د. راجح الكردي
لم ينكر الفلاسفة المسلمون النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة. بل أثبتوهما، وجعلوا النبوةضرورة عقلية وواجبة لأن فيها صلاح حال الناس ويقتضيها العدل الرباني ولكن منهج فلاسفة المسلمين منهج توفيقي بين الدين والفلسفة. فقد شرحوا مباحث الوجود شرحاً جمعوا فيهبين نظرية الوجود في فلسفة الإغريق وبين مفهوم الوجود في الإسلام وكان شرحهم ذا نزعة عقلية توفيقية وهم وعلى الأخص ابن سينا والفارابي، ومن تبعهما من الفلاسفةالإشراقيين، كالسهروردي، يؤمنون بالفيضية في الوجود، والإشراقية في المعرفة. وبناء على ذلك فالنبوة طريق للمعرفة لا تخرج في شرحها وكيفيات الوحي عن مذهبهم الإشراقي فيالمعرفة. ويردون النبوة إلى صلة النبي بالعقل الفعال الذي هو واهب الوجود وواهب الصور ويتم ذلك عن طريقين هما:
1_ طريق العقل الإنساني في أعلى مراتبه بعد أن يصبح عقلاًبالفعل مستفاداً، وهذا العقل يرتقى عند بعض الناس إلى أن يتقبل الأنوار الإلهية بغير معلم وبغير تعلم ولا حس ولا فكر، فيسمى العقل القدسي أو الروح القدسية. وعقول الأفلاكعندهم ملائكة ومن ثم يتصل العقل الإنساني في أعلى درجاته بالعقل الفعال ـ عقل فلك القمر ـ وطبيعتها عقلية. وهذا الإشراق بلا تعليم من العقل الفعال في العقل القدسي، هوكيفية من كيفيات الوحي بأن يسمع صوته ويراه والملاك مطلع على الغيب إذ هو مطلع على اللوح. ولا وسائط في إطلاعه على اللوح ولا في إطلاع العقل القدسي ـ عقل النبي ـ على مايهبه العقل الفعال له من معارف. ويقيم ابن سينا النبوة على أساس عقلي ويرد كيفيتها في العقل الإنساني إلى تدرج وترق إلى أن يصبح العقل الإنساني في درجة ليس بحاجة إلى فكرونظر، وإنما يقبس معارفه من العقل الفعال ويشعر بذلك في داخله بما لا يحتاج إلى تفكير، وهو المسمى عنده حدساً. والحدس عنده ليس خاصاً بواحد دون آخر ولكنه متفاوت فهو أعلىما يكون وأكثر ما يتحقق في النبي، ولكنه قد يقل عند غيره حتى يصل إلى أناس لا حدس عندهم.
2_ الطريق الثاني: يكون بفيض العقل الفعال على القوة المتخيلة. وللمتخيلة عندفلاسفة المسلمين شأن كبير إذ هي أساس تفسير الرؤيا الصادقة والأحلام عموماً. وقد عقد الفارابي فصلاً في كتابه 'آراء أهل المدينة الفاضلة' في سبب المنامات، وقد رد ما يراهالنائم في نومه إلى هذه القوة المتخيلة المتوسطة بين القوة الحاسة وبين القوة الناطقة أي بين الحس والعقل. إذ إن لها صلة بالخصائص النفسية للإنسان من ميول وعواطف وحركاتوإدارية ونزعات وهي تحتفظ بالآثار الحسية القادمة من العالم الخارجي عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة. ولها قدرة على التأليف والاختراع والإبداع بما فيها من قدرة علىالتركيب والفصل وتكوين صور جديدة قائمة في الوهم، وهي تحاكي القوى النفسية لدى الإنسان ويعقد فصلاً آخر على القول في الوحي ورؤية الملك يردهما فيه إلى القوة المتخيلةالقوية عند الأنبياء التي تقبل من العقل الفعال فيكون لها نبوة بالأشياء الإلهية.
