(ب) و بالوحدة فيعلاقة الإنسان بالإنسان: في الأسرة، و المجتمع، و في مجتمع إسلامي مع مجتمع آخر.
و للوحدة في ذات الإنسان منهج مرسوم. و تشريع التهذيب أو العبادات هو سبيل وحدةالإنسان. و للوحدة في العلاقات بين الأفراد و المجتمعات منهج مرسوم كذلك. و تشريع المعاملات هو سبيل وحدة العلاقات.
يقول الله لرسوله الكريم: (قل هو الله أحد، اللهالصمد ، لم يلد و لم يولد ، و لم يكن له كفوا أحد). و معنيىذلك. الله المعبود واحد، و هو الرب و السيد، و وحدته وحدة خالصة، فلم يأت عن طريق غيره (فلم يولد) و لم يكن غير عنه ،يشبهه (فلم يلد). و لذا ليس هناك معادل له في الوجود (فلم يكن له كفوا أحد).
و بهذه السورة القصيرة تحددت وحدانية الله، بالوحدانية الخالصة عن المثل و الشبيه. ثم لأنالمعبود هو من يتجه إليه الإنسان في حياته - كانت هذه الوحدة الخالصة هى غاية الإنسان في سعيه في الحياة، و في سلوكه فيها:
فسعى الإنسان في الحياة يجب أن يتجه إلى وحدهذاته ، و صهر علاقته بغيره، حتى تصير قريبة من الوحدة الخالصة. و سلوكه في الحياة يجب أن ينبيء عن وجود هذه الوحدة بالفعل في حياة الإنسان.
على الإنسان إذن أن يحملنفسه على الوحدة. و عليه أن يسلك طبقا لهذه الوحدة التي تحققت بسعيه. فإن لم يسع نحو هذه الوحدة ، لم يدرك في عبادته وحدة الله جل شأنه. و إن سلك سلوكا متضاربا في حياته، كانتضار به في سلوكه أمارة علي أنه لم يحقق الوحدة في نفسه.
و كذلك الشأن في علاقته بغيره. عليه أن يسعى لتقريب الاثنينية بين نفسه و غيره، إلى وحدة، أو إلى ما يقرب إلىالوحدة على سبيل الحقيقة. و كذلك سلوكه مع غيره يجب أن ينبيء عن هذا التقريب بين اثنينية نفسه مع غيره.
/ صفحة 395 /
فإن لم يسع في دائرة العلاقات مع غيره، نحوتقريب هذه العلاقات نحو الوحدة ، لم يدرك في سعيه في هذه الدائرة وحدة الله تعالى. و إن سلك سلوكا متضاربا فيها ، كان تضاربه في هذا السلوك أمارة على أنه لم يصل إلى ما يقربمن الوحدة في علاقته بغيره.
و إذن هدف العبادات في الإسلام تحصيل الوحدة في ذات الإنسان، و جعل السلوك طبقا لها.
و هدف المعاملات في الإسلام محاولة تقريبالعلاقات بين (الاثنين) إلى وحدة، و تكوين السلوك وفقا لهذا التقريب.
و الإنسان بحكم تكوينه موزع بين أمرين متقابلين. و هو لذلك له اتجاهان فيالحياة: أحد هذين الاتجاهين يصدر عن النفس الأمارة بالسوء، و الاتجاه الثاني يصدر عن النفس المطمئنة. أما النفس الأمارة بالسوء فهى التي تميل بالإنسان إلى أن يكون صاحبغرض و هوى، و صاحب شهوة خاصة. و أما النفس الأخرى المطمئنة فهي التي تميل بالإنسان إلى أن يكون صاحب (عدل) و توازن، و استقامة.
و جاء الإسلام بالعبادات: جاء بالصلاة، والزكاة، و الصوم، والحج كي يكون الإنسان صاحب اتجاه واحد؛ كي يكون صاحب نفس مطمئنة راضية، كي يكون صاحب توازن، و عدل ، واستقامة.
جاء الإسلام بالصلاة - و هى أن يتجهالإنسان في خشوع نحو الله و نحو جلاله، و أن يناجي هذا الجلال بقوله: الله أكبر - ليحصل في الإنسان قيمة الوجود كله. و قيمته عندئذ: أن شيئا واحدا فيها كله له العظمة والجلال، و أن ما عداه تضمحل قيمته و تتضاءل فإذا ثبتت هذه القيمة في نفس المصلى كانت نفسه نفسا مطمئنة، لأنه يستعبد من المصلى، بعد أن يدرك هذه القيمة، أن تميل نفسه وتحرضه على تحصيل شيء في الوجود دون الله. و ليست النفس الأمارة بالسوء إلا تلك النفس التي تخضع الإنسان إلى غير الله في الوجود، و هي لا تفترق عندئذ عن الشيطان في الهدف والغاية.
