موقف القرآن من مذهب الشک

راجح الکردی

نسخه متنی
نمايش فراداده

موقف القرآن من مذهب الشك

د. راجح الكردي

الشك خروج على الفطرة

الشك خروج على معنى الإنسانية وعلى مهمة الإنسان في الحياة، والايمانالذي هو منطلق القران وغايته علم، والشك إلحاد وجهل. ومن ثم فقد شنع القرآن على الشك والشكاك الذين يريدون من وراء شكهم الإلحاد والتوقف واللاأدرية، وتعطيل حركة الحياة:(أفي الله شك فاطر السماوات والأرض)، وقال: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) وقال: (وإنهم لفي شك منه مريب) وقال: (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرةممن هو منها في شك) وقال: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب).

الوجود قبل المعرفة:

والمعرفة في نظر القرآن باب من أبواب الوجود، لأنها تتعلق بإثباتالحقائق والأشياء والتعامل معها. وطرق هذه المعرفة من إحساس وعقل ووحي، ليست إلا مخلوقات لله سبحانه جعلها مسبحة بحمده، وخلق الله لهذا الإنسان عقلا أو قلبا يمكنه منالتصدي والإيمان، وإرادة تمكنه من الاندفاع للعمل. فالمعرفة تقوم بالتعرف على الوجود. ومن ثم فالمطلوب من الإنسان _من وجهة نظر القرآن _ الإيمان بالله سبحانه وتوحيدهوإفراده بالعبادة. فالإيمان معرفة بوجود الله ومعرفة بوحدانيته وصفاته وأفعاله، ومعرفة بالنبوة ومعرفة بالغيب وسائر أركان العقيدة، والإسلام استسلام لهذه المعرفةوعمل بتكاليف هي تحتاج أيضا إلى معرفة بالمأمورات والمنهيات وعلى ذلك فالمعرفة تتوقف على الوجود، ولا يتوقف الوجود على المعرفة. ولكن تنعكس هذه النظرة في الشك المنهجيذلك لأن هذا الشك يقتضي طرح كل الأفكار السابقة حتى ولو كانت هذه الأفكار إيمانا بوجود حقيقي للأشياء، ثم تمحيص أدوات المعرفة وبحث مدى قدرتها على معرفة الأشياء والوقوفعلى معرفة بديهية يثبت بعدها التسليم بوجود الأشياء والحقائق. وأن هذا الباب من الشك مهما ادعى صاحبه بأن هناك أدلة يمكن أن يعتمدها بيقين في إيمانه أو اعترافه بوجودالأشياء، فإنه لا يمكن له بحكم تكوينه البشرى أن يحكم على أن هنالك وسيلة موثوقا بها تماما، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

كما أن هذا الشك لا يمكن أنيسلم إلا في شك في حدود المقدرة البشرية، ولا يمكن أن يقوم أي يقين إلا على شك، فالحس غير موثوق به لما يعتوره من المحدودية والنسبية والخداع، والعقل وإن كان أحسن حالا منالحس ولكن هل ينجو أيضا من العيوب أو النقص أو العجز، فكيف نثق به أداة للمعرفة اليقينية؟ أبالعقل نفسه وهو مستحيل عليه التمام أو التبرؤ من العجز.

ثم على افتراض أنالشك المنهجي يوصلنا إلى اليقين، فإنه ليس بالبحث في الإنسان: حسه وعقله، يمكن ان نحل مسألة اليقين هذه، ذلك لأن من سلك هذا الطريق كالغزالي وديكارت استند كل منهما إلىقوة فوق العقل أعطت التأسيس المطلق للعقل، الذي هو الحدس أو النور الذي يقذفه الله في القلب.

