علي حرب
آليات الحجب
النص يمارس حجباً مضاعفاً، إذ هو يحجب ذاته كما يحجب ما يتكلم عليه. مثال ذلك الخطاب الإلهي، أي القول بأن اللههو الحكم. فإن مثل هذا القول يحجب أولاً طبيعة السلطة أي ناسوتيتها. ويحجب ثانياً رغبة القائل به في ممارسة سلطته على من يتوجه إليهم بالخطاب. ويحجب ثالثاً ذاته وحجبها أيكون النص نفسه يمارس سلطته على السامع أو على القارئ. وهذا شأن الدعاة وذوي العقائد. فما يصرح به الداعية هو أنه يدافع عن العقيدة والحقيقة أو يحرس الذاكرة والهوية. ولكنمبنى قوله، أي ما يسكت عنه القول ولا يقوله، هو أنه يدافع عن مرجعيته وسلطته أو سلطانه، وأنه يتصرف إزاء سواه بوصفه أولى منهم بأنفسهم. وبكلام أصرح فمنطوق خطاب الداعيةأنه يدعوك إلى أمر ما، قد يكون الإيمان والصدوع بأمر ربك وقد يكون الانخراط في مشاريع الثورة والتحرير أو التغيير، ولكن ما يتستر عليه خطاب الداعية هو كونه يمارس سلطتهعليك فيما هو يدعوك إلى الأمر، أي كونه يصبح مصدر الأمر والنهي، ولهذا فإن داعية الحرية يؤسس لسلطته على غيره فيما هو هو يدعوهم إلى ممارسة حرياتهم. ووظيفة الخطاب أن يحجبذلك. مثال آخر بارز يقدمه الخطاب الماركسي. فهذا الخطاب إذ يدعوك إلى محاربة الإمبريالية والهيمنة، يخفي ذاته، إذ هو يجعلك تغفل عن كونه يمارس عليك أمبريالته، واعنيالمقولات والتصورات. هكذا لا ينفك الخطاب عن الحجب.
وهذا شأن خطاب نفسه، ذلك أن الذي يدّعي رواية الحقيقة يخفي أولاً حقيقة الخطاب الذي يُنسى في معرض الرواية. ويخفيثانياً ما يتكلم عليه، أي الحقيقة نفسها، إذ هو بتسميته لها يحولها إلى شيء لاهوتي ما ورائي، أي إلى شيء أحادي مطلق يتعالى على حدثيته ويفارق محايثته، وذلك باستخدامهمفهومات كالذات والحضور والوعي والتطابق واليقين والثبوت... هذه هي الأدوات المفهومية التي تُستعمل في خطاب الحقيقة والتي يعمل النقد على تفكيكها واختراق كثافتها. إنهاالبداهات المنسبة التي يسكت عليها الخطاب ويستبعدها من دائرة النقد والفحص أي هي ما ينبغي مساءلته واستنطاقه. بهذا المنظار إلى الخطاب تستوي خطابات متعارضة من حيثالمضامين والطروحات والشعارات، ولكنها تستخدم نفس البداهات ونفس آليات التفكير، كما يستوي، مثلاً، هيغل وماركس، لأن الخطاب عند كل منهما يحجب بداهته وما يتأسس عليه،أعني أن كليهما يتعامل مع الحقيقة بالطريقة نفسها، أي بوصفها تطابق الذات والموضوع أو تواطؤ اللفظ والمفهوم. فالبداهات واحدة وإن اختلفت المذاهب والاتجاهات. كذلكتستوي، من هذا المنظار، الخطابات العقائدية على اختلافها وتعارضها، لأنها تستخدم، جميعها، نفس النظرة الأحادية إلى الحقيقة ونفس المنطق القائم على الحصر والاستبعاد أوعلى الإدانة والإقصاء. بذلك يستوي الماركسي والإسلامي والقومي وكل ذي معتقد أو صاحب مذهب أو أدلوجة، إذ الكل يستخدمون نفس الأدوات المفهومية ونفس آليات الحجب والتضليلونفس البداهات المنسية من فرط انكشافها. وهذه هي خاصية الخطاب، إنه يحجب البداهة التي هي مبناه وشرط إمكانه, تماماً كما يحجب الخطاب اللاهوتي ناسوتيته التي هي من الوضوحبحيث يتناساها الكلام فيما يتكلم عليه، وتلك هي مخاتلة الكلام.
حتى الخطاب الانطولوجي، أعني خطاب الوجود، لا يخلو هو الآخر من حجب وستر، ليس لأن الوجود يحتجب بذاتهكما ذهب إلى ذلك هيدغر، بل لأن الكلام يحجب أصلاً كما أذهب إليه. وما يحجبه الكلام على الوجود هو الموجود نفسه. وإذا كان هيدغر قد بيّن أن الفلسفة الماورائية منذ أفلاطونقامت على نسيان الوجود، فإنه لم ينج هو نفسه من شباك النظرة الماورائية، بقدر ما وقع في شرك الكلام، أي بقدر ما ظل يستعمل كلمة 'الوجود' بطريقة ماورائية. والحال فإن هذهالكلمة هي نفسها ذات أبعاد وظلال ماورائية لاهوتية. إنها تحجب ما يوجد بإحالته من شيء محايث مشروط إلى شيء لاهوتي يتعالى على كل شرط. فما يوجد في النهاية ليس الوجودبالحرف الكبير، وبالمعنى الماورائي أو اللاهوتي، وإنما الذي يوجد هو هذا الشيء الذي لا ينفك يحدث أو يتزحزح عن مركزه أو يختلف عن ذاته أو يتجاوز اسمه. من هنا وجهالإشكالية في التسمية. ومن هنا فالكلام هو مصدر الحجب والمخاتلة. وتلك هي ضريبة الثقة المفرطة بالأسماء والكلمات.
المصدر : نقد النص