بعد أن عرضنا التصور الإسلامي لكيفية الوحي عند فلاسفة المسلميننجد أن هؤلاء الفلاسفة وإن سلموا بالنبوة طريقاً للمعرفة إلا أنهم أصروا على تفسيرها تفسيراً نفسياً وعقلياً بحسب مذهبهم في المعرفة عموماً، وهو المذهب العقلي الإشراقيالذي يوفق بين الدين والفلسفة. وقد وقف علماء أهل السنة موقف الاستنكار لهذا الاتجاه الذي خلط الدين بالفلسفة، واعتدى على أهم ما يميز الإسلام عن غيره من الفلسفات وهوطريق الوحي والنبوة، التي هي اصطفاء واختيار من الله سبحانه لعبد من عباده نبياً رسولاً. وهي موهبة ومنحة وليست كسباً قائماً على التدرج في الرياضة الفكرية أو الروحية.ونكتفي بأن نسجل المآخذ التالية على نظرية النبوة عند فلاسفة المسلمين فنقول:
1_ إن في هذا التفسير للنبوة خروجاً عن منهج القرآن الكريم وتصوره، كما أن فيه معارضةواضحة لنصوصه الصريحة القاطعة في الشرح والتفسير فكيفيات الوحي لا نستطيع أن نعرف شيئاً منها إلا من الشرع. وهذا المأخذ إنما يتوجه أصلاً إلى قضية آمن بها هؤلاءالفلاسفة، وخدعوا بها أنفسهم والمعجبين بهم تلك هي محاولتهم الجمع بين الدين والفلسفة بالتوفيق بينهما في شتى المجالات ونحن نرى أنه لا صح المقارنة ولا الجمع ولا يسوىبين منهج رب العالمين ومنهج البشر المخلوقين.
2_ إن النبوة في التصور القرآني فضل من الله سبحانه بمحض اختياره عز وجل وإرادته المطلقة المختارة يتفضل بها على عبد منعباده كي يبلغ الناس مُراده. ولكنها عند الفلاسفة أمر ضروري واجب يقتضيه التحسين والتقبيح العقليين، أو ليس ذلك غريباً على تصورهم لأنهم أساءوا قبل ذلك في فهم علاقةالمخلوق بالخالق، إذ جعلوها ضرورية ضرورة وجود المعلول بوجود العلة، كما جعلوها ضرورية من قبل النبي نفسه الذي يتدرج بعقله الذي يصل إلى درجة المستفاد، ثم لابد له أنيتصل بالعقل الفعال، وكل ما هنالك أن مخيلة النبي أقوى من سائر مخيلات الناس، وهذا ما يتميز به النبي عندهم.
3_ النبوة في نظر القرآن والسنة ليست مكتسبة بتدرج ولابرياضة. ومن ثم فهي خاصة فيمن اصطفاه الله لها. بينما هي عند الفلاسفة مكتسبة. وإذا كانت تخضع للتدرج في الرياضة فهي عامة وليست منتهية أو مختتمة. وهذا خلاف للتصورالإسلامي الذي جعلها خاصة لا يدري بها النبي قبل نبوته كما قال تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) ومختتمة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ما كان محمدأبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) والكمال في الصفات الفطرية الإنسانية لا يكون باستعداده وإنما الله سبحانه يحفظ له هذا الصفاء، ولا يجعله يتلوث فيالجاهلية أو أوحالها فهو إذن يعد على عين الله تعالى وكما قال سبحانه (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) وقال عز وجل (الله أعلم حيث يجعل رسالته). وقد عبر أهل السنةعن معنى الاصطفاء هذا فقال الشهرستاني قال أهل الحق: النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبي ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالاًبالروحانيات بل رحمة من الله تعالى ونعمة يمن بها على من يشاء من عباده. وإذا كانت النبوة كما يرى الفلاسفة ليست إلا ثمرة التدرج في الرياضة الفكرية والإشراق العقلالفعال عل القوة المتخيلة، فإن هذه النبوة تصبح 'ضرباً من المعرفة يصل إليها الناس على السواء'. وهذا ما لا يقره الإسلام.
