدها، و فراشا كان ينام عليه الحسن والحسين (ع)، فاشتراهما عمار بن ياسر... فى قصة معروفة.
بل ان الله سبحانه قد تحدث انها و أهل بيتها (ع) من طبيعتهم اطعام الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا.
و حين خطبت خطبتها فى المسجد جاءت فى لمة من النساء كانوا يؤيدونها فى ما تطالب به، بل و يتحدث البعض عن وجود تكتل نسائى لها (ع) فى مقابل تكتلات مناوئة.
هذا كله عدا عن أن اهتمامها «بالجار قبل الدار» يعطينا صورة عن طبيعة اهتماماتها، و أنها لو وجدت أية فرصة لأى نشاط اجتماعى أو نشاط انسانى أو ثقافى فستبادر اليه بكل وعى و مسئولية و حرص.
و ثانيا: ان تأكيدات النبى (صلى الله عليه و آله و سلم) للمسلمين بصورة مستمرة قولا و عملا، على ما لها من مقام و دور، و موقع فى الاسلام و الايمان، و المعرفة، قد جعل لها درجة من المرجعية للناس، و أصبح بيتها موئلا للداخلات و الخارجات
شرح نهج البلاغة للمعتزلى الشافعى: ج 9 ص 198.