ولكن ما دليل الاعتراف بوجود الله الذي يقذف النور في القلب ويضمن صدقالحقيقة البديهية الأولى الواضحة المتميزة 'أنا أفكر فأنا موجود'؟ هل العقل؟ وكيف يكون العقل دليلاً على وجود الله ونحن نشك فيه أداة للمعرفة؟

تقييم الشك المنهجيطريقاً لليقين:

والشك المنهجي مع أنه يوصل إلى اليقين، فإنه ليس المنهج الوحيد لهذا اليقين كما يقرر اصحابه. إنه يعقد الفطرة البشرية في تعاملها مع الحقائق، فبعد جهدجهيد يعود الشخص ليعترف أن الإنسان مزود بداهة أنه يمكنه أن يعرف سواء استند إلى نور يقذفه الله في القلب أم إلى حدس داخلي في فطرة الإنسان، مصدر هذا النور والحدس إنسانيأم خارج قدرة الإنسان؟ وهل هو العقل؟ أم هو حدس داخلي واستنباط؟ ولا يخرج حينئذ إما أن يكون عقلا فتعود المسألة لدور المصادرة على المطلوب؟ أو هو أمر غير ذلك كله؟ وماذاعساه أن يكون؟ وما قيمة المنهج الذي يفتح باب التعقيد وباب المشاكل الكثيرة في سبيل حل مسألة واحدة؟ وعلى ذلك فهو منهج يعقد البسيط، ويزيد مشاكل البحث. كما أنه ليسمتوافقا مع فطرة عامة البشر، إذ عامة الناس لا يمكنهم الدخول في هذا المعترك الفلسفي. كما أن بذل الجهد في سبيل إثبات الواضح تحصيل حاصل لا قيمة له، ووضوح قضية العلموالمعرفة عند الإنسان من شدة الوضوح بدرجة أنها مرتبطة بوجود الإنسان وأنه يؤمن بها كما يؤمن بوجوده وبأنه ليس خالق نفسه.

وهذا التقييم للشك المنهجي، لا يمنعنا منالقول بأن القرآن لا يمنع من المنهج الذي يزيد الإيمان ويرفع درجة اليقين، وذلك بتمحيص أدوات المعرفة بالشك فيها. ولعل ما فعله الغزالي على إحسان الظن به _أنه كان يريد أنيجتاز هذه القنطرة من الإيمان إلى درجة اليقين بما يؤمن ولعل هذا الاتجاه يظهر بصورة أوضح في ما ذكره القرآن مع بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما حدث مع إبراهيمعليه الصلاة والسلام: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي). (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين*فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين* فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأىالشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برىء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).

ولم يكن طلب إبراهيمعليه السلام نابعا عن شك أبدا، لأنه نبي يرعاه الله. ولا يمكن أن يجعله يدخل الشك الذي يبدأ بالإنكار والإلحاد. ولكنها مسألة اليقين كما قال سبحانه (وليكون من الموقنين)وكما ذكر سبحانه على لسان إبراهيم في إجابته عن الدافع لسؤاله بصريح العبارة (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). ومثل هذا التأكيد وطلب اليقين حصل لسيدنا موسى عليه السلام حينماطلب رؤية الله ليزداد إيمانا ويقينا كما قال تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه. قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوفتراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) فقوله: (وأنا أو المؤمنين) تساوي قول إبراهيم عليه السلام: (ولكنليطمئن قلبي)، وفي معنى قوله تعالى: (وليكون من الموقنين).

القرآن ونهج التذكير:

كما أن العلم ليس بعيدا عن الإنسان حتى يحتاج هذه الرحلة المعقدة من الشك. وإنما هواكتشاف ذاتي لفطرة الإنسان. ومن هنا انفرد المنهج القرآني في تذكير الإنسان بالعودة إلى ذاته أو إلى شعوره كي يعلم ويعقل.

الفرق بين منهج التثبت في القرآن وبين الشكالمنهجي:

والشك المنهجي وإن كان طريقا لليقين الفلسفي كأساس لليقين بمحتويات الإيمان كما حصل للغزالي، إلا أن القرآن لم يحفل به.

يقول الغزالي: فعلى أي نحو صيغتعقولنا؟ هل صيغت على نحو تدرك الأشياء على ما هي عليه؟ أو على نحو تدركها على خلاف ما هي عليه؟ وسواء صيغت على هذا النحو أو ذاك، فسوف تنقل لنا ما يرتسم فيها واضحا بأمانةوإخلاص وفي تأكيد وتثبيت، ولكن الأمر ليس أمر تثبت وتأكد، ولكن أمر صياغة الأداة التي تتأكد وتتثبت. وهكذا يظهر أن التثبت والتأكد ليس فيهما وحدهما كبير غناء، ولكن المهمهو جوهر الأداة المثبتة المتأكدة. فمن لنا بأن عقلنا قد صيغ صياغة تجعله قادرا على إدراك الشيء كما هو في ذاته وكذلك حواسنا؟ حتى إذا اخبرانا في تأكد وتثبت حق لنا أن نقول:إننا نعلم حقائق ما أخبرانا به.