4_ قيمة النبوة أو الوحي طريقاً للمعرفة وإنكان الفلاسفة يعترفون بها، إلا أنه بناء على مذهبهم العقلي والإشراقي في المعرفة يلزمهم أن تكون المعرفة النبوية أقل في قيمتها كطريق للمعرفة من المعرفة العقلية أوالفلسفية ومن ثم فإن منزلة النبي ـ على مذهبهم ـ أقل من منزلة الفيلسوف أو أقل ما فيها أنها مساوية. وهذا الرأي في تقييم المعرفة النبوية ومنزلتها، مجال خلاف بين مؤرخيالفلسفة. فيوافق عليه دى بور ويخالفه في هذا الرأي هنرى كوريان، ويدفع د. محمد يوسف موسى ود. مدكور هذا الاتهام عن الفارابي ويذهبون إلى العكس من ذلك فإن المعرفة النبويةعند الفارابي أعلى درجة من المعرفة العقلية، مستندين إلى أن الفارابي اشترط كمال القوة المتخيلة والناطقة للنبي. كما أن تقييمهم لها كان على أساس مختلف يقول د. مدكور:'غير أنه قد يعترض عليه بأن يضع النبي دون منزلة الفيلسوف فإن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل. وليس هناك شك في أنالمعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة. ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية. وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطةالفكر أو بواسطة المخيلة وما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً. فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه والنبي والفيلسوف يرتشفان منمعين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع'.
وحقيقة الأمر أننا هنا نتهم الفارابي والمذهب الإشراقي ونلزمه بناء على مذهبه لا بناء على كلمة يقولها في محاولة الدفاع عننفسه في وجه من يتهمه. إن الذي يريد الحق يتراجع عن مذهبه الخاطئ الذي أثمر ما نلزمه إياه ولا ينافق المسلمين في التصريح بقوة المتخيلة والقوة الناطقة. ثم إن التبرير الذيقيل بشأن أساس التقييم وهو أن مصدر المعرفة هو المهم في هذا وليس طريقها. لا نوافق عليه والتهمة قائمة. ذلك لأن الأفضلية هنا ملزمةِ للفلاسفة من وجهين:
الوجه الأول: منحيث وسيلة الاتصال فالفيلسوف يتصل بوسيلة العقل والنبي ـ على رأيهم ـ يتصل بوسيلة المخيلة التي تتبع الحواس الباطنة. والعقل أفضل من الحس كوسيلة.
الوجه الثاني: من حيثنوع المعرفة فإن الفيلسوف يقيس بعقله فيض العقل الفعال فتكون معرفته عقلية ثابتة بينما النبي ـ على رأيهم ـ يتصل على طريق المخيلة، فتكون معرفته حسية وخيالية ومخترعةوفائضة عن العقل الفعال. وبهذا فلم تعد النبوة في هذا الفهم الفلسفي ذات شأن كبير فضلاً عن أنها لم تعد أعلى طريق المعرفة وأقيم وسيلة من وسائلها وأقل ما ذهب إليهالفلاسفة أنهم جعلوا منزلة الفيلسوف مساوية لمنزلة النبي في المعرفة مع اعترافهم باختلاف بين تلقيهما للمعرفة فالفيلسوف يتلقاها بإشراق العقل الفعال على العقلالإنساني بينما النبي يتلقاها بما يفيضه هذا العقل الفعال الذي هو جبريل ـ في نظرهم ـ على مخيلته.
5_ إن هذا التفسير لكيفية النبوة والوحي فيه اعتداء على نصوص القرآنوالسنة الصحيحة، ولا يخدم تأويل النبوة هذا التأويل العقلي الإسلام أبداً. ولا ينفع الدفاع عن قضايا العقيدة بمنطق الخصم لأن لكل دين أو فلسفة مناهج بحثه الخاص، ووسائلالدفاع الخاصة، فالقرآن والسنة يدافعان عن عقيدة النبوة دفاعاً ملزماً للعقل البشري السليم، ولا يجعلان من هذا العقل إلها مقدساً يحكمان إليه، كما فعل فلاسفة المسلمين،ومن ثم فإننا لا نرى وجهاً لهذا التأويل العقلي والتشريح الكيفي، لقضية قال صاحبها فيها قوله، وألا يكون ذلك افتئاتاً عليه كما قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرضجميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون). وحقيقة الأمر أن الدوافع الفلسفية تخرج الإنسان أحياناً عن جادة الصواب لأنها تضطره للدفاععن القضايا وتبريرها تبريراً يزيد من تعقيد المسألة.
