مهیار الدیلمی: مکونات أساسیة فی شخصیته وعناصر مرکزیة فی رؤیته

عبد المجید زراقط

نسخه متنی
نمايش فراداده

مهيار الديلمي: مكوِّنات أساسيَّة في شخصيَّته وعناصر مركزيّة في رؤيته

د. عبد المجيد زراقط

... الشِّعر وَلَدٌ أبوه قلبٌ وأمُّه خاطرُ ...مهيار

1_ ملامح عامَّة ومسائل أساسيَّة

في تاريخ الأدب العربي أسماء شعراء أعلام لم يتح لنا التعرف إليهم جيداً. قد يكون في حياة هؤلاء، أو في الظروف التي عاشوها،من الملابسات، ما يفسر غياب تلك الأسماء عن دائرة الضوء. وقد نفهم، نحن اليوم، مثل تلك الملابسات، وإن كنا نعتقد أنها مسوغات غير كافية لطمس عطاءات مبدعين جديرينبالمعرفة والدراسة والتقدير.

قد نفهم تلك الملابسات التي تفسر، في إطارها التاريخي العام، ولكننا لا نرتضي أن تبقى تفعل فعلها، فمن حق مبدعي تراثنا أن يوفوا حقهم،وأن ينظر إليهم بمنظار لا يجحد لأهل الفضل فضلهم.

قد يكون اعتقادنا هذا أحد دوافعنا للتعرف إلى مهيار الديلمي الذي يدرك حقيقته ويعتب فيخاطب أهل زمانه وأهل كل زمان،كأنه يعتذر:

إذا كان عزِّي طارداً عنِّي الغنى فللّه فقرٌ لا يجاوره الذلّ!

عليّ اجتناءُ الفضل من شجراته ولا ذنب إن لم يجن حظَّاً لي الفضل

(3/67)

يبقى موقفمهيار الذي نلمسه، في بيتيه هذين، في الذهن طويلاً، حيث ترتسم صورة إنسان فاضل أبي يعاني مشكلات عالمه ويرى إليها بعمق، الأمر الذي يتيح له اتخاذ مواقف إنسانية وامتلاكمشروع يحقق الذات ويسهم في بناء المجتمع.

تبدو هذه الصورة التي أشرنا إلى ملامحها العامة واضحة في ثنايا ديوان الشاعر الكبير ذي الأجزاء الأربعة.

ونحن، وإن كنانريد تلمس هذه الصورة، في بعض تفصيلاتها، إلا أننا نرى أن نلمّ قبل ذلك برؤية مؤرخي الأدب لهذا الشاعر وأن نتعرف إلى المسائل التي يثيرونها، وذلك لأن هذا الصنيع يتيح لناأن نكون موضوعيين ومقدرين لأصحاب الفضل فضلهم في آن.

نقرأ، في كتب الأدب، ما يفيد أن 'الشاعر المشهور' أبا الحسن مهيار بن مرزويه، الكاتب الفارسي الدّيلمي، كانمجوسياً فأسلم سنة 394هـ على يد الشريف الرضي. كما أن هذه الكتب تصفه بقولها: ' كان الشاعراً جزل القول مقدماً على أهل وقته'، وله ديوان شعر كبير، وهو رقيق الحاشية طويلالنفس في قصائده... توفي سنة 428هـ.

في ما قرأناه تعريف موجز بالشاعر وشيء من ثناء، غير أن بعض مؤرخي الأدب يورد ما يثير مسائل على درجة من الأهمية جعلت بعضهم يقولمخاطباً الشاعر: ' يامهيار، انتقلت بإسلامك، في النار، من زاوية إلى زاوية' (1/هـ ـ ط).

قد نجد، في هذا القول، ما يلخص رؤية معينة إلى مهيار وشعره، كنا قد أشرنا إليها قبلقليل. وفي ما يلي، سوف نسعى إلى تبين مدة صحة هذه الرؤية، وذلك في إطار المسائل الكثيرة التي تثيرها قراءة ديوان هذا الشاعر قراءة منصفة.

2_ منابع الرؤية وتوجّهها

نلحظ، في قصائد مهيار، ميزة يتصف بها كل شعر يتخذ الصور وسيلة وفنية الأسلوب أداة. وقد رأى القدماء هذه الميزة وعبروا عنها بأسلوبهم، فقال أبو الحسن الباخرزي في دميةالقصر.

'هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر، وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصائده بيت يتحكم عليه بلوٍّ وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب وبمثلها يعتذرالمذنب عن الذنوب' (1/ هـ ).

نتجاوز عن سجع أبي الحسن، ونتوقف عندما نفهمه من هذا القول، وبخاصة تركيزه على ما تتصف به الألفاظ من صفات تجعلها شبيهة بالعذارى الجميلات،وما تتميز به القصائد من ميزات تجعلها تعبر عما في القلوب كأنها مصبوبة فيها.

ثمة سببان يجعلاننا لا نعجب من وصول مهيار إلى مثل هذه المرتبة من مراتب الإبداع في لغةليست لغته الأولى، يعود السبب الأول، في تقديرنا، إلى تتلمذ هذا الشاعر على الشريف الرضي، ويتمثل السبب الثاني في اطلاعه الوافي على الشعر والتاريخ العربيين، وفي فهمهلأسرار اللغة العربية وتعمقه في ذلك كله، وهذا ما نلمسه في الديوان من خلال إشارات دالة. فالملاحظ أنه كثيراً ما يضمن شعره إشارات إلى فحول الشعر العربي وإلى حوادث منالتاريخ العربي والإسلامي. ففي إحدى قصائده، على سبيل المثال، يرى أن الشعر لم ينج 'الغريب المقرح' و'مستنزل النعمان عن سطوته'، كما أن الردى لم يخضع لنسيب 'عروة' ولم يعطقيساً 'مناه' (1/ 194)، وفي قصيدة أخرى يشير إلى استشراء الهجاء في العصر الأموي، عندما يقول:

بهذا الحكم حين تحالباها نقائض حاز زبدتها جرير

(1/ 361)

كما أننا نلمس،في الديوان، إشارات إلى التاريخ العربي نذكر منها، على سبيل المثال:

ـ لئن كانت الزَّبّاءُ عزَّاً ومنعةً فأنت لها من غير جدعٍ قصيرها

(1/ 368)

يقرأ مهيارالتاريخ ويرقب الحاضر ويحياه، ترتسم حركة التاريخ أمامه وتنكشف علاقات الواقع أمام عينه الثالثة، وتتكون لديه تجربة عميقة يختلط فيها وعي العقل وحدس الشعر، ويعبر عنتجربته معادلاً شعرياً لها يحمل رؤية خاصة أشرنا إلى بعض منابعها وإلى توجهها العام، وسنحاول في ما يلي أن نلمس أهم عناصرها المكونة.

