د. مصطفى المحقق الداماد
إن الإنسان بإمكانه من خلال طاعة الله أن يوفّر لنفسه بيئةآمنة، مقترنة بالسلام والوئام. وتوفُّر حياة حسنة للإنسان لا يمكن أن يتحقق إلاّ في ظل هذه الرؤية الكونية، فالأرض بكل ما على سطحها، وما في داخلها، وكذلك كل ما في جوّهاتعود إلى ذات القادر تعالى، يقول الإمام عليّ عليه السلام:
'إن الدنيا دار صدق لمن صدّقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، ودار موعظةٍ لمن اتعظبها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة'.
اعتبرت العدالة في الإسلام مبدأً أساسياًللإيمان: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
أن العدالة والظلم هما طبقاً لنص القرآن الكريم الميزان الأساس في التمييزبين الأعمال السيئة والصالحة. ففي الإسلام لا يحق لأي فرد أو جماعة في أي مستوى كانوا أن تستغل الموارد الطبيعية بشكل بحيث يعرّض رفاهية الآخرين للخطر أو يخل بنظامالبيئة.
إن أيّ فرد أو جماعة تقوم بإفساد البيئة خلال استغلالها للمصادر الطبيعية والحياتية، فإنها تكون بذلك قد تخطّت وتجاوزت مقاييس العدالة، والمساواة، وأساءتإلى الأمن المعيشي للناس، وعرّضت للخطر الهدوء، والسلام ، والوئام في البيئة، وسوف يُنزَل بها العقاب طبقاً للأحكام القرآنية والسنّة النبوية. ويجب على الحاكم الإسلاميأن يعاقب مثل هؤلاء المفسدين من خلال استعمال القوّة بهدف تأمين العدالة، لكي يحول بذلك دون إثارة المفسد للشر.
أن أزمة البيئة التي تواجه في الوقت الحاضر البلدانالمتقدمة والنامية، هي في الأساس أزمة روح وقيم، ولذلك فأن البشرية ترى أن أمامها مستقبلاً مرعباً مع بداية ظهور المشاكل العويصة للبيئة من قبيل النفاد التدريجيللمصادر الطبيعية، والزيادة السريعة للتلوث، وقد دفعت هذه المشاكل دول العالم المختلفة إلى أن تأخذ بنظر الاعتبار مبدأ قدسية البيئة والحفاظ عليها في برامجهاالعمرانية والعامة من خلال عقد الاجتماعات الجادة، وتشكيل اللجان العديدة، إلاّ أن الموضوع المهم هو أن جميع هذه الخطط والبرامج إن لم تكن قائمة على أساس الاحترامالحقيقي لمجموعة من الأسس والقيم الإنسانية العليا، فسوف يكون هناك شك في نجاحها.
إن التمتع ببيئة سليمة بحاجة إلى إحداث تغييرات أساسية في المقاييس والقيمالإنسانية، فالأسباب الرئيسة لتدمير البيئة تتمثل اليوم في الطمع، وعدم الشعور بالمسؤولية، وعدم الاهتمام بالقيم الأخلاقية الإنسانية العليا، ولذلك فإن من الواجب أنيحدث تحوّل في قيمنا نحن البشر. وفي هذا المجال يحتاج الإنسان إلى أخلاق وثقافة بيئيّة تغير الأنماط غير الثابتة والمضرّة للإنتاج والاستهلاك في نفس الوقت الذي تضمن فيهالتنمية الاقتصادية لجميع البلدان.
إن البلدان الصناعية المتقدّمة استغلت المصادر الطبيعية دون هوادة، وبذلك فقد حققت لشعوبها الرفاهية والرخاء على حساب فقرالبلدان الأخرى، وهدر مصادرها، وتدمير بيئتها. وعلينا القول أن إنسان القرن العشرين وخصوصاً الإنسان الغربي المتحضر في الظاهر يفتقر للأسف إلى رؤية شاملة إلى الخليقةوالحياة، وقد عجز عن إدراك الارتباط العميق لحياة البشرية ببعضها البعض وبالأحياء الأخرى، بل أنه عجز في الواقع عن فهم شموليّة ووحدة الخليقة.
إن فكرة المحافظة علىالبيئة والتي تبدو جديدة في الظاهر هي في الحقيقة الاستمرار والتكامل لتلك البذرة التي بذرت في الأزمنة البعيدة في معتقدات البشرية بصورة تقديس للنباتات، والأحياءوالعناصر الأخرى للطبيعة.