/ صفحة 396 /
و إذن الصلاة عبادة قصد بها أن تكون نفس المصلى نفسا مطمئنة ، قصد بها أن يكون الإنسان صاحب اتجاه واحد. و عندئذ تتحقق وحدة الإنسان ، و يرتفعفوق التردد بين النفسين.
و جاء الإسلام بالزكاة ليسعى المزكي عن طريق زكاته، كعبادة فيها قربى إلى الله، نحو اتجاه واحد في سلوكه، و هو اتجاه المعطي المانح. و بذلكيكبت الاتجاه الآخر في الإنسان، و هو اتجاه الاستيلاء، و الطمع، و الجشع. و هنا أيضا تكون الزكاة عبادة لتحصيل وحدة الإنسان، بدلا من توزيعه و تردده، أو بدلا من أن يتردىفي ذلك الاتجاه الآخر، الذي يبعده عن السمو و التشبه بالله في منحه و عطائه، و هو التجاه التردي في الطمع و الجشع.
و جاء الإسلام بالصوم. والصوم ليس فقط تقريرا لجلالالله و قيمته في الوجود، و ليس فقط متضمنا أيضا عدم الحرص على الاستيلاء و الأخذ، لأنه يقوم على الإمساك و الترك - هو ليس فقط هذا و ذاك، و إنما هو كبت لذات الإنسان، و حرمانلهذه الذات، طواعية لامتثال الله. و الحرمان فيه أكثر من المنح و العطاء، كما في الزكاة. لأن المانح و المعطى لا يستلزم أن يحرم ذاته، ولكن إذا حرم ذاته تجاوز عندئذ حدالمانع المعطي.
و إذن عبادة الصوم فيها امتثال لله، و ذلك إقرار بوجوده و بقيمته في الوجود، و فيها أكثر من المنح و الاعطاء؛ فيها المقابل للاستيلاء و هو الحرمان.
و الاستيلاء أخذ، و الحرمان ترك. و الصوم لذلك خطوة أخرى في طريق توجيه الإنسان و سعيه نحو وحدة ذاته؛ نحو تحصيل النفس المطمئنة، التي لا تخضع لما عدا السمو، و التشبهبالله.
و جاء الإسلام بالحج. و في الحج عود بالإنسان إلى حالته الطبيعية، فيه ترك، و منح معا. فيه ترك للمظاهر الزائدة على الطبيعة الإنسانية، و فيه منح عن طريقالأضحية. و بذلك تصبّ عبادة الحج في نفس الغاية، التي تهدف إليها عبادات: الصلاة، و الزكاة، و الصوم.
/ صفحة 397 /
فإذا تحقق للإنسان اتجاه واحد، كان سلوكه سلوكامتزنا مستقيما، معتدلا. لإنه لا يتأرحج عندئذ بين شيئين متقابلين. لا يلبس اليوم وجها، و غدا وجها آخر، فهو مستقيم إذن. و لا يفعل اليوم هذا ، و يفعل نقيضه غدا، فهو متزنإذن. و لا يجنح الآن يمنة، ثم في آونة أخرى يجنح يسرة فهو معتدل إذن. و اعتداله، و اتزانه، و استقامته، تدل على أنه أصبح واحدا ، و بذلك تأثر في حياته بعبادته لله الواحد. وأمارة الاعتدال، و الاتزان ، و الاستقامة في السلوك و التصرف: أن يكون مصداقا لقوله تعالى: (و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، و لا تنس نصيبك من الدنيا، و أحسن كما أحسنالله إليك، و لا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين).
