تیارات الاجتماعیة و بواکیر الصراع الطبقی

محمود اسماعیل

نسخه متنی
نمايش فراداده

د

د.محمود اسماعيل

التيارات الاجتماعية وبواكير الصراع الطبقي

لا سبيل لإنكار نجاح الرسول في وضع ركائز مجتمع الاخوة، ولكن العمر لم يمتدبه طويلا ليرسخ جذور الواقع الجديد، ولعل هذا يفسر استمرارية بعض بصمات الأوضاع القديمة. فالارستقراطية القديمة لم تستأصل شأفتها تماما، بل ترك الرسول 'لمسلمة الفتح'ممتلكاتهم وكرم بعض زعاماتهم 'من دخل دار أبي سفيان فهو آمن'، وأغدق على أبي سفيان وعباس بن مرداس وصفوان بن أمية ويمنية بن حصن، باعتبارهم 'من المؤلفة قلوبهم'، وسيكونالبيت السفياني على وجه التحديد نواة للأرستقراطية القديمة التي ستلعب دورا بارزا منذ خلافة عثمان على مسرح الأحداث.

وبرغم ما أتاحه الاسلام من فرص لتحرير الأرقاء،ووضع ضمانات لتحسين أحوالهم؛ إلا أن الرق لم يستأصل تماما، بل ستزداد اعداد الرقيق فيما بعد نتيجة الفتوحات. وسيكون لذلك تأثيره في موازين القوى الاجتماعية عندما اندلعالصراع مرة أخرى بعد وفاة الرسول.

وفي مجتمع الاخوة أيضا نبتت بذور طبقة جديدة ممن كانوا موسرين قبل الإسلام واعتنقوا الاسلام فتمتعوا بوضعية متفوقة، بحيث صاروانواة طبقة 'أرستقراطية ثيوقراطية' قدر لها أن تتولى الصدارة بعد وفاة الرسول مباشرة.

وكان علي بن أبي طالب رمز لزعامة التيار الذي تبنى مبادىء 'مجتمع الاخوة'، يؤازرهجل صحابة الرسول ممن كانوا مسترقين أو مستضعفين قبل الإسلام وأصبحوا بنعمته عصب 'النظام الجديد'. لذلك كانوا أكثر القطاعات السابقة حرصا على استمرارية السياسة الاسلاميةوترسيخ مُثُل الإسلام.

وبديهي أن تظهر بواكير التناقضات بين تلك التيارات عقب وفاة الرسول حول قضية من يخلفه، فلم يقع الاختيار على أساس الشورى بل كان مغالبة، وصراعاحسم لصالح الأرستقراطية الثيوقراطية.

وقد حاولت الأرستقراطية القديمة تعميق الخلاف بين الأرستقراطية الثيوقراطية و'شيعة' علي، لانها لم تستطع آنذاك أن تنافس علىالصدارة، وأحبطت المحاولة لسببن: أولا: أن الارستقراطية الثيوقراطية كانت متشبعة بروح الاسلام أكثر من ميراثها عن الجاهلية، لأن وضعيتها الجديدة بفضل الاسلام جعلتها فيتناقض مع الأرستقراطية القديمة، فصارت بذلك أقرب إلى 'التيار الاسلامي' الذي يمثله علي وشيعته.

ثانيا: أن خطرا جديداً وقع ليهدد كل التيارات السابقة؛ مما جعلها تلتئملمواجهته وتؤجل بذلك تفجير تناقضاتها المحلية.

تمثل هذا الخطر في 'حركة الردة' التي طالما تنوعت اتجاهات الدارسين في تفسير أسبابها ودوافعها، ومهما قيل في هذا الصددفلا يمكن اغفال تأثيرات العامل الاقتصادي الاجتماعي. ونحن نعتقد بضآلة العامل الديني في تفسير الحركة، نظراً لما أعلنه المرتدون عن استعدادهم للعودة إلى الاسلام علىشريطة إعفائهم من أموال الزكاة والخراج التي كانت تؤول إلى حكومة المدينة. وكانت جذور التناقضات بين عرب الحجاز وبقية عرب شبه الجزيرة ممتدة إلى ما قبل الاسلام؛ لاحتكارقريش تجارة العبور، ولعل تكوين الأحلاف بين قريش وغيرها من قبائل الحجاز كان استجابة لهذا التحدي. ولأن الاسلام احتفظ لقريش خاصة وعرب الحجاز عامة بنفس المكانة المتفوقة_حيث كانت المفاضلة على أساس السابقة والبلاء في خدمة الدعوة _ ولأن روح الاسلام لم تتغلغل بعد في نفوس القبائل العربية خارج الحجاز فقد نظر هؤلاء العرب إلى حكومة المدينةعلى أنها اقرار نهائي منظم لخضوعهم الدائم لسيطرة قريش.