أما أنا فأقول: إن القرآن في عرضه ليقينية المعرفة تشغله هذه القضية وهي أن المطلوب من المعرفة هو التثبت والتأكد من أداة المعرفة قبلالتثبت والتأكّد نفسه. لأن الله سبحانه قد خلق هذا الإنسان، وزوده بالعقل والحواس وجعلهما أداتين للمعرفة يشعر بهما الإنسان شعوراً ذاتياً دون منهج شكى للتثبت والتأكد،من أنهما أداتان صالحتان أو مصوغتان صياغة تمكنهما من الاتصال بحقائق الأشياء ونقلها إلينا. لم يشغل القرآن نفسه بالعقل أكثر من أنه جعله مناط التكليف أو شرطا من شروطالأهلية للخطاب الرباني المتعلق بالعبد، فإذا زال العقل سقط التكليف. كما أنه جهة للتفكر والتذكر والتعقل، والقيام بدوره في توجيه الإنسان الى ربه. كما أشغل القرآنالمؤمنين بالغاية التي خلقوا من أجلها بشرا عارفين مفكرين وهي ثمرة هذا التكليف أي العبادة، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وعبادة الله لا تكون بغيرمعرفته. والحقيقة أن شبهة دخول مناهج الشك إلى الفكر الإسلامي حتى لو كان منهجيا كانت خطيرة على تفكير المسلمين ومنهجهم في مجال المعرفة. ولعل الغزالي قد صاغ هذا المنهجمتأثرا بقراءاته الفلسفية الكثيرة من اليونانية القديمة ومذاهب فلاسفة المسلمين.

ذلك أن من يشك مجرد الشك في أداة التثبّت والتأكد، أي في الحس والعقل إنما هو مرددلقول الشكاك من أنه ينبغي تجاوز ما تأكدنا من معرفته إلى البحث عن صياغة الأداة الموصلة للمعرفة إذ إن الأشياء ليست إلا كما تبدو لي أي كما أتثبت وأتأكد منها بعقليوحواسي، ولكن ذلك لا يكفي حتى يكون ثمة وثوق بأن هذه الأداة، للمعرفة أداة سليمة صادقة. وكل ما جاء به الغزالي أنه أرجع هذا الوثوق إلى الدين نستمد منه ثقتنا بالعقل. وكانما أحراه أن لا يدخل هذا المنهج أصلا ويعترف من أول الطريق أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مزودا بما يمكنه أن يعرف ويعلم ويسير على منهج في هذه الحياة.

الشكالمنهجي ليس الطريق الوحيد لليقين:

أضف إلى ذلك أن اليقين لا يمكن أن يكون مصدره الوحيد هو الشك المنهجي. ذلك لأن الاعتقاد الجازم أو الإيمان الذي يطلبه القرآن لايشترط هذا الطريق، كما يقبل الله تعالى إيمان الأشخاص عن طرق كثيرة بعضها عن طريق التعليم والتلقين، وأخرى عن طريق إنارة الفطرة والوعي السليم، وثالثها: عن طريق النظروالاستدلال. ورابعها: عن طريق التقليد الواعي، وليس مجرد الانسياق مع التيار حتى إن من يسوقه تيار الإيمان، فإن الحياة الإسلامية وممارسة الواجبات الدينية في المجتمعالمسلم تعطيه الوعي بمعتقداته. كل هذه الأصناف من الإيمان مقبولة وتوصل إلى اليقين، وفيها تنويع على فطر الناس التي تتنوع استجابتها وفقا لتنوع الأساليب.