3_ معنى الحياة وقيمة الإنسان

يعتقد مهيار أن الحياة عبارة عن رحلة يحث فيها الإنسان الخطى مطارداً من الدهر، ويرى أن لهذه الرحلة نهاية حتمية هي الموت، ولعله يرى أنها رحلة باتجاه الموت، وأثناءالرحلة ينشب صراع مع الدهر، وطالما كان الأمر على هذه الصورة فلتكن هذه الرحلة في سبيل هدف أسمى، وليكن الإنسان فيها صانعاً مجده محققاً ذاته مهما كلف ذلك من مخاطر،ولنقرأ بعض ما يقوله في هذا الصدد:

باتت تخوّفني الأخطارَ مشفقةً ترى الإقامة حزماً والنوى غلطا

وهل رأيتِ الذي نجَّاه مجثمه بعقوة الدَّار، أو أرداه إن شحطا

وطول أيامنا، والدَّهرُ يطلبنا مراحلٌ تنتهي أعدادها وخطى

(2/167و168)

ويدعوه هذا الاعتقاد إلى تحديد غايته من الحياة، وجعل موضوع الصراع مع الدهر 'مرمى العز' وإلافأهلاً بالموت، وليس من مرتبة وسط، كما يقول:

... وقم بنا نطلبها عاليةً إما لمرمى العزِّ أو للمرمس

ويتخذ الصراع بعداً إنسانياً عاماً، فهو لا يصارع أياماًبعينها، وإنما يجالد 'الدهر' بما يعنيه من امتداد للزمان والمكان ومجرى الحياة فيهما.

وهذا الصراع الذي يخوضه الإنسان ليس مع الطبيعة وحدها، أو مع أحداث الحياة لآونةمعينة فحسب، وإنما مع الدهر في معناه العام، ينطلق من أن للإنسان جوهراً ينبغي أن يتحقق، وعلى كل إنسان أن يصنع مصيره ويجسد حقيقته وإلا فقد معناه وقيمته وغدا شيئاً آخر،ولنسمعه يعلن هذه الحقيقة متخذاً السيف والليث مثالين على ذلك:

فالسَّيف ما لم يمض قُدُماً زبرةٌ والليثُ كلبُ البيت ما لم يفرس

(2/138)

كما أن الحياة تفقدمعناها إن لم يحقق الإنسان ذاته ويصنع مشروعه:

فما الحياة، وإن طالت، بصالحةٍ لمن يُعَدُّ متاعاً بائراً سقطا

ما خطَّة العجز والأرزاق معرضة إلا لمن نام تحتالذلّ أو قنطا

(2/ 166و167)

ويدرك مهيار أن تحقيق الذات وصنع مجدها يتطلبان صراعاً مع الدهر يقتضي مخاتلته واقتناص الفرص منه، فنسمعه يقول:

لا تفرِّط جلوساًبانتظار غدٍ خاتل يد الدَّهر وانصل غيله أبدا

4_ في دروب الحياة: وجهٌ يوقد الهمُّ تحته

ويكون صراع مهيار مع الدهر صراعاً مريراً، تتكون لديه آمال ويسعى جاداً إلىتحقيقها ظاناً أن إخوانه يساعدونه، ثم يذهب هذا كله هباءً، وتتكرر الخيبة، فيعبر مهيار عن هذا الصراع ونتائجه:

كم يوعد الدَّهر آمالي ويخلفها أخاً أسَرُّ به،والدَّهر عرقوب

(1/ 25)

وتتكرر ذنوب الأيام، فيعجب ويرجو بحسرة أن يحيا أياماً تعدُّ ذنوبها:

يعدّدُ أقوام ذنوب زمانهم ومن لي بأيَّامٍ تُعدُّ ذنوبها!؟

وليست الذنوب ذنوب الأيام فحسب، وإنما هي ذنوب الناس أيضاً، الذين غدوا صخوراً لا تلين. وقد نلتفت إلى نظرة مهيار التي رأت تحول الإنسان الذي فقد جوهره أو إنسانيته، أنهلم يعد إنساناً وإنما صخرة:

يقولون: دار الناس ترطب أكفّهم ومن ذا يداري صخرة ويذيبها

والحق أن مهيار ما كان غافلاً عن حقيقة الزمان والناس وطبيعة العلاقاتالاجتماعية، بل كان يدرك هذا كله تما الإدراك:

وما أطعمتني أوجهٌ بابتسامها فيؤيسني مما لديها قطوبها

وكان يدرك أيضاً سبل الوصول ووسائل نيل المطالب في ظلالمجتمع الذي يعيش فيه:

وفي الأرض أوراق الغنى لو جذبتها لرف على أيدي النَّوال رطيبها

ولكن هذه السبل ليست سبله، كما أنه لا يرضى اتباع تلك الوسائل. أن في المرعىلأوراقاً خضراء يانعة ولعشباً طرياً ولكلأً خصيبا شهياً، ولكن ما نفع هذا كله إن كانت الإبل الجائعة تأنف من هذا كله وتمجه. إن مهيار الديلمي يرفض سبلاً تحقق الذاتويرتضى سبلاً أخرى، وشتان ما بين دربي الوصول إلى 'مرمى العز' ولنسمعه يشير إلى هذا في صورة حسية مقتلعة من الواقع كأنها تضع الحقيقة أمامك مصورة فتراها وتلمسها:

إذاإبلي أمست تماطل رعيها فهل ينفعِّني من بلادٍ خصيبها

يسعى مهيار إلى المجد، ويجدُّ في سبيل مصارعاً الدهر، ويعي سبل الوصول... ولكنه بدلاً من أن يمتطي مطايا الركبيشكو الزمان والناس، فلم الشكوى؟ ولماذا لا يحقق ما يصبو إليه وبخاصة أنه يرى الحياة القانعة من دون قيمة؟

ليس من شك في أن هذا السؤال الذي تثيره قراءتنا لتجربة مهيارمع الدهر سؤال كبير، وهو لا يخص مهيار وحده، وإنما يعني الإنسان في كل زمان ومكان؛ إذ أنه يثير مشكلة الإنسان وسلوكه في هذه الحياة سواء أكان ذلك من حيث طبيعة هذا السلوكأم من حيث أهدافه وسبل تحقيق هذه الأهداف وتعارض ذلك أو توافقه مع التوجه العام وحقوق الآخرين.

يسمي مهيار ما يصل إليه الناس من مناصب وغنى 'حظوظاً'، وهو يعرف الطرقإلى هذه الحظوظ، ولكنه يرفض أن يسلكها، والأمثلة التي تؤكد هذا كثيرة نذكر منها هذا البيت:

ـ وعابوا على هجر المطامع عفتي وللهجر خيرٌ حين يزري بك الوصل

(3/ 67)

ويبدو مهيار، في موقفه هذا، منسجماً مع نفسه، فيناقشه مع فتاته وفق مبادئ أساسية ينطلق منها في سلوكه. تلومه فتاته فيجيب:

وقد كنتُ ذا مالٍ مع الليل سارحٍ عليّ، لو أنالمالَ بالفضلِ يُكسب

ولكنَّه بالعرض يشرى خياره وينمى على قدر السّؤال ويخصب

وما ماء وجهي لي إذا ما تركته يُراقُ على ذلِّ الطّلاب وينضب

(1/ 52)

في ماقرأناه كشف لواقع ورفض له وأنفة عن الانخراط في جموعه وعن الوقوع في شباكه. ويندرج هذا الموقف في إطار رؤية شاملة تنظر إلى الإنسان بوصفه سيد المخلوقات، وقد خلق حراً يجهدلتحقيق غاية كبرى، وهذا كله ليس ملكه وليس من حقه أن يفرط فيه ويريقه لي غير ما خلق له. ينطلق مهيار إذا في دروب المجد من مفهوم سر الخلق ومن أن الله كرم الإنسان وعلىالإنسان أن يحافظ على ما أودعه الله فيه، وانطلاقاً من هذا المفهوم يبقى ظمآناً، يعرف دروب الري، ويرفض سلوكها لأن المذلة فيها والمذلة أشد حرارة وأقسى. ولنقرأ هذاالبيت، ولنلاحظ الصورة فيه والتلاعب بالأضداد، وفي هذا كله إضاءات وإيحاءات تسكن الحالة في القلب حارة الطلوع من تنور المعاناة:

أظمى، وريِّي في السؤال، ولا يفيحرُّ المذلَّة لي ببرد الماء

ويدرك مهيار نتائج موقفه، ويلمس الواقع الذي توصله إليه خياراته، ولكنه لا يأبه لهذا، إذ أن له مقاييس تختلف عن مقاييس الآخرين،فليس مهما ما يجري في الخارج، فالمهم ما يجري في داخل الذات الإنسانية. المهم أن يبقى الجوهر صافياً وأن يبقى الهم دافعاً ومؤرقاً:

ـ وإن هوى بي أو حطني حمق الـ حظِّ،فهمِّي يسمو ويرتفع

والواضح أن مهيار يعي أن معركته المريرة مع الدهر طويلة، وأن سبله شاقة، فيختار الصبر الذي يكشف ويحرض ويدل على الصواب:

ـ لله قلبٌحسنٌ صبره ما سئل الذلّة إلا أبى

(1/4)

ـ شفى الله نفساً لا تذل لمطلب وصبراً متى يسمع به الدَّهر يعجب

وصدراً إذا ضاقت صدور رحيبةٌ لخطبٍ تلقاه بأهل ومرحب

ولا يكون صبر مهيار العجيب مسالمة للدهر وركوناً لأحداثه وناسه، وإنما هو نوع من تعرف 'جريح زمانه' إلى سبل مداواة قروحه والانتصار عليها:

سالمت دهري قبلأعلم أنه فيمن يهادنه السَّلامة طامع

فالآن أصميه بسهمٍ ماله في قلبه إلا المنيَّة نازع

وتقتضي طبيعة هذا الصراع أن يتحمل الإنسان كل ما يتعرض له، فيسغب والثرىعمم ويظمى والغيث مسكوب:

ـ إني لأسغب زهداً والثرى عمم نبتاً، وأظما وغرب الغيث مسكوبُ

وإن يلم في ذلك يجيب منكراً كل ما يعرضونه من إغراءات ليست مكاسب حقيقية ولايريد أن يوهم نفسه بها، وإن لم يكن سواها فالجوع أفضل من الشبع في هذه الحالة، إنه خيار ينطلق من رؤية عميقة وشاملة للحياة والعالم وسبل تحقيق الذات:

أأشرى بعرضيرفدقوم معوضة وأُشعر نفسي أن ذلك مكسبُ

فاقعد إذا السعيُ جرَّ مهضمَةً وجُع إذا ما أهانك الشبع

ويكون الصراع مع الدهر أشد مرارة وقسوة عندما يقف الإنسانوحيداً في دروب الحياة يحس وحشة الغربة في غياب الصديق والحبيب.

يفهم مهيار الصداقة أخوة وشد أزر وقت الشدة:

قلبي للاخوان شَطُّوا أو دنوا وللهوى ساعفَ دهر أو نبا

ولكن هؤلاء الأصحاب يكونون وقت الشدة كاليد الشليلة:

وصاحبٍ كاليد الشليلة لا يدفع بها شيئاً فيندفع

يتلونون ويتغيرون بتغير الأحوال، أحوالهم وأحوالصديقهم.

