إیجاد النص

سعید یقطین

نسخه متنی
نمايش فراداده

سعيد يقطين

سعيد يقطين

إيجاد النص: التحقيق والترجمة

يصلنا لمترجم بثقافة الآخر، وإبداعه في عالمنا الحالي، ويجعلنا من ثمة نحقق تفاعلاإيجابيا مع العصر الحديث لو توفرت الشروط الضرورية، كما أن المحقق يضطلع بالدور نفسه لكن من خلال صلته التي يقيمها مع النص العربي القديم. إنه بكلمة أخرى الوجه الآخرللمترجم. نود أن نتوقف قليلا لنتساءل عن عملية تحقيق النصوص، ودور المحقق في واقعنا الحالي، ما دام المحقق يرتبط ارتباطا وثيقا بالأدب شأنه في ذلك شأن العالم والناقدوالدارس والصحفي والمترجم. نتحدث عن المحقق، وضمنيا نتحدث من خلاله عن المترجم. وذلك لأنهما معا يعملان معا على ما نسميه بـ 'إيجاد النص'.

لنتساءل بسذاجة كم من الكتبانتقل من المخطوط إلى المطبوع؟ وكم من تلك الكتب المطبوعة التي حققت تحقيقا علميا يجعلها يسيرة الاستعمال، بسيطة الفهم والإدراك؟ وكم من تلك الإبداعات الشفوية انتقلتمن التداول الشفاهي إلى التوثيق والتقييد بشتى الصور الممكنة والضرورية للحافظ على قطاع واسع من الذاكرة الجماعية والتاريخية؟؟... لنغامر بالجواب عن هذه الأسئلة ومايتناسل منها بالذهاب إلى أن ما طبع قليل جدا، وأن ما حقق تحقيقا علميا أقل بقليل ممّا طبع. كما أن ما جمع من التراث الشفاهي، وبكل اللهجات، لايكاد يذكر، لأنه لم تبذلمجهودات في هذا الإطار.

إن مغامرتنا بالجواب ليست ركوبا لصيد خاطر، ولا تهورا يتأسس على رغبة دفينة في تعذيب الذات أو جلدها كما صار يقال. ليس هذا ولا ذاك، ولكنهاحقيقة مرة. ويكفي للتأكد من هذا الرجوع إلى قوائم المخطوطات العامة والخاصة، وإلى كل الفهارس والتراجم القديمة، ولنعاين كل ما طبع منها، وكل ما يزال منها مخطوطا،ولنعاين الفرق. ولنتأمل من جهة ثانية الكتب المحققة تحقيقا علميا، ولنقارنها بالكتب المحققة تحقيقا تجاريا، أو المقدمة بدون تحقيق، ولنلاحظ البون!

لا تخفى أهميةالنصوص العربية القديمة. ومنذ دخول المطبعة عرفت بعض الكتب طريقها إليها، ولكنها ما تزال على طريقتها الأولى (المطبوعات الحجرية)، وهي بدورها تحتاج إلى تحقيق، وإعادةطبع. وللتاريخ نشير هنا إلى أنّ المستشرقين والمستعربين لعبوا دورا كبيرا في عملية تحقيق النصوص العربية القديمة وفي التعريف بالعديد منها وأصحابها، سواء في الأدب أوالتاريخ أو الجغرافيا أو التصوف... وسار على منوالهم علماء حاذقون من العرب، وخصوصا في حقبة أولى من مصر (أحمد أمين _ طه حسين _ إبراهيم السقا _ عبد السلام هارون _ محمود شاكر)وساهموا بتحقيقاتهم العلمية في تقديم العديد من الأعمال العربية أو في كتب البلاغة أو التصوف لتيار معين أو في منطقة عربية محددة. هذه العطاءات المؤسسة على الغيرة علىالتراث العربي _ الإسلامي والعمل على خدمته ساهمت بدور كبير في تقديم العديد من النصوص التي أغرت الدارسين والباحثين بالاشتغال بها والبحث فيها بهدف تقديم رؤيات جديدةأو عصرية للتراث العربي.

لكن هذه المجهودات سرعان ما عرفت طريقها إلى التوقف، وظهر جيل آخر من المحققين حاول مواصلة العطاءات السابقة، لكنه ظل محدودا وقليلا، ويعودذلك إلى عاملين اثنين:

1_ هيمنة التمييز بين القديم والحديث في طريقة تعاملنا مع التراث أو الأدب، وعادة ما ينظر إلى المشتغل بالقديم بأنه لا يساير 'الحداثة؟'. ومعنىذلك أن جهود المحققين لم تكن تقدر بالشكل الملائم أمام سيادة رؤية تحقيرية لما هو تراثي.

2_ غياب استراتيجية محددة المعالم لدى الكليات والمؤسسات الثقافية لإخراجذخائر التراث العربي وجعلها في متناول القارىء والباحث، وفق خطة معينة، وقابلة للتطبيق في آماد محددة.

فهنـاك عـدد هائل مـن النصوص التـي لا تدخل في نطاق ما يعرب بـ'الثقافة العالمة' ظلت مغيبة ومهمشة، وللأسف الشديد، كثير منها ما يزال إما حبيس الخزانات العامة أو الخاصة، وأغلبها ما يزال موجودا في المكتبات الأوربية. ومن العجب أنمن يريد البحث الجاد والعلمي الرصين في التراث العربي، عليه أن يكون مقيما بإحدى العواصم الغربية، أو عليه أن يتوجه إليها حيث ذخائر من التراث العربي، لا يعرف عنهاالعربي شيئا. ومن الأعجب أن نطلع على جزء هام من التراث مترجما إلى الفرنسية مثلا، ولا نعثر عليه بالعربية.