ولعل شبهةاشتراط النظر والاستدلال كطريق للإيمان التي من أجلها يقوم المنهج الشكي للتسليم بيقينية المقدمات اللازمة للبرهان، وهو ما جعل متكلمينا يقعون في هذه المسألة في شركالفلسفة وخديعتها إذ اشترطوا النظر في الإيمان وأنه لا يقبل إيمان المقلد. وفي هذا خروج عن منهج البساطة القرآنية، التي تجعل الإيمان عاما لجميع الناس، سواء من عرف طريقالنظر والاستدلال، أم من آمن بغير هذا الطريق. وسواء من حقق اليقينية لأدواته المعرفية أم من لم يعرف شيئا عن هذا المنهج. قد كان رسول الله (ص) يقبل إيمان من يشهد بأن لا إلهإلا الله وأن محمدا رسول الله دون أن يكلف واحدا منهم بالنظر والاستدلال ودون أن يعطيه درسا في الشك المنهجي، لتعتدل صحته ويعود إلى التسليم بالبديهيات الواضحةالمتميزة.

وإن كان الشك المنهجي يدعى أنه رد على الشكاك والسوفسطائيين، فنقول: إن هذا الشك كان رد فعل، وإثبات الحقائق في نظر القرآن يكون بمنهج القرآن وليس بمناهج ردالفعل، التي غالبا ما يحصل فيها التأثر بالخصم. وقد زود الله تعالى الإنسان في القرآن بمنهج يعيد هذه الفطرة إلى طبيعتها السوية كما قال تعالى: (وتلك حجتنا آتيناهاإبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) ووضع الناس أمام بديهيات يقينية لا يمكن إنكارها ولا تحتاج إلى الإثبات بطريق الشك المنهجي، وإنما بمنهج الرجوعإلى الفطرة السوية المعتدلة، قال تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون).

وقال: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بن أكثرهم لايعلمون).

وأقام منهجا للبحث يخالف ذاتية المعرفة تلك الذاتية التي تبنتها الفلسفة في جميع عصورها، وهي التي تجعل الإنسان مصدر المعرفة ومرجعها الأخير سواء بدأت منالإنسان نفسه بعقله أو انعكست من الواقع على دماغه. والقرآن يحارب ذاتية المعرفة هذه بأن يجعل العلم ليس ذاتيا للإنسان ولكنه صفة من صفاته وإن كان لا يتخلف عنه في لحظةالشعور بالذات ذلك أن الذات العارفة لا تفقد نفسها إلا ساعة انعدام الإنسان وموته. ولكن هذا العلم مخلوق للانسان وليس هو خالقه، يأتيه بعد مرحلة الولادة وليس مولودا معه،كما قال سبحانه: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) وينزعه منه سبحانه حتى وهو إنسان حي كما قال سبحانه: (ومنكممن يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا).

ربانية الحل القرآني لإمكان المعرفة وانشطارية الحلول الفلسفية:

وكان المنهج القرآني قد حل مسألة إمكان المعرفةدون أن يجعلها مشكلة، وكان حله لها فريدا فهو أولا: لم يجعل سد هذه الفجوة قائما على التركيز على جهة دون أخرى ولا حتى بالجمع بينهما في إطار الوجود الطبيعي، أو في فصلالواقع بما فيه الإنسان _وهو من الواقع _ وإنما اعترف بدور الإنسان في التعامل مع الواقع مسخراً له هذا الواقع دون أن يكون هو المتصرف الوحيد فيه. فمع إعطاء الإنسان مهمةالاستخلاف في الأرض وعمارتها لم يجعله إلها لها تتمركز حول ذاته وإنما يعمرها ويتعامل مع عناصر الوجود فيها عابدا لله رب العالمين. ودوره فيها أنه خير المخلوقات الذي يعيدوره ويؤديه فخلص بهذا الإنسان من عبوديته لذاته من عقدة التمركز حول الذات. كما أنه اعترف بالوجود الواقعي وحرر الإنسان في الوقت نفسه من أن يكون عبدا للكون ومظاهره.وهنا يمكن أن نقول إن القرآن لا يفيه حقه أن يقال فيه إنه 'مثالي واقعي' بل إن أحسن مصطلح نطلقه عليه هو مصطلحه نفسه وهو أنه 'رباني'. هذه الربانية في النظرة التي تقتضي أنالواقع مخلوق لله والإنسان جزء من هذا الواقع، ولكنه المخلوق الواقعي الواعي أو العاقل. والواقع بما فيه الكوني والإنساني يتوجهان إلى عبادة الله عز وجل:

الأول: منهوجزء كبير من الإنسان ذاته وهو الجانب اللاإرادي يعبد الله وهو منزوع الإرادة والاختيار قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

والثاني: منهوهو الإنسان في جزئه الإرادي يتعامل مع نفسه ومع الواقع يعبد الله عن طوع إرادة ومحض اختيار وكلاهما الواقع الحسي، والإنسان بعقله مرتبطان بمصدر الخلق والمعرفة وهو اللهسبحانه.