وكانت الأساليب والاجراءات التي قمعت بها حركات المرتدين _حيث جرى استخدام العنف والقسوة والاحراق والمصادرةوالاسترقاق...الخ، وكان اشتراك زعماء التيارات المختلفة والتحامهم جميعا في مواجهة الخطر الداهم، مما ينم عن الطابع 'الدنيوي' للصراع، ويخفف من غلواء التفسيرات التيترمى إلى تغليفه بغطاء ديني قح.

ويبرز العامل الاقتصادي الاجتماعي واضحا كذلك في تفسير الفتوحات الاسلامية، التي كانت بمثابة تكريس للطاقة العربية كلها في معاركخارج الحدود، فأنجزت نتائج مذهلة ابان خلافتي أبي بكر وعمر، بضم أعظم امبراطوريتين معاصرتين إلى حظيرة الإسلام. ومن الخطأ ابراز العامل الديني باعتباره الدافع الأوحد،ولنا أن نتساءل: هل كان الاسلام قد تغلغل في صدور عرب شبه الجزيرة خارج الحجاز ممن ارغموا قسرا على اعتناقه من جديد، بحيث اشتركوا في حركة الفتوح في نفس العام الذي قمعتفيه حركات المرتدين؛ هل جاهدوا فعلا مدفوعين بالعامل الديني؟

على أية حال _كان للعامل الاقتصادي فعالية ليس فقط في تفسير الموقف من جانب القوى العربية، بل وأيضا فيتفسيره من جانب الشعوب الخاضعة للفرس والروم. وكان نجاح 'الأرستقراطية الثيوقراطية' في انجاز الفتوح عملا ذكيا؛ إذ أنه من ناحية وسع رقعة 'دار الاسلام'، ومن ناحية اخرىأجل تفجير المتناقضات بين التيارات المختلفة داخل الحجاز، وبين تناقضات عرب الحجاز وبقية عرب شبه الجزيرة. وكانت السياسة الرشيدة التي اتبعها الشيخان بتغليب 'الروحالإسلامية' صمام الأمن المؤقت الذي كفل تأجيل الصراع، ليتفجر بعد ذلك بشكل مكثف في خلافة عثمان.

وعلينا أن نشير إلى أنه برغم التقارب الشديد بين سياسة الشيخين فيمواجهة المشكلة الاجتماعية، فقد تفاوتا في أحيان كثيرة في التطبيق. ولم يكن هذا التفاوت جزافا إذ كان مرتبطا بعملية 'الحراك الاجتماعي' السريع، ومواقف القوى المشكلةللبنية الاجتماعية. وعلى سبيل المثال جنح أبو بكر إلى كسب الارستقراطية القديمة _نظرا لخطورة موقفه ابان حركة الردة _ فاغدق عليها، وكان ذلك جزء من سياسة عامة تقوم علىاسترضاء كافة التيارات الاجتماعية ابان تلك المحنة وبعدها، حين حاول توجيه كافة الطاقات المحمومة خارج الحدود، ودليلنا على ذلك توزيعه العطاء بالتساوي بين المقاتلين.

فلما آلت الخلافة إلى عمر اتخذ اجراءات مغايرة لصالح التيار الإسلامي الذي تزعمه علي لإحداث نوع من التوازن بين القوى، كما يحتفظ بالوضع المتفوق للارستقراطيةالثيوقراطية الجديدة _التي ينتمي اليها _ ويكبح جماح الارستقراطية البرجو إقطاعية القديمة التي أخذت تتطلع للتنافس على الصدارة.

من أجل ذلك وزع عمر العطاء وفقالمعيار مغاير لمعيار أبي بكر، فوزعه على أساس السابقة في الإسلام والبلاء في نصرته، فحاز أصحاب التيار الاسلامي لذلك نصيب الأسد، بينما وضع 'مسلمة الفتح' ومن على شاكلتهمفي ذيل قوائم الديون.

وكان إجراؤه بعدم توزيع الأرض على الفاتحين _وتركها في يد اصحابها بحيث يدفعون عليها الخراج للدولة _ يعني بطريق غير مباشر التمكين لسلطة الخلافةوالطبقة التي احتكرتها؛ فقد استهدف عمر من اجرائه هدفين، الأول: دعم نفوذ الطبقة الحاكمة بإكسابها 'جماهيرية' بين المسلمين الجدد، وربط ولائهم لها بمصالحهم المباشرةلموازنة 'جماهيرية' علي بن أبي طالب وتياره والأمر الثاني: محاولة ترسيخ أصول الطابع الثيوقراطي للحكومة، بعد أن أبدت عناصر من الطبقة التي تنتمي إليها جنوحا نحو'الدنيوية'.