ويمكننا أن نتساءل، لإبراز قيمة التحقيق وإيجاد النصوصودورها في تطوير معرفتنا بتاريخنا وثقافتنا، ماذا كانت ستكون عليه معرفتنا بتراثنا الشعري والأدبي والفكري لو لم تبذل مجهودات في تحقيق التراث منذ أواخر القرن الماضي؟وينسحب هذا السؤال بصورة خاصة على تراث مناطق من جغرافية العالم العربي التي ما تزال العديد من إنجازاتها غير محققة كما نجد بصدد اليمن وعمان والمغرب والأندلسوموريطانيا... هل تطورت معرفتنا بهذا التراث، وماذا يعرف عنه ذووه؟!... وإذا كان ما حاولنا تشخيصه ينسحب على التراث المكتوب فهو ينسحب أكثر على الثقافة الشعبية، وعلى مختلفالإنجازات غير اللفظية.

وأولى المهام المطروحة في سبيل وعي جديد بالأدب والتراث تكمن في الانطلاق من:

1_ عدم التمييز بين النص القديم والنص الحديث بطريقة معياريةترتهن إلى أن أحدهما أفضل وأوجب بالبحث من غيره.

2_ التسليم بأن ما نعرفه بصدد التراث العربي _ الإسلامي هو قليل جدا، كما أن معرفتنا بالتراث الشفاهي في مختلف المناطقالعربية، وبمختلف أشكال التعبير واللغات ما يزال ناقصا، وعندما نربط ذلك بما يتعلق بالأجيال الصاعدة نجد أن صلتهم به منعدمة، وإن كانت فهي ناقصة وسطحية.

3_ عدمالتمييز بين 'الايجابي' و 'السلبي' من التراث، فنذهب إلى أن هذا أحسن من هذا؟ وهذا الوعي ساد لفترة طويلة من الزمان، سواء لدى الإسلاميين أو الماديين وما يزال هناك منينتصر له، وينافح عنه.

إن معرفة هذا التراث، ومن كافة جوانبه، وفي مختلف إبداعاته وتياراته هو الرهين بتحصيل وعينا به وفهمنا له. أما الحكم عليه إيجابا وسلبا، فهورهين أولا بالتعرف عليه ودراسته، وليس بالمصادرة المسبقة والجازمة.

إن تجاوز هذا الوعي التقليدي هو الكفيل بتقديم رؤيتنا ووعينا بهذا التراث. وهو الكفيل أيضا بجعل:

1_ المحقق يضطلع بدوره الكامل، ولا سيما إذا تم إعداد هؤلاء المحققين إعدادا مناسبا.

2_ تجاوز العمل الفردي في التحقيق حتى لا يبقى نزوة خاصة بالمحقق.

3_ تشكيللجان للعمل الجماعي تقوم على الدراية والتخصص، وتضع لنفسها جدولا للعمل، ونصوصا محددة تقوم بترتيبها، وتضطلع بتحقيقها في آجال محددة.

ما قلناه عن المحقق ينسحب بدرجةكبرى على المترجم. إن عمله مهم جدا في جعلنا نتفاعل مع ثقافة الآخر إبداعا ونقدا وبحثا. تتقدم عملية الترجمة في المغرب، ويضطلع بها باحثون ودارسون قدموا نماذج مهمة منالتراث الأدبي النقدي الفرنسي خاصة والإنجليزي بدرجة ثانية. لكن المشاكل التي تحدثنا عنها بصدد التحقيق هي عينها التي نجدها في الترجمة. ذلك لأن الترجمة ما تزال 'هواية'مشتغلين بالأدب، وليست عمل متخصصين في مجالات محددة، يترجمون بناء على خطة محكمة تنطلق من تحديد القيمة التاريخية للنص المترجم، ومن ريادته في مجال اختصاص محدد.

إنالترجمة ما تزال إلى حد بعيد تنطلق من تعاطف المترجم مع النص، وتقديره الشخصي له. ولعل هذا العامل رغم حيويته يؤثر على العملية إذ يجعلها تنهض على أساس المزاج الخاصبالمترجم، وليس الضرورة التي تقتضي ذلك. ويبدو لنا ذلك بجلاء في كون الكتاب الواحد أو المقالة الواحدة تترجم من قبل العديدين في أقطار العالم العربي، في حين نجد دراساتأخرى أكثر راديكالية وتأسيسية لا يتم الانتباه إليها.

يسمح هذا التأطير والتنظيم بتوحيد ومناقشة مسألة مركزية نجمت عن عملية الترجمة وهي مشكلة 'توليد' المصطلح. وبدونتضافر الجهود وتوجيهها نحو العمل الجماعي لا الفردي، لا يمكن لمشكلة المصطلح إلا أن تتفاقم وهي بالمناسبة أم مشاكل الدرس الأدبي العربي الحديث، ولا سبيل إلى الخروج منهاإلا بتجاوز ذهنية المفاضلات الشخصية، والانتصار الذاتي والنرجسي للأعمال الخاصة، وعدم الاعتراف بمجهودات الآخرين، وإنكارها جملة وتفصيلا.

إن التواضع العلمي في هذاالمجال ضرورة ملحة لتجاوز التعصب الذاتي لما يقوم به هذا المترجم أو ذلك، وهو المدخل الملائم لإعطاء عملية الترجمة كامل أبعادها التواصلية والمعرفية والعلمية.

المصدر: الأدب والمؤسسة