ـ كم أخٍ غيَّره يومه الـ مقبل عن أمسٍ به الذاهب

كنت وإياه زمان الصدى كالماء والقهوة للشارب

(1/126)

وفرق كبير بين أن يكون حمامة حيناً وعقرباًحيناً آخر:

ـ يطيّر لي حمامَةً فإن رأى خصاصةً دبّ ورائي عقربا

ويبقى ودوداً مخلصاً يحرص على الصديق ويتألفه شريطة ألا يؤدي هذا إلى الذل، إذ أن هناك حدوداً ينبغيألا تتجاوزها العلاقة بين الطرفين، وإن تجاوزتها يكن لمهيار موقف واضح؛ فهو يختار البعد الأجمل:

إذا لم يقرِّب منك إلاَّ التذلّل وعزّ فؤادٌ فهو للبعد أجمل

سلوناك لما كنت أوّل غادرٍ وما راعنا في الحبِّ انَّك أوَّلُ

وقد يختار الهجر إن اقتضى الأمر ذلك، ويدافع عن موقفه قائلاً:

أأنت على هجر اللئام معنِّفينعم أنا ثمَّ فارض عنِّي أو اغضب

وتوصله هذه التجربة المريرة مع الآخرين والأصدقاء منهم بخاصة إلى القول:

طهِّر خلالك من خلٍّ تعاب به واسم وحيداً فما في الناسمصحوب

نلمس، في هذا كله، شخصية تكاملت عناصرها ورؤية شاملة عميقة نفاذة تبلورت: منطلقات وأدوات ومفاهيم وتوجهاً، ونلمس أيضاً حرصاً على نقاوة هذه الشخصية ورؤيتهاكأنها جوهر كريم ينبغي أن يسلم فلا يعاب ولا يخدش، ولنسمعه يخاطب من يطلب منه تغيير سلوكه غير المجدي في هذه الحياة، بعد أن كبر ولم يحرز مالاً أو منصباً:

قالوا: ارتدعإنه البياض وقد كنتُ بحكم السّواد أرتدع

لم ينقل الشيبُ لي طباعاً ولا دنّسني قبل صقله طبع

ثم يؤكد حقيقة موقفه وطبيعته فيقول:

يا ناقد الناس كشفاً عن جواهرهامتى تَغَيَّر عن أعراقه الذَّهب

وهو يعرف تمام المعرفة الأسباب التي أوصلته إلى ما هو عليه، فيذكر أسباب إخفاقه في تجربته مع الزمان والناس قائلاً:

أذنبي الحبُّوالإخلاص عندكم فإن ذنبي إلى أيَّامي الأدب

5_ الانتماء والهويَّة والرُّؤية المتميِّزة إلى العالم

وبديهي أن من يمتلك مثل هذه الرؤية ويتخذ مثل هذه المواقف أنيرى إلى الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً تتحدد قيمته بما يملكه من إمكانات ومؤهلات وبما يطمح إلى تحقيقه وبسبله التي يتبعها لتحقيق ذاته وتجسيد مشروعه... بديهي أن ينظرإلى الجوهر الإنساني الذي يبقى صافياً يشع ويضيء في دروب الدنيا مثل الذهب، دونما أيّ اهتمام بالمؤثرات الخارجية كالعرق والنسب والإقليم، ولكن هذه الرؤية التي تقيمالإنسان باعتباره فرداً يملك إمكانات وطموحات وسبلاً ومفاهيم كانت تصطدم برؤية المجتمع الذي كان يعيش فيه مهيار إلى موضوع. إن لهذا المجتمع مقاييسه الأخرى في التقييم،وقد اصطدم مهيار بهذه المقاييس في مجالات من الحياة عديدة، كانت أقساها تجربته في علاقته بالجنس الآخر، نعني تجربة حبه لفتاة كانت تختلف عنه نسباً.

كانت فتاة مهيارجميلة، صعبة القياد، ذات دلال يأسر، تبخل ولا تفي بالوعود، كأي حبيبة عرفها الشعر العربي من قبل، ولكن مهيار يوظف بعض المفارقات في لعبة فنية، فهي نحيلة وقومها عرفوابالجود، ويريد من قومها الذين عرفوا بحفظ الجوار أيضاً أن يؤنسوا فؤاده الذي التجأ إليهم ويردوه إليه، وفي هذا إشارة من طرف خفي إلى موقف قومها منه، وكأنه يحثهم في إطارلعبة فنية على إنصافه وهم الذين اتصفوا بصفات يريد لها الآن أن تفعل فعلها، ولنقرأ بعض ما يقوله مهيار في هذا الصدد:

... من العربيَّات شمسٌ تعود بأحرار فارس مثليعبيدا

إذا قومها افتخروا بالوفا ء والجود ظلَّت ترى البُخل جودا

ولو أنهم يحفظون الجوا ر،ردُّوا عليّ فؤادي طريدا

تعجب به الفتاة في نادي قومها،ولكنها تسأل عن نسبه، يسرُّها ما تعلمه عنه وعن أخلاقه غير أنها تريد أن تعلم ما حسبه:

أعجبت بي بين نادي قومها 'أم سعد' فمضت تسأل بي

سرَّها ما علمت من خلقي فأرادتعلمها ما حسبي

ويثير السؤال عن الحسب، في مثل حالة مهيار، قضية كبرى كثر الحديث عنها، وهي قضية السيد والمولى، وتثيره أسئلتها فيفخر بنسبه ومجد قومه القديم فيقول:

لا تخالي نسباً يخفضني أنا مَنْ يرضيك عند النَّسب

قَوْمِيَ استولوا على الدهر فتىً ومشوا فوق رؤوس الحقب

مؤكداً أن هذا الانتماء القديم لا يخفضه، ولنلاحظاختياره لهذه الكلمة التي تركز على المشكلة، فكأنه يقول إن انتماءه إلى فارس لا ينقص من قدره فقومه قديماً فعلوا وفعلوا... ثم يعلن هويته الحقيقية وانتماءه:

قد قبستالمجد من خير أبٍ وقبست الدين من خير نبي

ويكون بهذا قد جمع المجد من أطرافه:

وضممت الفخر من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب

تعدّ قضيَّة الانتماء، وقضيةهوية الإنسان، أهم قضايا الفرد في كل عصر، وقد كانت على قدر من الأهمية كبير في تلك الحقبة من حقب التاريخ العربي ـ الإسلامي؛ وذلك لاشتداد الصراع بين العرب وعناصر ذلكالمجتمع، هذا الصراع الذي اتخذ أشكالاً عديدة؛ سياسية واجتماعية وثقافية، ولعلّ من أهمّ هذه الأشكال ما عرف باسم 'الشعوبيّة'.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كاناعتداد مهيار بنسبه الفارسيّ يندرج في إطار الحركة المناهضة للعرب أو أنه كان موقفاً أملته معطيات مرحلة تاريخية كان لمهيار رؤيته المتميزة لقضاياها ومسائلها؟ وهل كانتهذه الرؤية المتميزة منبثقة من رؤية شاملة للكون والعالم؟ وما هي طبيعة هذه الرؤية الشاملة؟

ليس من شك في أن مهيار يذكر ماضي قومه ومجدهم، ويذكر بذلك ويعلنه، ففضلاًعما أثبتناه له قبل قليل نثبت هنا مثالاً آخر، وهو قوله:

... من بَهَاليلَ أنبتوا ريشة الأر ض، وربّوا عظامها والجلدا

... بين 'جمٍّ'.. و'سابور' أقيا ل، يعدّون مولدالدّهر عدّا

والملفت أن ذكر مهيار لأمجاد قومه والتذكير به يندرج في إطار التأكيد على أن نسبه هذا لا يخفضه كما مر بنا آنفاً، كأنه يرد على من ينتقصه ويزري به بسبب منهذا النسب. والملفت أيضاً في موقف مهيار أنه يتجاوز هذا التذكير الدفاعي سريعاً لينظر إلى التاريخ: الفارسي والعربي والإسلامي أيضاً نظرة تقويمية فيشيد بما يراه جيداًويتبناه وفق فهمه لأحداث التاريخ ومجرى الحياة. إنه يذكر للفرس فضائلهم، ومنها، على سبيل المثال، العدل وحسن التنظيم، فيقول:

سِيَرُ العدل في مآثرهم تُر وَى وحسنالتدبير عنهم يُؤدّى

(1/270)

وقد مر بنا إعجابه بالعديد من فضائل العرب كالوفاء وحسن الجوار ورفض الظلم والإباء، ونورد هنا، على سبيل المثال، تقديره مشاعر العربالإنسانية وصدق حنينهم فيقول:

وحننتُ نحوكِ حنةً عربيَّةً عِيْبَت، وتُعذرُ ناقَةٌ إن حَنَّتِ

(1/154)

[ ويبدو مهيار، في موقفه هذا، إنساناً متجرداً عن الأهواءالشعوبية، يطل على العالم وينظر إلى قضاياه ومسائله ويتأملها ويعلن ما يراه حقاً ومصيباً وفق أسس تحدد انتماءه الحقيقي.] فلنحاول أن نتعرف إلى هذه الأسس مثبتين بعضالأمثلة الدالة.

يقرأ التاريخ الفارسي، ويتوقف عند صفحات منه ينتصر فيها الحق ويرغم المظلوم أنف الظالم، فمن جدوده:

من فرس الباطل بالحقّ ومن أرغم للمظلوم أنفالظالم

ويقرأ التاريخ العربي، ويشيد بفضائل فيه مشرقة، ولكنه ينخرط كلياً في بهاء الفجر الذي أشرق وأبان نهج السبيل وحدد دروب العيش:

ـ ما برحت مظلمة دنياكم حتىأضاء كوكب في هاشم

ـ أبان لنا لله نهج السبيل ببعثته وأرانا الغيوبا

(1/13)

هنا، تتحدد هوية مهيار الحقيقية، إنه ينتمي إلى هؤلاء الذين فرج الله بهم الضيق فكشفوااللبس، وحملوا الناس على الصراط وحطَّموا 'ودَّ' و'هبل' وأيقظوا للرشد أبصار القلوب. وتتجلى هوية مهيار في موقف لا يدع مجالاً للشك، إذ أنه ينتمي للفتية الذين داسوا تيجانملوك قومه وحطموا عروشهم ولعبوا بجماجمهم كي يبنوا للإنسان عالماً جديداً أبان الله نهجه ببعثه خاتم الأنبياء والرسل، ولنقرأ بعض ما يقول في هذا الصدد:

ديست منالشّرك بهم جماجم ترابها من عزّه لم يُدس

ساروا بتيجان الملوك عندنا معقودةً على الرِّماح الدعَّس

(2/137)

إن هؤلاء الذين داسوا جماجم ملوك قومه وحطموا تيجانهم،كما حطموا 'ود' و'هبل' هم الذين فكوا أسره وأعطوه قيمته الإنسانية، وهم قومه وإليهم ينتمي:

وفُكَّ من الشرك أسرك وكا ن غُلاَّ على منكبيّ مُقفلا

(3/52)

إن أسس رؤيةمهيار هي مبادئ الإسلام، ولهذا لم تعد التيجان 'الكسرويّة' تعنيه إن ديست، كما أنه صار يطمح إلى تحقيق نظام إسلامي ويريد ذلك، رافضاً النظام 'الكسروي'، و'الأردشيري' وكلنظام يقوم على شاكلته. في هذا الإطار من الرؤية ينبغي أن ننظر إلى مواقف مهيار، ويحق لنا أن نسأل كل مجادل: أنطلب من رجل يرفض أنظمة قومه لأنها ذات طبيعة معينة أن يقبلأنظمة أخرى ذات طبيعة مشابهة لقوم آخرين؟ ثم نسأل: أيحقُّ لنا إن رأيناه يرفض مثل هذه الأنظمة أن نعده مناهضاً للعرب وشعوبياً؟

يقول مهيار، بعد مقدمة وجدانية وعر ضتاريخي، متحدثاً عن طبيعة الحكم في الإسلام منتهياً إلى رفض نظام معين لأنه ذو طبيعة لا تنتمي إلى الإسلام وإنما إلى مبادئ ومفاهيم مغايرة سماها 'أردشيرية' وكسروية'.