كانت الزراعة اذن تشكل أساس الانتاج الأول، وحجر الزاوية في الاقتصاد الاسلامي، أما التجارة فقد مارست دورا هامشيا برغم اتساع رقعة الامبراطورية، وكانتكثرة الحروب ضمن أسباب عرقلة النشاط التجاري في ذلك الحين. ومع ذلك استطاعت الارستقراطية القديمة، بفضل خبرتها السابقة، وبسبب تضييق عمر على نشاطها الاقتصادي في الحجازأن تقوم بدور تجاري هام في الولايات. وإذا لم يكن بوسع الخلافة اتخاذ اجراءات حظر على نشاطها في هذا الصدد؛ اكتفت بفرض الرسوم المعروفة بالعشور على الصادرات والواردات.وبذلك احتكرت هذه الطبقة (إلى جانب افراد من أهل دار الحرب وأهل الذمة _ النشاط التجاري في هذا العصر. فلم تنافسها الارستقراطية الثيوقراطية _ربما لأسباب دينية إلى جانبحظر عمر _ في هذا الميدان واكتفت الاغلبية من تيار علي الاسلامي بمداخيلها من العطاء والمغانم؛ وسيكون لذلك تأثيره الخطير على طبيعة نشأة البورجوازية الاسلامية؛ حيثارتبطت بقوى اعتنقت الاسلام قسرا، أو قوى ظلت على عقائدها القديمة متعاونة مع قوى أجنبية، ومقتصرة في نشاطها على دور الوساطة التجارية، مما جعلها بورجوازية 'جنينيةهجينية هزيلة' لم تلبث أن تحولت إلى اقطاعية فيما بعد، حين استحوذت على النفوذ في خلافة عثمان والسلطة منذ حكم معاوية.

ويبدو أن عمرا أدرك في أيامه الأخيرة ما ترتب علىسياسته من مخاطر تهدد حركة التطور الإسلامي؛ فتمنى لو أنه استقبل من أمره ما استدبر وعدل عن الكثير من اجراءاته. ويبدو كذلك أنه كان يعني العودة لاتباع سياسة من شأنهااستئصال شافة الأرستقراطيتين القديمة والمستحدثة تماما، وفتح المجال لتنامي التيار الاسلامي الحقيقي الذي يمثله علي بن أبي طالب وشيعته باعتباره 'الرجل الذي خبر سنةالرسول خبرة تامة، فكان الضمانة الكبرى لبقائها على قيد الوجود'.

على كل حال افرز الواقع معطياته؛ فآلت الخلافة إلى عثمان وحرم علي منها، وتفجر الصراع الطبقي بينالتيار الاسلامي والأرستقراطي الرجعي ليفوز الأخير وتنتكس مسيرة التطور.

كانت سياسة عثمان ازاء المسألة الزراعية هي حجر الزاوية في الأحداث التي ادت إلى الثورةعليه، تلك الثورة التي ظهر فيها الصراع الطبقي واضحا. فلم تكن 'حربا أهلية' كما ذهب بعض المستشرقين، أو 'فتنة كبرى' كما صورها بعض الدارسين العرب.

تبلور الصراع من ثمحول تيارين أساسيين: 'العثمانية' وشيعة علي. وقد اكتسب التيار الأخير 'جماهيرية' وثورية بفعل انضمام صغار الملاك والمزارعين إليه، بعد تحويل أراضيهم إلى اقطاعات حازتها'الارستقراطية القديمة'. وهذا يفسر لماذا انطلقت الثورة على عثمان من سواد العراق ووادي النيل، تلك الثورة التي اتخذت طابعا اجتماعيا واضحا.

أحرز الثوار انتصارا فيالجولة الأولى حيث اغتيل عثمان وتولى علي الخلافة. وكانت الاجراءات السياسية والاقتصادية التي اتبعها منذ البداية تنذر باصراره على تكريس الموارد الاقتصادية لصالحالاغلبية، وتطبيق الشريعة الاسلامية تطبيقا صارما، من شأنه إعادة النظر في 'المسألة الزراعية' برمتها. وبالتالي الإطاحة 'بالإقطاعية' الجديدة. وفي ضوء ذلك يمكن تفسيراستجاشة الارستقراطية القديمة والثيوقراطية وتصديهما لمناؤته. وقد نجح في التخلص من الثانية في معركة الجمل، فانضمت (فلولها بفعل التقارب الطبقي _ إلى الأرستقراطيةالقديمة التي تبنى معاوية بن أبي سفيان دعاويها.

وخسر علي معركته معها. ويعبر هذا الخسران، والانشقاق في معسكره إلى شيعة وخوارج، عن تفوق الأساس المادي للأرستقراطيةمن ناحية، 'ومراهقة' التيار الثوري الاسلامي من ناحية أخرى. تلك السمة التي ظلت تطبع معظم الحركات الثورية في العصور التالية. وهي ذات دلالة أيضا على قصور دور البورجوازيةفي قيادة هذه الثورات في مواجهة الاقطاعية التي وضع عثمان بذرتها الأولى.

المصدر: سوسيولوجيا الفكر الاسلامي