والإنسان يتعامل مع الواقع تعاملا معرفيا، هو فيه سيد الكون، ولكن باستخلاف الله له فيه، يقبل ما يقبل ويرفض ما يرفض بمفهوم العبادة الشاملة لله. فيتعاملالإنسان العابد لله المعلم بتعليم الله مع الواقع المخلوق لله المسخر للإنسان بتسخير الله. بهذا الموقف تسد الفجوة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، والعقل والحسمعا، وليس الحس وحده ولا العقل وحده هما الأداة المعرفية الإنسانية التي بواسطتها يتصل الإنسان بالواقع. كما كان الإنسان يتصل ببقية موضوعات المعرفة التي ليست في دائرةالعقل والحواس بمصدر خارجي هو الذي خلقه وعلمه عن طريق الوحي أو المعرفة النبوية. والحس والعقل معا محكومان في أداء دورهما العبادي في المعرفة بالمصدر الموثوق اليقينيوالرباني وهو الوحي. ذلك أن الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس. كما أن العقل وإن كان يستند إلى الحس، فلا يمكن أن يكون الحس هو الذي يحكم عليهبمحدوديته. والحس والعقل وهما ملك الإنسان المخلوق العاجز الذي يبتدىء علمه وينتهي ويفني لا يمكن أن يكونا المصدر الوحيد للمعرفة، وإنما لابد من مصدر لا ينضب ولا يحكمعليه بالمحدودية والفناء، وهو المصدر الرباني عن طريق الوحي.

ومن ثم فإننا نستطيع القول بأن حل القرآن للمشكلة كان ربانيا متكاملا، بينما كان حلها في الاتجاهاتالفلسفية حلا انشطاريا. حتى من جمع بين الواقع والذات عن طريق الحس والعقل قد كان حله ماديا، إذ لم يفهم من العقل والحسن إلا على أنهما المعطيان الماديان الذاتيانللإنسان بعيدا عن دائرة المخلوقية لله والعبودية له. واللذان لا يتجاوزان عالم الشهادة إلى عالم آخر هو عالم الغيب، الذي هو مقتضى المفهوم الرباني للمسألة. ذلك أن عالمالغيب لا يمكن إدراكه ولا معرفة حقائقه بالبرهان العقلي الذي هو قمة ما يحكم به العقل كوسيلة للمعرفة _لأن التجريد في إدراك الماهيات إنما هو ممكن في مجال المحسوساتوالمواد الخارجية المشخصة.

إن بإمكان العقل النظري من خلال قوانين عالم الشهادة أن يؤمن بمبدأ وجود عالم الغيب، ولكن التجربة الإنسانية الحسية والعقلية تعجز عنمعرفة وإدراك كنه وتفصيل عالم الغيب وإننا لنملك مصدرا آخر غير بشري يعطينا ما يلزمنا من هذه المعرفة وبما يتوافق مع أداء دورنا العبادي الاستخلافي في الحياة. مصدره منيعلم الغيب والشهادة الله سبحانه وتعالى الذي قال عن نفسه (عالم الغيب والشهادة).

فللاشياء وجود حقيقي ثابت في عالم الغيب والشهادة، وإن كان الإنسان قد أعطى العلمبشيء من هذه الحقائق، فقد أعطيها بما يستلزمه دوره في الحياة ومن ثم فإن القرآن يعارض كل الحلول البشرية لهذه المسألة ويرسي تصورا يعترف فيه بواقعية الأشياء، ومقدرةالإنسان على المعرفة، وبأنه مزود بطرق فيه ثابتة، الحس والعقل، وبطريق الوحي، وإن الواقع أشمل من أن يكون عالم الإنسان المشاهد أو عالم الشهادة، وإنما يشمل عالما آخرأوسع وأثبت وهو عالم الغيب، وأن عالم الشهادة عالم يسلم نفسه إلى عالم الغيب الأزلي. والقرآن بهذا يفتح المجال واسعا للنفس الإنسانية كي لا تسلم نفسها للشك واللاأدريةوإنكار الحقائق. ويجعل العلم أساسا لمهمة الإنسان في الحياة والضرورة الفطرية للإنسانية السوية، والخروج عن هذا كله إنما هو الجهل والشك والإلحاد والكفر والهوى والضعفوظلام الجاهلية في تصوراتها وقيمها وأنظمتها وأوضاعها، كثمرة من ارتباط الإنسان بالواقع المادي بما ينطوي عليه من أشياء فيها ازدواج وتغير وتضاد.