أ ـ إن قضية التوفيق في حد ذاتها قضية لا يحتملها الدين وليست من منهجه لأنه جاءومهمته الأساسية تغيير كل التصورات والعقائد البشرية التي شكلها الناس بمنهج العقل والتقليد والهوى بعيداً عن دائرة الدين. فلا يمكن أن يجعل الدين الحق في خليط منعقائده الربانية والفلسفة البشرية، لأن حقائق الدين هي الحقائق البديلة فهي الحق وغيرها الباطل والحق أحق أن يتبع. ولا يفهم من هذا أن حقائق الدين تتعارض معها العقولولكن العقل السليم إنما هو مخلوق لله، وقد جعل الله في منهجه ما يستطيع هذا العقل أن يفهمه ويتجاوب معه ويسلم بوجوده من خلال قوانين العقل في عالم الشهادة. وأن يسلم بمابعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأن العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وإذا كان الإسلام ناسخاً للدياناتالسابقة وهي في أصلها من عند الله أفلا ينسخ الفلسفات البشرية التي شكلتها مدارس بعيدة عن هدى الله ومنهجه.
إن ثبوت النص في القضية التي هي قيد البحث ثبوتاً يقينياًهو سلاح رئيسي في الدفاع عن القضية. وبعد ذلك نرى هل شرح النص نفسه هذه القضية وفسرها؟ أم أنه ترك شرحها وتفصيلها للعقول وأية عقول؟ فإذا كانت القضية إحدى أركان الإيمانوهي الإيمان بالرسل والشهادة بأن محمداً رسول الله فهل يترك النص تفسير كيفية هذه القضية على أهميتها وأهمية توحيد التصور والفهم لها للعقول؟ والعقول مع التسليمبقدرتها على الفهم تتخالف فيما بينها فكيف إذا كانت القضية في شرحها وكيفياتها لا تدخل في نطاق قوانين العقل أصلاً وإذا تقدمت العقول لتلك المهمة فإنها في الحقيقةتستبعد النصوص وتحل محلها خرافات وتأويلات، لا سند لها من دين أو عقل سليم. لأن العقل السليم يؤمن بأن تفسير هذه القضية لا يدخل في مجال عالم الشهادة، بل هو من قبيل عالمالغيب. الذي لابد أن نعتمد فيه على النص كيفية وشرحاً وتفسيراً والنص نفسه قد أعطى لنا شرحاً وتفسيراً كافياً.
(ب) أنه ليس في قضايا الدين والاعتقاد أمر وسط، وهل يكونالأمر الوسط بتغيير ما أنزل الله ـ وهو أعلم بخلقه وطبيعتهم ـ وبين ما هو بشرى؟ إن الوسطية كمفهوم سليم بعيد عن الإفراط والتفريط، إنما هي في ذات الحقائق الربانية التيأنزلها على النبي وليست جمعاً بين ما جاء به النص وخيالات وترهات الفلاسفة، فإن حقائق الدين ربانية المصدر والشرح والتفسير. والفلسفة اليونانية أصلاً وعلى الأقل شرحاًوتفسيراً وتحليلاً وثنية حتى وإن كان العقل هو الذي يتبنى هذه الوثنية ليعطيها معقولية ما.
(ج) ثم أي جلاء لقضية النبوة ظهر في ما فعله الفارابي وسائر فلاسفةالمسلمين؟ إنهم عقدوا القضية بعد أن كانت بسيطة. والمسلم لا ينشغل بتشريح الكيفية وإنما تكفيه المعلومات عنها والتي هي بقدر ما تطيقه فطرته. ولا أحد أعلم بما تطيقه هذهالفطرة من خالقها سبحانه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وأي أثر للنبي زاده شرح فلاسفة المسلمين للنبوة سواء في مجال السياسة والاجتماع أو غيرهما حتى يبرر لهمتأويلهم بالقول 'فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي في السياسة والاجتماع لكفى'. وهل غابت هذه المهمة في تفسير القرآن والسنة النبوية للنبوة وأثرها فيهذه الجوانب أم أن المقصود هو أن الفلاسفة جعلوا مهمة النبوة إنسانية من منطلق إنساني وبتفسير إنساني، وهو خروج عن مفهوم النبوة وعدم التسليم بالمفهوم الرباني للنبوة،القائم على أنها ليست إنسانية لا في المنطلق والمصدر ولا في الشرح الكيفية.
المصدر : نظرية المعرفة بين القرآن والسنة