فاعتماد الإنسان المباشر في الماضي البعيد على الطبيعة من ناحية المعيشة من جهة، وعجزه أمام قوى الطبيعة العجيبة من جهة أخرى، أحاط بعضاًمن عناصر الطبيعة في ذهنه بهالة من القدسية نشأ منها الإيمان بكرامات الطبيعة وبعض النباتات والأحياء في الثقافات المختلفة، وعلى سبيل المثال فان علاقة الإنسانبالطبيعة تأخذ شكلاً محترماً للغاية في الديانتين الهندوسية والبوذيّة، تنتهي في حالة تطرفها إلى عبادة الطبيعة، وباختصار فإن مثل هذه الطقوس تؤمن بأن جميع موجوداتالعالم الحية منها وغير الحيّة تحظى بشكل عام بالاحترام والتقديس، وعلى الآخرين أن يحافظوا عليها.
ويصرح أحد أقدم الأديان وهو الدين الزرادشتي الذي وصف بأنه أقدمدين سعى لتحقيق التوازن في الطبيعة بأن أهم واجب يقع على عاتق الإنسان ليس التضامن مع الطبيعة فحسب بل ومع جميع الموجودات؛ فالأدعية الزرادشتية مشحونة بالثناء علىالجبال، والأنهار، والمحيطات، ونمو النباتات الخضراء، والطيور في حالة طيرانها، وجميع أرجاء الأرض ومخلوقاتها، ومن بين تعاليم ومبادئ الزرادشتيين المعاصرين أن كلبذرة وردة تختص بملاك.
ومع مجيء الدينين الإسلامي والمسيحي اللذين يعدّان المكملين للأديان قبلهما، تغيرت الأوضاع بشكل بحيث أن هذين الدينين وضعا فصل الختام لمرحلةمن حيرة البشرية، وأعاناها في طريق الوصول إلى معتقد محدد فيما يتعلق بالطبيعة والكون وذلك عبر الإلغاء التدريجي لطائفة من المعتقدات المختلطة بالخرافات والمتنافية معتوحيد الله. إن إيلاء الأهمية للنباتات والأحياء وباختصار جميع العناصر والموارد الطبيعية لم يحظ بأهمية خاصة في هذين الدينين وحسب بل وتحوّل إلى سند حماية مأمونلبقائها، وأخفى في داخله الشكل الابتدائي والأولي للحفاظ على الطبيعة اليوم.
ويحمل الإسلام انطباعه الخاص به عن الطبيعة، والعالم المحيط بالإنسان، والإنسان نفسه منشأنه أن يحل الأزمات البيئية في عالم اليوم عن طريق الإصلاح الأخلاقي والتربوي للبشرية.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أنه على الرغم من أن القضايا والمشاكل البيئيةمطروحة في العالم الإسلامي المعاصر بنفس مستوى شدّتها في العالم الغربي، وأن وجهة نظر الإسلام فيما يتعلق بالطبيعة والعالم لا تختلف كثيراً على ما يبدو عن وجهة نظرالعالم الغربي والتي ورّط من خلال تبنيها البشرية في أزمة البيئة، إلاّ أن التعمق الأكثر من شأنه أن يكشف عن حقيقة أن نظرة الإسلام إلى الطبيعة كانت مختلفة كثيراً عننظرة الغرب في القرون الأخيرة، وإذا لم تبد نظرة الإسلام معلناً عنها بالشكل المطلوب فإن السبب في ذلك يعود إلى أن الحضارة أصابها التغيير كثيراً منذ القرن الثامن عشرتحت تأثير الحضارة الغربية، وفي الحقيقة فإن العالم الإسلامي اختفى تحت غطاء الحضارة والثقافة الغربية أكثر من تأثره بالإسلام. وإذا رأينا أن المشاكل العويصة للبيئةموجودة أيضاً في المناطق الإسلامية فإن ذلك لا يدل بالضرورة على أن المجتمع الإسلامي يعيش وفقاً للتطلعات والمبادئ الإسلامية، بل أن سبب ذلك يعود إلى بعده عن مبادئهوأهدافه.