والقرآن يحررالإنسان من هذا الواقع المادي ليجعله مخلوقا ربانيا يتعامل مع الواقع المادي ويسخره ويعبّده لله ولا يعبده. ولا يعترف القرآن في الوقت نفسه بالنظرة الخيالية غيرالواقعية _باسم السمو عن الواقع المادي _ التي تراها الأفلاطونية الحديثة التي تنظر إلى المادة عدما وإلى عالم الشهادة خيالات وأشباحا وظلالا، وأن الحقيقة إنما هي فيعالم الغيب فحسب. ولعل بعض النظريات التصوفية آمنت بهذه النظرية وإن كان التصوف في نظرته كان لا يقصد أكثر من أن يوجه الأنظار إلى الحياة الآخرة الدائمة، واحتقار الحياةالدنيا الزائلة، ولكن لو وزنت الأمور بالميزان الصحيح، واتبع منهج القرآن الذي أعطى كل شيء حقه من النظر والتقدير لما وجدنا هذه النظرية التصوفية التي ترى أن انكشافالحقيقة لا يكون في الدنيا، وأن ما في الحياة الدنيا ليس إلا مجرد الأسماء فحسب وليست حقائق، وإنما الحقائق أو المعاني على حقيقتها في عالم الغيب أو الآخرة.

خصائصالحل الرباني:

بينما جعل القرآن عالم الغيب أو ما يخفى على الإنسان من كنه الشيء وحقيقته أو ماهيته، من الممكن للعقل نفسه من خلال قوانين عالم الشهادة أن يسلم بمبدأوجوده، وأرجع الإنسان في معرفته إلى مصدر معصوم وهو الوحي، دون أن يجعله مستحيل المعرفة، فهو ممكن المعرفة من حيث قدرة العقل من خلال مقولاته على إمكان التسليم به،وقدرته على استقبال المعلومات الأكيدة عن طريق الوحي على الأنبياء، وقدرته على فهمها بما آتاه من سلطان في الفهم والعلم. والقول بجعلها ممكنة المعرفة لا يعني أن العقليستطيع أن يدرك الأشياء وحقائقها بنفسه سواء في عالم الغيب أو عالم الشهادة، ولكن فرق كبير بين إلغاء دور العقل والثقة به، ومن ثم إنكار معرفة الشيء في ذاته، وبين جعل هذهالإمكانية قائمة، ولكن بمصدر آخر يخاطب العقل ويوجهه بقوانينه ولا يلغي وجوده وكفايته في المعرفة. وهذا لا يتعارض مع نسبية المعرفة في مناهج القرآن ذلك أنها منسجمة معطبيعة المخلوق العاجز وأنها نعمة أو هبة من الله الخالق العليم بكل شيء.

وهذا لا يعني أن الإنسان لا يملك حقائق بديهية يفهم على أساسها الواقع. ولكن هذه الحقائق أوالمعلومات البديهية أو الأولية ليست على الأقل كلها ذاتية. ذلك أن الإنسان يولد ومخلوق معه الاستعداد للمعرفة أو الشعور بالذات وهذه حقيقة يستشعرها ثم إنه يولد وليسلديه معلومات جاهزة كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وزود الله تعالى هذا الإنسان بحواس يبدأ وعيها بالأشياء بتكوين معطيات حسية من خلالإحساسها بالواقع، ويكون للعقل دور في هذه الإحساسات وتنظيمها، والعقل نفسه ينمو وينضج حتى يجعل من هذه الإحساسات علوما أولية أو مقدمات للقياس والاستنباط سواء بطريقالاستقراء أو بتكوين بديهيات من النظرة الأولى للمعطى الحسي الجزئي الواضح الثابت، وبنمو العقل تنشأ عنده كذلك أوليات عقلية بديهية كقانون عدم التناقص أو قانون الثالثالمرفوع.

