لسان والخصوصیة القومیة

عبداللّه العروی

نسخه متنی
نمايش فراداده

عبد اللّه العروي

عبد اللّه العروي

اللسان والخصوصية القومية

كثيراً منا نقف من المسائل اللغوية موقفاً عاطفياً ظناً منا، أن أي تساؤل ينمعن نيات خبيثة، عن مؤامرة مبيتة ضد الرباط الوحيد الذي ما زال يجمع بين عرب اليوم. لهذا الموقف مبررات كثيرة، ترجع إلى تجربة الاستعمار الذي حاول جادّاً أن يقصي اللسانالعربي من حقل الحياة العامة، باعتبار أنه وعاء الوجدان القومي.

لكن في ظروفنا الحالية، لم تعد العاطفة تلعب الدور الإيجابي المعهود، بل أصبحت حاجزاً يمنع من إدراكعمق المشكلات. وجب إذاً التحرر منها، بخاصة إذا كنا قد اتخذنا قراراً مؤيداً للمشروع الوحدوي، فلم نعد نحتاج إلى واعز عاطفي نبرر به ميولنا. علاوة على هذا، ينبني الموقفالعاطفي على غلط منطقي، إذ يساوي بين الظاهرة الألسنية وبين شكل معين، يعتبره مثالاً لا يمكن أن يُجاوَز. لماذا نظن أن اللسان المعرب الذي نتعلمه في المدارس. والذي يختلفاختلافاً كبيراً عن لسان سيبويه، هو الصورة الوحيدة التي أُتيحت منذ الأزل للمنظومة اللغوية العربية. لو تصورنا لساناً دون إعراب تام ولا علامة تأنيث ولا مثنى ولا جمعتكسير، وهو تطور عادي في تاريخ الألسن، لو دُرِّس في المعاهد التربوية وكُتبت به آداب رفيعة وحُرِّرت به مقالات علمية وتفاهمت به فئات مختلفة، هل يمكن أن نقول إنه ليسلساناً وليس عربياً؟ ماذا يكون إذاً، ما دام يقوم بالدور المنوط بكل مادة لغوية منسقة ومقبولة؟

ليست النظرة السكونية إلى اللسان، سوى انعكاس للفلسفة الماورائية.تظهر لنا بديهية ما بقينا متعلقين بالماورائيات. وبمجرد ما نعتنق نظرية حركية تطورية ندرك في الحين أنه من الشطط ربط منطق ثقافة بكاملها بشكل لغوي عارض. إن مسايرة اللسانللتطورات الاجتماعية والتحولات التاريخية واقع قائم بالنسبة لكل مجموعة بشرية ولكل فترة من فترات حياتها. من غير المعقول أن نتصور أن المجموعة العربية وحدها غير خاضغةلهذا القانون العام، أو نتخيل أن المشكل اللغوي قابل لحل نهائي. ما نعانيه من اختلاف اللهجات، من صعوبة في النحو، وعدم دقة في الحرف، من تناقض في المصطلحات، تعانيهأيضاً، إن كثيراً وإنْ قليلاً، إنجليزية الولايات المتحدة، ولا أحد يربط مستقبل الثقافة الأميركية بانجليزية القرون الماضية. تحاول مجامع متخصصة أن تجد لكل مشكل لغويحلاً مرضياً مؤقتاً، لأنها تعلم أن التطور يخلق باستمرار مشكلات جديدة.

لا شك أن سبب موقفنا العاطفي من التعريب هو الإحساس العميق أنه أمر عويص، لا يحل إلا في ظروفسياسية واجتماعية واقتصادية غير متوافرة الآن. في الوقت نفسه يبقى اللسان المعرب، رغم ما فيه من ضعف، الرباط الوحيد بين الكيانات العربية. إذا ضعف، ولو نسبياً، فقد العربما يجمع بينهم دون أي مقابل لأن المشكلات الثقافية واللغوية ستبقى قائمة.

هذا اعتراض قوي في الظروف الحالية، وليس من حق أحد أن يستهزىء به. قد نقبله مضطرين، لكنالاضطرار لا يعفينا من معرفة النتائج المترتبة عنه. في الحفاظ على اللسان المعرب على حاله مزية سياسية، هذا واضح، لكن فيه أيضاً استمرار الازدواجية. بل الواقع أنه لهجةخصوصية، نلجأ إليها في المحافل العربية، عندما نريد أن نثبت انتماءنا القومي وننساها كلياً في غير ذلك: في حياتنا العائلية والمهنية وحتى في معاملات الشارع.