يقول القرآن الكريم ان الإنسان خليفة الله في الأرض، وان كل ما في الأرض والسماء مسخر له، وبإمكانه أن يتمتع بنعم الطبيعة، إلاّ أنه يؤكد في نفس الوقت أن كلشيء في العالم خُلق موزوناً، ومتناسباً، ومتعادلاً، ويأمر البشرية أن تكتشف هذا التوازن وتدركه، وأن تسخّر العالم ذا الروح، والعديم الروح، ونفسها، وأن تذعن هي نفسهاللقوانين التي أمرها بها الله وجميع سكان عالم الكون، ويعتبر الإنسان الذي يستغل الطبيعة خارج إطار الأوامر الإلهيّة مفسداً في الأرض، ومغضوباً عليه من قبل الله.
وكما أوضحنا فإن تجربة القرنين الأخيرين أثبتت أن تطوّر الصناعة ونموّ حالة عدم الإيمان وعدم الاهتمام بالقواعد الدينية، والقواعد الأخلاقية لم يؤدّيا إلى عدم تحقيقالرخاء الأكثر للبشرية فحسب بل ان حياة الإنسان في العالم المعاصر المتحضر في الظاهر تبدو بين ركام المنتجات الصناعية أكثر مرارة وخواءً من أيّ وقت مضى، ومن المؤكد أنهذه الظاهرة المستنزفة، والمحزنة سوف تستمر بشدّة أكثر ما لم تدّب الحياة في المعتقدات الأخلاقية في أذهان أبناء البشرية.
إن ما يحتاج إليه الإنسان المعاصر هو إقرارالوحدة بين العلم والأخلاق لكي يجد السلوك الفردي والجماعي للبشرية في ظلها المرشد والنموذج، ويكون تأكيده الأكثر على كيفية الحياة أكثر من الإنتاج المجرد للبضائع، وفيالحقيقة فإن من الواجب تدوين أسس تؤمّن، في نفس الوقت الذي تؤكد فيه على المثل الأخلاقية، حاجات البشرية ورخاءها المادي، ومن هذه الأسس:
1- علينا أن نؤمن أن كل واحد منايمثل جزءاً من عمومية العالم، وهذه العمومية نفسها تربط جميع المجتمعات البشرية، والأجيال الحاضرة، ومستقبل البشرية، وجميع أجزاء الطبيعة مع بعضها.
2- يتمتع كل إنسانبحقوق أساسية، ومتساوية مع الآخرين مثل حق الحياة، والحرية، والأمن الفردي، وحرية الفكر، والمعتقد والدين، وحق السؤال وإبداء الرأي، وحق المشاركة في الحكم، وحق التمتعبالتربية والتعليم، وحق التمتع بالنعم الطبيعية إلى حد تحقيق حياة تليق بالإنسان، وأخيراً فإن له الحق في أن لا يحرمه أيّ فرد أو أية حكومة من هذه الحقوق الحياتية فيإطار إمكانيات ومحدوديّات الكرة الأرضية.
3- أن كل شكل من الحياة له حرمة واحترام بشكل مستقل، والتنمية البشرية ليس لها الحق في أن تهدد وحدة الطبيعة، بل أن علىالبشرية أن تتعامل مع جميع الموجودات والمخلوقات بالشكل اللائق، وتحفظها من الخشونة، والآلام التي يمكن اجتنابها، وعمليات القتل غير المنطقية، وغير الضرورية.
4- علىكل شخص أن يتقبل مسؤوليّة آثار سلوكه مع الطبيعة، وعلى المجتمعات أن تحافظ على مظاهر التوازن والتنوع الطبيعيّين وأن توظف موارد الأرض إلى حد الاعتدال والاكتفاء لكييُضمن بذلك الاستغلال الثابت للمصادر المتجددة.
5- يعد كل إنسان مسؤولاً بشكل عادل عن الجيل الذي يليه، وأن يورث له عالماً يكون على الأقل متكافئاً مع ما ورثه هو نفسهمن حيث التنوع، والقدرة على الإنتاج.
6- يجب أن لا تحد التنمية من قبل أي جيل، من فرصة الأجيال الأخرى.
7- إن المحافظة على حقوق الإنسان، وأجزاء الطبيعة الأخرى، هيمسؤولية عالمية تسمو على جميع الثقافات والأيديولوجيّات والحدود الجغرافية، وهذه المسؤولية تقع على عاتق كل فرد ومجتمع.
المصدر : في آفاقالفلسفة والدين