ـ وقلّبها 'أردشيرية' فخرَّق فيها بما أشعلا

(راجع: 3/48_52)

ـ وردّها عجماً 'كسروية' يضاع فيها الدين حفظاً للدول

(راجع: 3/109_116)

6_ نظام الحكم

إن لمهيار هنامنطلقاته ومقاييسه التي تختلف عن منطلقات الآخرين ومقاييسهم، فهو يجد هذا الحكم ذا الطبيعة الخاصة شبيهاً بالنظام 'الكسروي'. وهو يرفضهما معاً، داعياً إلى نظام إسلاميعادل تسود فيه 'الأسوة'، معلناً انتماءه للساعين إلى إقامة مثل هذا النظام، مهما كلفه هذا الأمر من مشاق ومتاعب وتضحيات، فيقول مخاطباً الإمام العادل:

ثم قسمتبالسَّواء بينهم فعظم الخطب عليهم وثقل

... عاديت فيك الناس لم أحفل بهم حتى رموني عن يدٍ إلاّ الأمل

ولو يشقّ البحر ثمَّ يلتقي فلْقاهُ فوقي في هواك لم أُبل

ويعود مهيار، في موقفه هذا، إلى مبادئ الإسلام فيختار شعاراً له: 'الله أعلى في الورى': ... فيقول:

يستشعرون 'الله أعلى في الورى' وغيرهم شعاره 'أعل هبل'

مشيراً إلىقول أبي سفيان، في يوم أحد: 'أعل هبل' الذي سمعه النبي، فأمر عمر بن الخطاب بأن يجيبه فيقول: 'الله أعلى وأجل' (3/111).

7_القرابة الحقيقية

ويبدو أن انتماء مهيار الصادقللإسلام هو الذي يحدد مفاهيمه ومواقفه ويوجه سلوكه.

إن مفهوم مهيار للقرابة واضح، وهو يتجلى في العديد من قصائده، ولعلنا لا نجانب الصواب عندما نقول إنه ينطلق ممايفيده هذا البيت:

وودّ 'سلمان' أعطاه قرابته يوماً، ولم تغنِ قُربى عن 'أبي لهب'

(1/21)

ليؤكِّد:

ـ أحببتكم، وبعدٌ بين دوحتنا فكنت بالحبّ أيّ مقترب

ـ فماسرَّني في الحق أني مع العدا ولا عاب أني في المحال على أبي

(1/21)

وهكذا يبدو واضحاً أن مهيار بن مرزويه الديلمي تخلى عن انتماءاته العرقية والوطنية والإقليميةواختار هوية له تتمثل في الإسلام، سالكاً في الحياة وفق الطرق التي تحددها، ناظراً إلى الدنيا بمنظارها راجياً من الله أن يثيبه على ذلك:

وإن أكُ من 'كسرى' وأنت لغيرهفإني في حبِّ 'الوصي' نسيب

ومهما يُثِبْكَ الشعر شكراً مخلداً عليها، فإن الله قبل يثيب

(راجع: 1/43و44؛4/202)

8_ مسألة خلافيَّة

وفي تفصيل لقضية الانتماء التيوصلنا فيها إلى إجابة نعتقدها مصيبة تلفتنا مسألة تعلنها عبارة 'حب الوصي نسيب'، إذ أن هذه العبارة تشير إلى أن مهيار كان يقف إلى جانب اتجاه في الإسلام كان يرى أنه المحق؛وذلك انطلاقاً من رؤيته الشاملة إلى العالم، وبخاصة في ما يتعلق بطبيعة الحكم وبنية النظام وتنظيم العلاقات الإنسانية...

إنَّ تطرقنا إلى هذه المسألة يندرج في إطارمقاربتنا التي قلنا إنها ستكون مباشرة، كما أنه يبدو ضرورياً لفهم موقف قيل لمهيار بسببه إنه انتقل في النار من زاوية إلى زاوية. وإن يكن في تطرقنا إثارة لمسألة خلافية فيوقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى الوحدة، فإن أغفالنا إياها لا يلغي الخلاف. وقد يكون في النظر الموضوعي الهادئ قدر كبير من الجدوى على صعيد فهم طبيعة الخلاف وحدوده، الأمرالذي يلغي تأثيره على المستويات الأخرى.

يقرأ مهيار التاريخ الإسلامي على ضوء فهمه لمبادئ الإسلام المأخوذة من مصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة، ويتخذ موقفاً،مستنداً إلى حجج يبسطها في عدة قصائد طويلة يمدح بها أهل البيت. وحججه تتمثل في ثلاث: حجة نصِّيَّة تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى للإمام علي عليه السلام من بعدهبالخلافة، وحجة عقلية جدلية تناقش أسس قريش في اختيارها من اختارت للخلافة، وحجَّة مبدئية تتعلّق بالكفاءة وطبيعة النظام ومفهوم الحكم من حيث علاقته بالله وبعبيده.وهذا كله سوف نلم به من خلال عرضنا لنموذجين من قصائد مهيار عرضاً موجزاً، على سبيل المثال.

يبدأ مهيار قصيدته، على عادته، بمقدِّمة وجدانيَّة تمهِّد للموضوع وترسمإطاره وتكون مناخه، ثم يذكر مناقب أهل البيت ويجادل قريشاً في مواقفها طالباً منها أن تقرّ بنعمة النبي صلى الله عليه وسلم المرشد وأن تتبع سنته:

... وقل: ما لكم بعد طولالضلا ل لم تشكروا نعمة المرشد

أتاكم على فترة فاستقام بكم جائرين عن المقصد

وولّى حميداً إلى ربّه ومن سنَّ ما سَنّهُ يُحمد

وقد جعل الأمر من بعده لحيدربالخبر المسند

وسمّاه مولىّ بإقرار من لو اتبع الحق لم يجحد

(1/298و299)

