»، فهم بدلا من تعزيتها، و التكريم و التعظيم لها، واجهوها لا بالكلمة اللاذعة و حسب، بل بالقول و بالفعل الكاسر و الجارح، اذن، فلن تكون رؤية الناس للزهراء فى كل يوم حزينة منكسرة فى صالح الهيئة الحاكمة فى اى حال حتى و لو سكتت الزهراء، و لم تبك و لم تندد بمن ظلمها، و هتك حرمتها.
ان كل من يأتى الى المسجد فيراها مكبوتة و متألمة، و غير مرتاحة و منزعجة، ثم يذهب ليجلس فى مجلس الخليفة على بعد امتار يسيرة منها سيبقى يشعر بأذاها و بمأساتها، و بما جرى عليها، و سوف يستيقظ ضميره فى نهاية الامر.
اذن فجلوسها الحزين و مرارتها عليهاالسلام ستقض مضاجع هؤلاء الحكام، و سيربكهم ذلك الى درجة كبيرة و خطيرة و سيندم الكثيرون على ما فرط منهم من تقصير فى حقها عليهاالسلام، لأن بكاءها و مرارتها و حزنها يوقظ الضمائر و يثير المشاعر، و يهيج بلا بل الناس، و للناس عواطفهم و أحاسيسهم، و سيضعف ذلك من سلطة الحكام و نفوذهم، و هم انما يحكمون الناس باسم ابيها، و من خلال
تعاليمه فيما يزعمون.
و اذا كان عمر بن سعد قد بكى حين كلمته الحوراء زينب، و هو كان قد قتل الحسين (ع) قبل لحظات، فكيف اللواتى لم تكن قلوبهم قاسية كما هو الحال فى قلب حرملة و الشمر بن ذى الجوشن (قاتل الحسين) و ابن سعد، و ان كانت درجات ايمانهم تتفاوت بحسب الفكر و الوعى و العمل، و هم و ان لم يتكلموا حين الحدث المفجع لسبب أو لآخر لكن قد تأتى ساعد الصحوة، و قد يجدون الفرصة للتعبير عن حقيقة مشاعرهم، و ما يدور فى خلدهم، فكان لا بد من اخراج الزهراء من هذه الموقع و ابعادها عن أعين الناس، الذين سوف يزداد وعيهم و سيشتد ندمهم بعد أن تهدأ الامور، و يعودوا الى أنفسهم، و يفكروا بما جرى، و يتذكروا أقوال رسول الله (ص) لهم فى حق الزهراء و على عليهماالسلام الله...
فلا حاجة اذن الى صراخها عليهاالسلام فى الشوارع، و لا الى ازعاج الناس بذلك. و ليس من البعيد أن يكونوا قد دفعوا بعض الناس لمطالبة الزهراء بالخروج من بيتها متذرعين بأكثر من ذريعة، ثم استولوا على البيت بعد ذلك بصورة نهائية.
ولكن، هل كان بيت الاحزان هذا فى صالح الحكام؟! و هل استطاع ان يحقق بعض ما أرادوا تحقيقه أو ظنوا انه سيتحقق؟!
ان الاجابة الصريحة و الواضحة على هذا السؤال ستكون بالنفى، فانه كان فى الحقيقة وبالا عليهم أكثر مما توقعوه، فلم يكن من
السهل أن يقبل الناس باخراج الزهراء من بيتها، و منعها من اظهار الحزن، و من الجهر بالمظلومية، لأن ذلك ظلم آخر أشد أذى، و أعظم تأثيرا و خطرا، و أصرح دلالة على مدى الظلم الذى تعانى منه عليهاالسلام.
و مما يزيد فى وضوح ذلك أن الناس سيرون: أن كل ما جرى عليها انما كان بمجرد وفاة أبيها، فبدلا من المواساة، و محاولة تخفيف المصاب عليها و هى الوحيدة لأبيها و سيدة نساءالعالمين، تجد نفسها أمام مصاب أمر و أدهى، و هو أن من يعتبرون أنفسهم من اتباع هذا الدين، و يعترفون بنبوة أبيها، و يفترض فيهم ان يعظموه و يوقروه، و يقدسوه ان هؤلاء قد بلغ بهم الظلم حدا ضيقوا فيه حتى على أقرب الناس اليه و هى ابنته و هى امرأة لها عواطفها، و منعوها من اظهار الحزن على أب فقدته حرصا على عدم الجهر بظلمهم لها.
قال ابن اسحاق فى غزوة احد: و مر رسول الله (ص)- حين رجع الى المدينة- بدور من الانصار؛ فسمع بكاء النوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله (ص) ثم قال: لكن حمزة لا بواكى له.
فأمر سعد بن معاذ، و يقال: و أسيد بن حضير نساء بنى عبد الأشهل: أن يذهبن و يبكين حمزة أولا، ثم يبكين قتلاهن.
فلما سمع (ص) بكاءهن، و هن على باب مسجده أمرهن بالرجوع، و نهى (ص) حينئذ عن النوح، فبكرت اليه نساء الانصار، و قلن: بلغنا يا رسول الله، أنك نهيت عن النوح، و انما هو شى ء نندب
به موتانا، و نجد بعض الراحة؛ فأذن لنا فيه.
فقال: ان فعلتن فلا تلطمن، و لا تخمشن، و لا تحلقن شعرا، و لا تشققن جيبا
السيرة الحلبية: ج 2 ص 254، و تاريخ الخميس ج 1 ص 444 عن المنتقى، و ليراجع كامل ابن الاثير: ج 2 ص 167، و تاريخ الطبرى: ج 2 ص 210، و العقد الفريد، و البداية و النهاية: ج 4 ص 48، و مسند أحد: ج 2 ص 40 و 84 و 92، و الاستيعاب ترجمة حمزة. و مسند أبى يعلى ج 6 ص 272، و 293/ 294، و فى هامشه عن المصادر التالية: مجمع الزوائد: ج 6 ص 120، و عن الطبقات الكبرى: ج 3 قسم 1 ص 10، و عن سنن ابن ماجة: ج 3 ص 94، و فى السيرة و فى الجنائز الحديث: رقم 1591، و مستدرك الحاكم: ج 3 ص 195، و عن سيرة ابن هشام ج 2 ص 95، و 99.