لحضرةصاحب الفضيلة الاستاذ الشيخ محمد جواد مغنيه
رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية العليا ببيروت
قرأتكتاب (الله و الإنسان) للأديب المصري مصطفى محمود، ثم قرأت في مجلةروزاليوسف عدد إبريل سنة 1957 أن الحكومة المصريةصادرت هذا الكتاب، و كان قد وصل منه إلى لبنان عدةنسختلقفها القراء من المكاتب قبل أن تستقر في و اجهاتها، لأن الإخراج جيد، و الموضوع شيق، و البيان ساحر، و الثمن عشرةقروش.
أما مصادرة الكتاب فلأنه أحدث ضجةكبرى فيمصر و غيرها، حيث أنكر المؤلف وجود الله، و طعن في الأديان.
قال: إن الله لا وجود له في الواقع، و إنما هو فكرة في أذهان المؤمنين به، و نحن نوافق الكاتب كل الموافقةإذا أجابنا عن الأسئلة التالية:
السؤال الأول: هل في الكشوف العلمية ما يدل من قريب أو بعيد على عدم وجود الخالق؟! هل هناك عالم واحد اكتشف في مختبره و آلاته و أدواتهأن الله غير موجود، كما يكتشف الطبيب مكروب السل و الملاريا في جسم المريض؟!
هل هناك مخترع واحد وضع تصميمه على أساس نظريةالإلحاد، بحيث لو وضعه على أساس الإيمانبالله لفشل التصميم، و استحال أن يتوصل إلى شىء؟!
ثم هل العلماء المكتشفون، و العباقرةالمخترعون قديما و حديثا كلهم ملحدون؟! و لقد قرأت فيما قرأت أن انيشتين قال:(إن بصيرتنا الدينيةهي المنبع، و هى الموجه لبصيرتنا العلمية، و ما نطق أنيشتين بهذه الحقيقة إلا لانه بلغ من العلم مبلغا لم يرق إليه أي عالم أو مخترع سواه.
/ صفحة365 /
و إذا صرفنا النظر عن قول هذا العظيم، و قول كثير غيره من العلماء بأنه كلما تابعنا السير في طريق العلم كلما ازددنا إيمانا بالله و بالدين، إذا صرفنا النظر عنذلك كله فلا يمكن بحال أن نصرف النظر عن القول بأن العلم - أى التجربةو المشاهدة- لا يتعرض لمسائل الدين سلبا و لا إيجابا، فكما أن الطب لايتدخل في الهندسة و شئونها، كذلكالعلم لا يتدخل في شئون الدين نفيا و لا إثباتا.
السؤال الثاني: هل أسباب المعرفة تنحصر في المشاهدةوالتجربة، بحيث لايحق لأحد أن يؤمن بوجود شىء إلا بعد أن يراه و يلمسه؟
لا أظن أن أحدا يلتزم بهذا حتى مصطفى محمود و الذين يقولون بأفواههم إننا لا نصدق إلا العيان والمشاهدة، بل إن هؤلاء يؤمنون و يتحدثون عن أشياء و أشياء كأنها جزء منهم، مع أنهم لم يروها و لم سلمسوها، و هذا العقل، و هذه الذرة و الجاذبيه و الألكترون، و الحركةالدائبة في الحجر الأصم و الصخرة الجامدةكلها حقايق يؤمن بها العلماء، و يبنون عليها آراءهم و نظرياتهم و أعمالهم ، مع أنه ما من عالم رآها بالذات.
إذن ليس منالضروري لنؤمن بشىء ان نراه رأى العين، فقد نؤمن بما نراه استنباطا و استنتاجا من المعقولات، و قد لا نؤمن بما نراه رأى العين احتراسا من خداع العيون.
كانعلماءالطبيعة قبل تفجير الذرةيقولون: إن الجوهر المادي لا يمكن أبادته، و بنوا قولهم هذا على أو طد أسس التجربة المحسوسة، و لكنهم بعد تفجير الذرة قالوا: إن المادةتتلاشى و تزول، و إذا وجب أن نظرح حكم العقل، لأنه يخطيء في بعض الأحيان وجب أيضا ألا نأخذ بالأفكار التي تأتي نتاجا و انعكاسا للتجربة و النشاط العملي.
السؤال الثالث:هل في مقدو ر العلم أن يخلق مادةحية لها من النمو و الحركة ما لأحط الأحياء؟ هل يستطيع العلماء أن يخلقوا نملة أو نحلة لها فطرة الكدح
/ صفحة 366 /
والادخار و النظام؟! لقد جربوا و بذلوا كل الجهود فأتوا بكائن منحط ظنوه شبيها بالحى، و بعد الدرس و التمحيص اتضح لهم أنه أبعد ما يكون عن الكائنات الحية بمعناها الحقيقي،و غريب حقا أن يؤمن مصطفى محمود بالعلم، ثم يكفر بخالق الكون و الإنسان.