ثم يناقش قريشاً ادعاءها أن ذلك كان عن إجماع المسلمين، وينتهي إلى القول إنه لم يكنإجماعاً. ثم يشيد بموقف الإمام عليه السلام الذي صبر من أجل انتصار الإسلام، ولكن ما حدث في ما بعد كان كما يرى:

أرى الدّين من بعد يوم الحسين عليلاً له الموت بالمرصد

وينتهي به هذا العرض وهذا النقاش إلى إعلان موقف طالب في مطلع القصيدة أن يتخذ، وهو الإيمان بالحق والإقرار بالفضل وتأييد ذلك:

وفيكم ودادي وديني معاً وإن كان فيفارس مولدي

خصمت ضلالي بكم فاهتديت ولولاكم لم أكن اهتدي

وجردتموني وقد كنت في يد الشرك كالصارم المُغمد

ولا زال شعري من نائحٍ ينقّل فيكم إلى منشد

ومافاتني نصركم باللسان إذا فاتني نصركم باليد

وفي قصيدة ثانية، يبدأ مهيار بمقدمة وجدانية، نحس فيها أسىً وحزناً عميقين ويسيطر عليها الإحساس بحق مضاع، ينتقل بعدهاإلى مناقشة موضوعه، فيعرض للواقع:

هذي قضايا رسول الله مهملةٌ عذراً، وشمل رسول الله منصدع

... وآله، وهم آل الإله، وهم رعاة ذا الدّين ضيموا بعده وُرعوا

ميثاقه فيهم مُلقى، وأمّته مع من بغاهم وعاداهم له شيع

(2/181ـ184)

ثم يعود إلى التاريخ فيعرض أحداثه، ويتوقف أزاء بيعة 'يوم الغدير' التي ضاعت:

ما بين ناشر حبلأمس أبرمه تُعدُّ مسنونةً من بعده البدع

ويتجاوز الكثير من الأمور:

فقلت: كانت هنات لست أذكرها يجزي بها الله أقواماً بما صنعوا

بغية إبلاغ رجال موقفاًسياسياً يناقش أسسهم في اختيار الخليفة:

بأي حقٍّ بنوه يتبعونكم وفخركم أنكم صحبٌ له وتبع

... وفيم صيّرتم الإجماع حجّتكم والناس ما اتفقوا طوعاً ولا اجتمعوا

ويستطرد موضحاً حججه. وينتهي إلى إكبار الإمام علي وبيان ما يتميّز به من صفات وكفاءة.

صبرت تحفظ أمر الله ما اطرحوا ذبّاً عن الدّين فاستيقظت إذ هجعوا

وكان، فيمكان آخر، قد أشار إلى نهج الإمام في الحكم، ومن إشاراته:

ـ ثم قسمت بالسواء بينهم فعظم الخطب عليهم وثقل

ـ ولما امتطاها عليّ، أخو ك، رَدّ إلى الحق فاستثقلا

(راجع: 3/48ـ52)

ويؤكد تأييده للحق:

جاهدت فيك بقومي يوم تختصم الـ أبطال، إذ فات سيفي يوم تمتصع هذا الحق الذي يمثل دنياه وآخرته:

هواكم هو الدنيا وأعلم أنهيبيِّض يوم الحشر سود الصحائف

(2/262)

قيل في مواقف مهيار الكثير، وقد أشرنا إلى بعض ما قيل، وكان مهيار يعرف ما يقال عنه، فكان يبتسم مُشْفِقاً على القائلين، ثم لايلبث أن يخاطبهم، محدِّداً أسباب غيظهم ودوافعه، طالباً من الله أن يكون الحكم فيلعن المداجي والكاذب ويعذِّبهما:

... من معشر لما مدحتك غظتهم فتناوشوا عرضي وشانواشانيا

لما رأوا ما غاظ مني شنَّعوا حاشاك أني قلت فيك مداجيا

والله ينصب لعنه وعذابه من قال فيك ومن يقول مرائيا

(4/202)

9_ همّ الشعر

ويتضح، من خلال هذاكله، أن مهيار لا يناهض العرب، كما أنه لا يناصر الفرس، وإنما يتخذ موقف تنبثق من رؤية إنسانية للعالم والحياة واضحة وشاملة وعميقة، وترتكز رؤيته على إيمان عميق بمبادئالإسلام الذي فك أسره وهداه وجعله إنساناً ذا قيمة ومعنى في هذا الوجود. وكان يريد لشعره أن يعادل هذه الرؤية فنياً وينقلها للآخرين، كما بدا لنا من تأكيده على عزمه نصرةمبادئه بشعره ولسانه.

وهذا يعني أن مهيار كان يرى أن للشعر تأثيراً في القلوب كبيراً قد يفوق تأثير السيوف القواطع:

إن اللِّسان لوصَّالٌ إلى طرقٍ في القلب لاتهتديها الذُّبَّلُ الشُّرَّعُ

ويتضح، من خلال قراءة نماذج من قصائد مهيار، أنه يملك مفهوماً للشعر يرى إليه بوصفه التعبير الصادق الجميل الذي يجسد الرؤية وينقلهامؤثراً أشدَّ تأثير. وانطلاقاً من هذا الفهم للشعر كان مهيار يُعنى بشعره عنايةً فائقة، فيقول موجباً العناية به محدداً مصدره:

واحنِ عليه فإنّه ولدٌ أبوه قلبٌوأمُّه خاطر

(2/95)

وإن يكن الشعر في مثل هذا الموقع، كانت العناية به واجبة، وقد يرقى واجب صون الشعر وعدم امتهانه إلى مستوى الواجب الديني:

والشعر صنه، فالشعريحتسب اللـ ه، إذا لم يُصن على الشاعر

لا تمتهنه في كلِّ سوقٍ فقد تربح حيناً وبيعك الخاسر

(2/95)

وينسجم مهيار مع فهمه هذا فيصون شعره عن الهجاء والمديح الكاذب،ويحصر أغراض شعره في شؤون حياته الخاصة من تهنئة وعتاب وشكر ووصف، مقدماً لهذا كله بمقدمات وجدانية، وهو إن مدح أحداً فلا يقف على الأبواب ويمدح بما يراه مناقب تستأهلالمديح، فيقول، على سبيل المثال، في إحدى قصائده المدحيّة:

ينصح للهِ والخلافة لا يرفع في شهوة ولا يضع

وزارة من أتيتها عاشت السـّ نَّة وماتت البدع

تشهد ليأنها اليقين قضا يا الله والمسلمون والجمع

(2/174)

وقد جعله هذا الفهم للشعر: مصدراً ووظيفة وتأثيراً يبتعد عن التقليد وبخاصة عن المقدمات الطلليّة فنسمعه يقولفيها:

أجدك بعد أن ضمّ الكثيب هل الأطلال إن سُئلت تجيب

(1/65)

ويبدو مهيار، في قوله هذا، كأنه يحثّ على الانصراف إلى موضوعات الحياة وقضايا الإنسان.