فإذا سار الإنسان في سلوكه وفق وصايا هذه الآية القرآنية - فإنه لا شك يكون معتدلا، و متزنا، و مستقيما:
فإذا سعى الإنسان في حياته لأخذ نصيبه من الدنيا - لا لأخذ الدنيا كلها - و في الوقت نفسه قصد وجه الله فيما حصله من الدنيا، فأحسن إلى غيره كما أحسن الله إليه، و لميقصد إلى العبث و الفساد فيما تفضل الله به عليه، كان معتدلا و متزنا و مستقيما: لم يتواكل؛ فحصل حظه من نعم الحياة، و لم يغتر و يفرح بما حصله من هذه النعم؛ فلم يتخذ هذهالنعم وسيلة للعبث في حياته الخاصة و حياة جماعته العامه؛ لم يرتكب إثما و لا محرما. لم ينتهك عرضا و لا حرمة لغيره عن طريق هذه النعم، ثم مع ذلك لم يحرم من هذه النعممستحقا آخر فيها؛ لم يحرم ذا قرابة و ذا جوار، و ذا متربة، و صاحب حاجة - إنه عندئذ متزن في تصرفه، و معتدل في سلوكه، و مستقيم في اتباعه طريق الله وو صاياه.
و الإنسان مع إنسان آخر، بمثابة الإنسان الفرد المردد بين اتجاهين متقابلين؛ اتجاه النفس المطمئنة و اتجاه النفس الأمارة بالسوء . فكذلك الإنسان معالإنسان. هذا له اتجاه، و ذاك له اتخاه آخر. هذا له عادات و آمال، وذاك له عادات و آمال
/ صفحة 398 /
هذا نشأ تنشئة خاصة، و ذاك نشأ تنشئة مغايرة. فإذا كثر عدد أفرادالناس تعددت وجوه المغايرة بينها، و كثرت ضروب المفارقة والمقابلة.
و على نحو ما أراد الإسلام للإنسان الفرد من وحدة اتجاه في سعيه و سلوكه - أرادللكثرة العديدة من الناس، و هي الجماعة، نفس الغاية و نفس السبيل؛ أراد لها أن تكون أمة واحدة، و أن يكون سعيها لذات الهدف و الغاية، و هي أن تكون أمة واحدة. و ما شرع باسمالمعاملات هو السبيل لتحقيق هذا الهدف.
إن وحدة الجماعة و الأمة لا يتوقف - فحسب - على الأسباب التي تحيط بأفرادها بحكم البيئة، أو الموطن، أو إمكانيات العيش، بل لا بدفي تحقق وجود أية جماعة، وجودا قويا ظاهرا من وحده الغاية و الهدف. لأن وحدة الغاية والهدف هي المركز الذي يتجمع الأفراد حوله، و يتكتلون من أجله، و تشتد الروابط بينهمبسببه، و تصير هذه الروابط إلى أخوة في النفس و الروح، بعد التقاء على الفكرة و المبدأ.
و القرآن الكريم ، فيما أوصى به من أخلاق للجماعة، لم يوص إلا بعد أن حدد الغايةللجماعة التي يريدها، و التي عمل على تكوينها. و وصاياه هنا بعد ذلك هي وصايا لحفظ توازن هذه الجماعة، و بالتالي لحفظ علاقات الأفراد فيها من التفكك و التلاشي.
والغاية التي حددها القرآن لجماعته هى عبادة الله وحده، يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم: (و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا) ، و يقول: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا لهالدين)، و يقول : (ذلكم الله ربكم ، لا إله الا هو ، خالق كل شىء، فاعبدوه، و هو على كل شىء وكيل. لاتدركه الأبصار، و هو يدرك الأبصار، و هو اللطيف الخبير). و يقول: (إن هذهأمتكم واحدة، و أنا ربكم فاعبدون).
/ صفحة 399 /
و الإسلام إذ يحدد غاية الجماعة بعبادة الله وحده، يدفع أفرادها إلى الشعور بالكرامة، و السير في الحياة دون عائقمن أوهام الوثنية في أية صورة من صورها. و الشعور بالكرامة، و الانطلاق في الحياة من قيود الخرافة و الشعوذة، و اقتحام الصعاب فيها، دون انتظار لوضع خاص لكوكب من الكواكب،كماكانت عادة العرب قبل الإسلام ، دون إذن وصى أو سيد، كما هى عادة العبيد و الأرقاء، كل هذا مظهر لعبادة الله وحده.
و أصحاب هذا الشعور، و أولئكم الذين انطلقت نفوسهممن قيود الخرافة، و الشعوذة، و الوثنية في صورها المختلفة- من عبادة الأحجار إلى عبادة الأشخاص - يضيفون إلى قوتهم، كأصحاب سعي و حركة، قوة توجيه و يقظة. و هم ، لهذا و ذاك،لا بد أن ينجحوا إذا كافحوا، و لا بد أن ينتصروا إذا خاصموا.