هنانتساءل: هل هناك تعادل بين الربح السياسي من الابقاء على اللسان المعرب دون إصلاح وبين ما نصرف على تعلمه وما يواكبه من أمية ومن ميوعة فكر؟ نؤدي عليه تلقينه ثمناًمباشراً، هو ثمن التربية الوطنية، وثمناً غير مباشر هو تعثر انتشار الثقافة العلمية العصرية، فنلجأ إلى المساعدة الأجنبية. هذا سؤال يطرحه بالفعل مخططو الاقتصادالوطني، ويدل على تناقض قائم في حياتنا اليومية. هو الذي يرتكز إليه، بوعي أو بغير وعي، أعداء التعريب. ما لم يتناوله بالفحص ويواجهه بجد أنصار التعريب، فإنهم لنيخاطوبوا أنفسهم أو غيرهم بخطاب عقلاني مقنع.

إن اليونسكو تضع الأقطار العربية في مؤخرة لوائحها: معدل الأمية فيها مرتفع، معدل العلماء والباحثين والاختصاصيينمنخفض. وهذا بالمقارنة، لا إلى مجتمعات بعيدة، بل إلى مجتمعات تشاركها الدين أو محنة الاستعمار أو التخلف الاقتصادي.

لابد هنا من شدّ الانتباه إلى نقطة مهمة: لا أحديجزم، أن العملية ممتنعة تماماً. بل نقول فقط إن ثمنها مرتفع، علماً بأننا نعيش في عالم يتحكم فيه منطق الاقتصاد، منطق الموازنة المتسمرة بين المصروفات والعوائد. قدنحتفظ باللسان المعرب على حاله ونصل مع ذلك إلى مستوى رفيع، لكن بأي ثمن؟ بأي مصروف مالي؟ بأي جهد جسماني؟ في أي مدة زمنية؟ قد نقبل أن نصرف أضعاف الإنجليزي أو الروسيلتخريج مهندس أو طبيب، قد نقبل أن يقضي الطفل عشر سنين ليتقن لسانه القومي، عوض خمس في فرنسا أو أميركا، قد نصل إلى تكوين القدر الكافي من الاختصاصيين بالاعتماد على لسانغير قومي... لكن هذه كلها حلول مؤقتة لمشكل اقتصادي لا تمس في شيء المشكل الثقافي، مشكل العبء الذي يثقل كاهل العرب في منافستهم للمجتمعات الأخرى، ثم إذا كانت الكياناتالعربية الصغيرة والغنية قادرة على تطبيق هذه الحلول، فالأمر ممتنع على الباقي الذي يمثل غالبية العرب.

أمام هذه الحقائق يعارض البعض فيسألون: وما القول في تجربةاليابان التي احتفظت بلسانها وثقافتها، ومع ذلك بزّت الغرب في ميدان العلم والتكنولوجيا؟

أعترف أني غير متخصص في الدراسات اليابانية، الكن المعترضين لا يأتون بشيءسوى ما ينشر من حين الى حين في الصحف السيارة، وهو لا يكفي لتكوين فكرة دقيقة عن أحوال اللسان الياباني وعلاقته بالنهضة الثقافية والعلمية الحديثة. لكى نناقش الموضوعنقاشاً مجدياً، لابد في نظري من الإجابة عن الأسئلة التالية:

- ما هي الإصطلاحات التي أُدخلت على اللسان الياباني منذ ثورة الميجي؟

- ما هو قدر الازدواجيةالموجودة فعلاً في الحياة الثقافية اليابانية؟ بالضبط ما هو دور اللسان الإنجليزي في البحث العلمي الياباني وفي تيسير المؤسسات التي لها فروع في الخارج؟

الهدف منهذه الأسئلة التحقق من أشياء أولية قبل اتخاذ اليابان كمثال يُحتذى. قد تكون التجربة اليابانية خاصة لا يمكن أن تعمم. وقد يكون مظهرها لا يوافق حقيقتها الداخلية، فنظن أناليابان قد حلّت بنجاح مشكلاً اقتصادياً، وذلك بثمن لم تؤدّه هي بل أدّاه جيرانها تحت القهر والاحتلال العسكري.

ينحلّ إذاً مشكل التعريب في الخيار التالي: إما أننعتبر اللسان الحالي الضامن الوحيد لخصوصية العرب فيجب أن نحافظ عليه مهما كان الثمن، والثمن هو الازدواجية من جهة والأمية من جهة ثانية، وإما أن ندرك أن خصوصية العربتكمن في نوعية تحركهم في العالم المعاصر، وأن اللسان في صورته الحالية لا يمثل سوى مرحلة من مراحل مسيرة لغوية لا نهاية لها، فيجوز لنا أن ندخل عليه إصلاحات في الحرفوالصرف والنحو والمعجم قد يتحول معها إلى لسان يختلف عن اللسان الحالي اختلاف هذا الأخير عن لغة الشعر الجاهلي.

بهذه الطريقة نقضي تدريجياً على الازدواجية، نفنّدعملياً الاعتراضات، المغرضة وغير المغرضة، على التعريب، ونبدع وسيلة للتفاهم سهلة وطيّعة قادرة على ترويج ثقافة جماهيرية وعصرية أي حاملة في كنهها فكرة الإصلاحالضروري المتواصل.

المصدر : ثقافتنا في ضوء التأريخ