توازن العام

منیر شفیق

نسخه متنی
نمايش فراداده

التوازن العام

منير شفيق

تدل التجربة التاريخية لنمط التسيير الذاتي الجماعي لعملية الإنتاج عبر الوحدات الاجتماعية (قبيلة _عشيرة _ قرية _ حي مدينة) على ضرورة وجود تناسق بين الملكية والعملية الإنتاجية والسلطة السياسية والوحدات الاجتماعية على قاعدة العقيدة وسيادة قانون الشرع والعلاقاتالاجتماعية المختلفة ومن ثم فإن العملية ليست مجرد إدارة مشتركة للإنتاج والتوزيع فحسب، وليست منفعة مادية مشتركة فحسب وإنما هي أيضاً وفي الجوهر، نمط حياة كامل، بحيثتشكل نمط علاقة بين الجماعة والفرد أو بين الجماعة والدولة، أو بين الأفراد، فإذا حاولنا أن نتعمق في دراسة التجربة التاريخية للوحدات الاجتماعية التي امتلكت بصورةمشتركة الأرض، ومارست بصورة مشتركة عملية الإشراف على توزيع الأرض بين العائلات والأفراد والانتفاع بها، وإدارة العملية الإنتاجية، وتوزيع المردود فسنجد أنها: أولاً،تجربة ناجحة عاشت مئات السنين، وأكثر، ولم يتخل عنها الناس حتى بعد أن فرض الاستعمار الغربي بالقوة أنماطه الخاصة، والدليل على ذلك استمرار المقاومة وفشل أنماط الملكيةالفردية التابعة التي حلت محلها ولا زال بين ظهرانينا من يتذكرون تلك الأيام ويحنّون إليها، أما ثانياً، فسنجد أن تلك العلاقات المشتركة لا يمكن أن تقوم في ميدان العملوالإنتاج وإنما يجب أن تكون نهجاً عاماً للجماعة. أي أن يسير معها، جنباً إلى جنب، نظام للأخوة في العقيدة وللتكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى وللعلاقةالسياسية الداخلية، ولنمط التقليد والأخلاق والمسلكية والمنهجية الفكرية.

ومن ثم فإن هذا النمط يشكل نظاماً كاملاً أو نهج حياة كاملاً. فالوحدة الاجتماعية المذكورةحين تمسك بالعقيدة وتتحلق حول المسجد تشكل المؤسسة الثقافية والاجتماعية والسياسية كما هي مؤسسة اقتصادية_عسكرية شبه مستقلة.

وقد ساعد على ذلك في التجربة التاريخيةللمجتمعات الإسلامية في البلاد العربية كون الوحدات الاجتماعية قامت على، أو كوّنت لنفسها، عصبيات (انتماء) محددة وذلك لتعزيز أواصر الوحدة الداخلية. إن هذا الشكل أوذاك من الانتماء إلى قوم أو عشيرة أو قبيلة أو ناحية حولها الإسلام من عصبية مقيتة إلى وحدة تعاون وتكافل وتآزر، وحولّها إلى جزء من أمة العقيدة. ولهذا كان ارتداد هذهالوحدة أو تلك إلى العصبية القبلية يشكل نكوصاً وانحرافاً. أما دواءه فلم يكن بإلغاء الروابط التي قامت عليها أو استغلتها تلك العصبية وإنما تحويلها من خلال الإسلام إلىوحدة جماعة لها دور إيجابي في تسهيل عملية التكافل والتعاون والتآزر والتعاضد. كما ساعد ذلك على حسن إدارة العملية الإنتاجية في كثير من الأحيان. ومن هنا لا بد من أن يطرحبعد التغييرات التي حدثت في ظل الهيمنة الاستعمارية السؤال: ما هي الشروط التي يجب توفرها من أجل انبثاق الوحدة الاجتماعية الأفضل في حالة إجراء إصلاح زراعي واقتصاديواجتماعي في ظل نهضة الأمة؟ أي هل يصار إلى تجميع الناس في تعاونيات تقوم فيها الرابطة بينهم على العملية الإنتاجية فتقوم هذه الوحدة على أساس الالتقاء في المصنع أوالحقل فقط، أم يجب أن تدعم بشروط أخرى تجعلها وحدة إجتماعية شاملة لا وحدة إنتاجية فقط؟ فعلى سبيل المثال. هل ستصبح تلك الوحدة هي المسؤولة عن، أو تسهم، نسبياً في الشورىعلى مستوى الناحية والمنطقة أو تتكفل عمليات الضمان الاجتماعي، والضمان ضد البطالة، والكثير من الخدمات الصحية، أو على الأقل تصبح الرافعة التي يلجأ إليها أفرادها عندكل محنة أو ظلم أو تقصير، أو حاجة. فتكون مسؤولة أمامهم أي تكون هي مركز التكافل الاجتماعي بين الأفراد. وبهذا لا يترك الفرد الضعيف ليواجه جهاز الدولة أو ما يعترضه منصعوبات، وإنما يصبح في مواجهة وحدته الاجتماعية التي يمكنه التعاطي المباشر معها. مما يجعلها تتحمل العبء الأكبر من العملية الحياتية نفسها. وهو الثمن الذي يجب أنتتحمله لتصبح قادرة على قيادة العملية الإنتاجية ودفع الأفراد للقيام بواجباتهم. ولكن من الناحية الأخرى تخف المواجهة بين الأفراد والدولة. وتقوم علاقة تعاون في تقديمالخدمات ومعالجة النواقص بين الدولة والوحدات الاجتماعية التي تقيم بين أفرادها علاقات التكافل الاجتماعي. ولكن مثل هذا المكسب لا يتحقق إلا ضمن رؤية شمولية للوضع ككل.ومن ثم فهو يتطلب إقامة توازن دقيق بين مختلف النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، وهذا لا يتحقق إلا في ظل العقيدة ورابطتها وفي الارتكاز إلى الشرعوجعله الحكم الفيصل.

المصدر : قضايا التنمية والاستقلال في الصراع الحضاري