السؤال الرابع: هل نحن و كل ما عدانا من الكواكب و ما فيها من مقومات الحياة و النظام و الترتيبوجد صدفة دون تصميم و قصد؟!
و هنا يجيب مصطفى محمود بأن الاستدلال على وجود الله بقانون السببية مغالطة و خطأ، لأن القول بأن الحركة تحتاج إلى محرك، و النظام إلىمنظم، و الوجود إلى موجد إنما ينطبق على الحوادث الجزئية التى تقع في الطبيعة. أما الطبيعة نفسها فلا يحتاج وجودها إلى سبب، بل هى غاية و سبب في ذاتها، و لا تفتقر إلى منيوجدها.
فصاحب الكتاب يسلم بقانون السببية، و لكنه يخصه بالأحداث الجزئية دون السبب الكلي، فالباب يصفق، لأن الرياح تهب، و الرياح تهب، لأن هناك تخلخلا في الجو، أماالوجود بمجموعه فغنى عن كل سبب.
و الذي حمل مصطفىعلىهذا التفصيل أنه رأى بعينه أسباب الحوادث الجزئية، فقال بأن لحركتها محركا، و لم ير السبب الأول للكون، لم ينظرإليه بعينه، و لم يلمسه بيده فجزم بأنه لا شىء وراء الطبيعة! و كأنه يقول كل ما لا يثبت بالمشاهدة لا يمكن أن يكون صحيحا. و نحن بدورنا نطالبه أن يثبت هذا القول بالمشاهدة،و إلا كان دعوى بلا دليل، و من قال لك كل ما تسمعه فهو كذب، فقد حكم على نفسه بأنه كاذب، لأن القضيةتشمل نفسها، و ما أشبه قول مصطفى محمود بقول السفسطائيين بأن الأشياء لاحقيقة لها أبدا، لأنه يجوز ألا تكون على ما نشاهدها و نراها، و أوجيبوا بأنه على منطقكم هذا لا نستطيع أن نحكم بوجودكم، لأنه من الجائز أن تكونوا غير موجودين.
و على أيالأحوال فإن التفصيل بين الحدث الكلي و الحدث الجزئي خطأ
/ صفحة 367 /
ظاهر، لأن قانون السببية عقلي، و القوانين العقليةلا تقبل التخصيص و الاستثناء، و إنماتقبله القوانين الوضعية و التشريعية، مثلا لنا أن نضع قانونا ينص على أن كل من يخالف السير يعاقب بكذا إلا إذا كان غريبا عن الوطن، و ليس لنا أن نقول بأن المساويين لثالثمتساويان إلا إذا كان من خشب! لأن حكم العقل لا يقبل الاستثناء، و لم أر واحدا من القائلين بقانون السببية فرق بين الحادث الجزئي و الحادث الكلي.
و من هنا تخصص فريقلمعرفة أسباب الأنواع الخاصةكالحيوان و النبات و المعادن، و فريق
آخر تخصص لمعرفة أسباب الكون بمجموعه كوحدة مترابطة، و يسمى الفريق الأول العلماء، و الفريقالثاني الفلاسفة(1)، و المتخصصون بشئون النبات، و المتخصصون بشئون الحيوان، و علماءالكيمياء، يعتمدون على الحس و التجربة، و يتخذون من المشاهدةأساسا لدراستهم، أماالفلاسفة فيعتمدون على العقل و الاستنتاج، حيث لا تقع فروضه تحت الرؤية، ولا يمكن إثبات شىء منها بالحس، و هذا ما أوقع مصطفى محمود في الاشتباه، و دفعه لإنكار ما يثبتهالعقل، و الاعتراف بما يثبت بالمشاهدة فقط، مع أنه لا فرق بينهما إلا في طريق الإثبات و الاستدلال ، و لو كان الأمر كما يعتقد الكاتب لما تخصص لمعرفةكل فريق، و لوجب أننحرق كتب الفلسفة، و كل ما يبحث عن الكون و نظامه، و صفات الخير و الشر، و الجمال و القبح، لأنها لا ترى بالحس و العيان!
السؤال الخامس: أثبت علماء هذا العصر أن الأرضقطعة انفصلت من الشمس، و أن الحياةفيها و عليها كانت محالا و غير ممكنةبوجه من الوجوه، لأن حرارة سطح الشمس ستة آلاف درجة مئوية، أما باطنها فحرارته أربعون مليوندرجة،
(1) كانوا في سالف الدهر لا يفرقون بين العلم و الفلسفة، و كانت العلوم الطبيعية في نظر القدماء جزءا من الفلسفة، و منذ ثلاثة قرون حصلتالتفرقة، فاختص العلم بما يقع تحت الحس، و انصرفت الفلسفة إلى دراسةما لا يحس، أو قل: إن موضوع العلم هو الطبيعة، و موضوع الفلسفة ماوراء الطبيعة. / صفحة 368/