إناللافت في شعر مهيار، هو فنية هذا الشعر المتمثلة في الصور وفي فنية الأسلوب وأناقته. نلمس هذه الفنية التي تبعد عن الصناعة البديعية وإن كانت تفيد منها، صانعة ما يسمى بـ'سحر الألفاظ' المتكون من تضادها وتآلفها وتكرارها وتناغمها وتكوينها موسيقى داخلية وتلحظ في الكثير من المقاطع والأبيات.

والواقع أن الأمثلة على ما نذهب إليه كثيرةجداً، ونكتفي، هنا، على سبيل التمثيل فقط، إضافة إلى معظم ما اثْبَتْنَاهُ استشهاداً في ثنايا قراءتنا هذه، بذكر بعض الأبيات المشيرة إلى ما نذهب إليه، ولنقرأ هذاالبيت:

أما ترون كيف نام وحمى عيني الكرى، فلم ينم ظبيُ الحمى!؟

(1/5)

نتوقف أمام هذه الألف التي تتكرر كأنها نفس طويل يتأوه، أو كأنها امتداد مدى يرتسم في الأفق،بانتظار إطلالة، ويقوم الانتظار قلقاً ومتقطعاً، فلْنَرَكي نحس بذلك إلى هذه المحطات التي نتوقف عندها في هذا المدى الممتد بعيداً: '... حمى'، 'ماء الكرى'، '... الحمى'، إنهامحطات نرقب فيها إطلالة هذا الظبي في انتظار يطول فيه السّهر والتأوّه والتطلّع إلى البعيد...

ولنقرأ هذه الأبيات متوقفين لدى 'سحر الألفاظ' وروعة الصور وسمو العاطفةوعمقها:

أعير المنادي باسمها السمع كلّه على علمه أني بذاك مريب

وكم في ليل الحمى من إصاخةٍ إلى خبر الأحلام وهو كذوب

وما حبُّ ميٍّ غير بردٍ طويته على الكرهطيَّ الرث، وهو قشيب

أحين عسا عصني طرحت حبائلي اليّ، فهلاّ ذاك وهو رطيب

وما كان وجهٌ يوقد الهمُّ تحته لتنكر فيه شيبةٌ وشحوب

كثيرة هي خطوب الدهر التي توقدالهم. مر بنا عيش مهيار لبعضها، ويضيف إليها، في هذا المقام، هماً جديداً، وهو همُّ الشعر الذي يقول عنه مهيار، مخاطباً أحد الوزراء:

ـ وتحمون البلاد وفي ذراكم حريمالشِّعر منتهكٌ سليب

همُّ الشعر، أو حماية الشعر من الانتهاك والسلب، همٌّ مؤرق كبير، وبخاصة لمن يمتلك رؤية ويلتزم مبادئ ويريد لشعره أن يكشف على أضواء هذه الرؤية،وأن ينبثق عن هذه المبادئ. إن من يحمل هذا الهم يغدو، في زمن مثل زمن مهيار، مثل هذا الذي يصوره الشاعر بقوله:

ـ أما جنى خيراً له آدابه أعاذكنّ اللهُ من شرّ الأدب

هو الذي أخّرني مشارف الـ سَّبق، فأظما شفتيّ على القرب

ـ تجمع بين الماء والنار يدٌ وما جمعت الرِّزق والأديبا

ولا يرى مهيار هذا أمراً عجباً، فيقول كأنَّهيعزي نفسه:

لا تحسب الهمّة العلياء موجبة رزقاً على قسمة الأقدار لم يجب

لو كان أفضل من في الناس أسعدهم ما انحطَّت الشمس من عالٍ عن الشهب

10_ غريبٌ في باب الله

إنه إيمان بالقدر، ومثل هذا الإيمان قد يجعل الوحدة والغربة ممكنتين، تظمأ شفتا مهيار على القرب... تروقنا الصورة الحسية المنتزعة من صميم الحياة ونكاد نصرخ ماأروعها، ولكننا ندرك أن ما يمتاز به من مواهب ومناقب ورؤى أوصله إلى هذا الظمأ، وعندما يمد يده إلى الخلان يصاب بالخيبة، ويعبر عن خيبته في صورة رائعة أخرى منتزعة من صميمالحياة أيضاً فيقول:

تستحفل الضَّرع فإن لا مسته عاد بكيئا جلده بلا حلب

(1/31)

إن إنساناً يعيش مثل هذا الواقع يحس إن عادة أحدهم في مرض أو تفقده، كأحمد بن عبدالله الكاتب، أن هذا صنيع غريب، فيخاطبه عندما يفعل هذا:

... ولا تعدم الدّنيا بقاءك وحده فإنك في هذا الزَّمان غريب

(1/44)

يسلم الشاعر أمره للدّهر، ثم نلحظ فيأبيات كثيرة عدم اهتمامه بأمور الدنيا مثل قوله:

تلاعبت بي يا دهرُ حتى تركتني وسيَّان عندي جدُّ خطبٍ ولعبه

ولكننا نلاحظ أيضاً أن استسلام مهيار ليس استسلاماًعبثياً يائساً، وإنما هو يسير مسلماً أمره، في رحلة هذه الحياة ذات الفضاء الواسع لله، كما يقول:

وقلت: باب الإله إن ضقت مفـ توحٌ، وهذا الفضاء متَّسع

(2/173)

المصدر:دراسات في التراث الادبي