ولكى لا يدخل عامل يضعف علاقات هذه الأفراد في الجماعة، فتتجه نظرتهم إلى هذه العلاقات، بعد أن ارتفعتنظرتهم جميعاً إلى الله وحده سبحانه، و كذلك يتجه كفاحهم إلى صلات بعضهم ببعض، بعد أن تركزت فيما وراء أشخاصهم و ذواتهم - لأجل هذا أوصى القرآن الكريم بما يحفظ قوة هذهالعلاقات، و بما يديم نظرة الأفراد إلى الله، و بما يوجه كفاحهم لصالح أنفسهم، كجماعة تريد السيادة لأجيالها المتتابعة جيلا بعد جيل.
1-أولا: أوصى القرآن باحتفاظالجماعة بسيادتها. و ذلك بألا يكون لأفرادها و لاء لغير بعضهم بعضا، أى يكون للدخيل بينهم طاعة عليهم، و لا يرقى هذا الدخيل في نفوسهم إلى درجة أن تكون له وصاية، أو إلى أنيعدّ مرجعا في إبرام شئونهم. يقول الله تعالى: (و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف ، و ينهون عن المنكر، و يقيمون الصلاة، و يؤتون الزكاة، و يطيعونالله و رسوله ، أولئك سيرحمهم الله ، إن الله عزيز حكيم).
فعلل الله سبحانه و تعالى تفضيل ولاية المؤمنين بعضهم على بعض، و بالتالى إبعاد ولاية الأجنبي عليهم -بالاشتراك في خصائص و صفات؛ هى مقومات الجماعة
/ صفحة 400 /
الإسلامية: بالاشتراك في الأمر بالمعروف، و النهى عن المنكر، و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و طاعةالله و رسوله . فولاية أجنبي عليهم ستذهب بهذه الخصائص، و بالتالي ستذهب بشخصية الجماعة الإسلامية، و يومئذ لا يكون لها وجود، كجماعة إسلامية. لأن هذا الأجنبي الذي يتولىأمرهم لا يشاركهم في هذا الخصائص، و لذا لايقدرها ، و ربما يعاديها و يعمل على إفنائها.
يوصى القرآن بذلك لأنه إن قبلت ولاية الأجنبي و وصايته، ابتعدت الجماعة عنالهدف و الغاية التي اجتمعت حولها من قبل، و أصبحت أفرادا فقط ، مختلفي النزعة و الغرض، لا جامع يجمعهم و لا رابط يؤكد الصلات بينهم.
2-ثانيا: أوصى القرآن كذلك - بعد أنأحاط الجماعة الإسلامية بهذا السور الخارجي، و هو إبعاد ولاية الأجنبي عليهم - باتباع سبيل (العدل) في الحكم بين الناس، فيقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلىأهلها، و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
يوصى القرآن بالعدل في القضاء و الفصل بين الناس، لأنه أساس الاطمئنان بين الأفراد على أنهم سواء في ظل الجماعة، و أنالجماعة لذلك ليست حزبا تفصل بين فريق موال و فريق مخاصم؛ بل هى رعاية عامة. و هذا الاطمئنان بالمساواة في العدل يوحى بدوره إلى تمسك الأفراد بجماعتهم، و إلى الكفاح فيسبيل بقائها، و إلى مؤازرتها ضد عدوها الخارجي.
3-ثالثا: أوصى القرآن بالتريث في قبول الأخبار المغرضه، و فحص شائعات السوء. يقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إنجاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
أوصىالقرآن بذلك للإبقاء على العلاقات سليمة صافية. فإن سرعة التصديق بالأخبار والشائعات المغرضة، سواء فيما يتصل بفرد و فرد، أو بأسرة و أسرة، أو فيما يتصل بالأفراد و الحكومة، لا تقف عند حد تمزيق وحدة الجماعة، بل من شأن هذه السرعة أن تثير فتنة قدتنتهى بخصومة عنيفة بين أبناء الجماعة. و بذلك تتحول الجماعة إلى طوائف متباينة القصد و السعي، و عندئذ تصير إلى فنائها، كجماعة.
/ صفحة 401 /
4- رابعا: أوصى بعدماستغلال الضعيف: أوصى بعدم استغلال اليتيم، و من على شاكلته ، كالأجير، و الخادم، ممن عليه رياسة بوجه ما. يقول الله تعالى: (و آتوا اليتامى أموالهم، و لا تتبدلوا الخبيثبالطيب، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوبا كبيرا).