فالحس إذن والعقل يشتركان معا في تكوين المعلومات الاولية كما لا يمنع أن تحصل في العقل قواينن بنموه ونضجه كما تنشأ مسلمات أخرى من خلال البيئة التي يعيشهاوتتلى على مسامعه متواترات أخذت حكم البديهيات. وعلى ذلك فالحس أو التجربة ليس منفصلا عن الذات العارفة، بمعنى أن الواقع له علاقة بمعلوماتنا الأولية إلا أنه ليس هو الذييعطينا هذه المعلومات فحسب، وإنما تشترك الذات مع الموضوع أو العقل مع الواقع في صياغة معلومات أولية مع أن العقل يملك بديهيات ووجدانيات أخرى ليست التجربة الحسيةمصدرها، نشأت عنده بعد الولادة ومع نمو أبعاده الوجدانية أو الروحية والجسمية والاجتماعية والفكرية والنفسية. ولعل القرآن قد بين هذه الأبعاد وبين دورها في المعرفةفقال سبحانه: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة).

المتكلمون يحاولون تَمثّل الحل القرآني:

والقرآن وهو بصدد بيانه ليقينية المعرفة _حلا لمشكلة إمكانها _ نبه إلىمهمة الحس والعقل معا. وهذا المنهج قد فهمه علماؤنا الذين تصدوا للرد على الشك السفسطة والاتجاهات المثالية في الفلسفة اليونانية، وهم علماء الكلام، إذ قرروا أنه 'منالخطأ القول بأن الحواس تقضي على العقول أو العقول قاضية عليها'، كما يمكننا ونحن بصدد بيان إمكان المعرفة أن نقيم منهج المتكلمين، باعتباره إحدى محاولات شرح التصورالإسلامي أو الفلسفة الإسلامية في زاوية من زواياها وهي الدفاع عن العقائد الإسلامية، وإثبات قضاياها مستلهمين روح القرآن ونصوصه وبلغة الحس والعقل معا، وبمنهج العودةإلى البديهيات العقلية التي يشترك فيها الناس بصفتهم الإنسانية فنقول بصدد هذا التقييم:

إن علم الكلام يبدأ من مسلمات اعتقادية بوجود الله سبحانه وصفاته وبالنبوة،وإن كان يقيم الأدلة العقلية عليها مستوحياً ذلك من القرآن. ولعل معه بعض العذر إذ أنه كان منهج دفاع عن العقيدة الدينية في وجه الفلسفة اليونانية الوثنية، وإن وصلتبصورة ممزوجة بالمسيحية واليهودية. وهو بهذا المنهج يجعل الوحي المصدر الرئيسي مع الحس والعقل في الإيمان بالحقيقة وشرحها، بل هو المصدر الرئيسي، على خلاف منهجالفلاسفة المسلمين الذين لم يكونوا يمثلون التصور الإسلامي ولا الفلسفة الإسلامية القرآنية الحقة، إذ أنهم جعلوا الحقيقة ثمرة التوفيق بين مصدرين وطريقين: مصدرالفلسفة اليونانية من جهة، والدين من جهة أخرى، وطريق العقل من جهة وطريق الوحي من جهة أخرى. فخرجوا بحقيقة الدين عن طبيعتها وعقدوا مشكلة الفلسفة بما لا يتناسب ومنهجها.

ولو قيمنا علم الكلام بحسب غاياته التي بيّنها أصحابه، لما تعرض للهجمات الشرسة التي يعاني منها، حتى على يد بعض المسلمين، وهنا نفرق بين منهج يبنى عقيدة ومنهج يدافععن عقيدة، أما المنهج الأول فهو القرآن، ومنهج القرآن نفسه دونما تصرف من البشر ولا تفلسف والمنهج الثاني وإن كان يرجع الى القرآن فلا يمثل زاوية الدفاع وهو منهج علمالكلام.

ويتحدث الغزالي موضحا مهمة علم الكلام فيقول: 'وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها من تشويش أهل البدعة فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على رسوله، عقيدةهي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار. ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها، وكادوا يشوشون عقيدة الحق علىأهلها فأنشأ الله طائفة المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب على تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله.

يقولابن خلدون: 'علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما تلقاها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحقفيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها.

المصدر : نظرية المعرفةبين القرآن والفلسفة