و لفظ الآية و إن كان نصا في طلب تسليم أموال اليتامى - و هم القصر - إليهم بعد بلوغ الرشد، بدون مما طلة -لكنه يتجاوز ذلك إلى طلب تسليم الحقوق إلى أصحابها، الذين لهم وضع يشبه وضع اليتيم من الوصي عليه. فصاحب الرياسة مطالب بتسليم حقوق عماله إليهم، و رب الأسرة مطالب بتسليمحقوق زوجته و أولاده إليهم. و هكذا. ثم يصف سبحانه و تعالى أمساك تسليم الحقوق إلى أصحابها الضعاف باستبدال الخبيث بالطيب؛ أي بترك الطيب و أخذ الخبيث بدلا منه، ثم يصفهكذلك بأنه أكل، ثم بأنه ظلم، ثم بأنه ظلم غيرعادي، بل هو ظلم كبير.
أوصى القرآن بذلك، لأن استغلال القوي للضعيف يدل على أن الجماعة التي جمعتها: أى جمعت القوي و الضعيفعلى هذا الوضع، ليست إلا وسيلة لتحقيق الأغراض الخاصة، و ليست رعاية عامة لحقوق كل فرد منها. و إنما وجدت الجماعة للترابط في وحدة واحدة، و التعلق بهدف واحد، و الاحتكامإلى ميزان واحد؛ هو العدل و التوازن.
5- خامسا: أوصى الإسلام بتقريب الفروق بين الأفراد، حتى لايشعر الفقير بحرمانه، و لا المريض بعجزه، و لا الجاهل بحمقه و سوء تصرفه،و لا الصغير بضعفه و حداثة عهده، و لا الشيخ بوهن شيخوخته:
فأوصى صاحب الثروة بالإنفاق، و صاحب الصحة بالمعاونة، و صاحب المعرفة بالتوجيه، و الكبير برحمة الصغير، والصغير بتوقير الكبير. أوصى بذلك و بمثله. ولكنه شدد كثيرا في طلب بذل المال و الإحسان لصاحب الحاجة من ذوى اليسار. و ذلك لأن المال، من جانب ، من شأنه أن يغرى صاحبه على عدمالإنفاق، كما أن الحرمان من المال، من جانب آخر، من شأنه أن يثير القلق
/ صفحة 402 /
النفسي، و الحسد و البغضاء في نفوس المحرومين ضد غيرهم من الموسرين، يقول اللهتعالى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، و أقاموا الصلاة ، و أنفقوا مما رزقناهم، سرا و علانية، و يدرءون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار). و يقول: (أولئك يؤتون أجرهممرتين بما صبروا، و يدرءون بالحسنة السيئة، و مما رزقناهم ينفقون).
و الإنفاق هنا ليس الزكاة. و إنما هو إعطاء، وراء فريضة الزكاة، سرا أو علانية. و قد ربط الله سبحانههنا بين الصفات التي تدعوا إلى التحمل من صاحبها، في سبيل استقامة الأمور، و علاج المشكلات. فالصبر في المحنة و الأزمات، و إقامة الصلاة التي من شأنها أن يمسك المصلى عنالفحشاء و المنكر، و الإنفاق في سبيل الخير و سبيل الله، و إبعاد السيئة عن طريق الحسنة- كلها خصائص تبعد الأزمات و تسد طريق الشر، و لكنها تتطلب الاحتمال و ضبط النفس.
أوصى القرآن بهذا كله، و بغيره مما يتصل بشأن الجماعة العامة، و هى الأمة، قاصدا أن يبقى على التكتل و التجمع، و أن يحول دون العوامل المخربة. و العوامل المخربة ترجعجميعها إلى اختلال العدل، أن اختلال التعادل و التوازن في الجماعة:
فالولاء للأجنبي، و التحيز في الفصل بين الناس، و المسارعة في قبول الوشايات، و استغلال القوىللضيعف، و عدم تقرب الغني من صاحب الحاجة: صاحب المال من الفقير، و صاحب المعرفة من الجاهل، و السليم من المريض إلى غير ذلك - كل هذه أمور تؤدي إلى اختلال في توازنالجماعة، لا محالة. فرسالة القرآن للجماعة العامة هى رسالة توازن وتعادل، كرسالته للفرد نفسه، التي هى توازن و تعادل بين القوانين اللتين من شأنهما السيطرة عليه.