دین فی معترک الفضاء

محمد تقی القمی

نسخه متنی
نمايش فراداده

الدين في معترك الفضاء

لحضرة صاحب السماحة العلامة الأستاذ محمد تقي القمي

السكرتير العام لجماعة التقريب

الحقيقة الثابتة:

ليس في عالمنا حقيقة واقعة ثابتة كحقيقة الدين، قاوم كل حرب، وصد كل هجوم، وانتصر على كل عدو، وبقي حياً مزدهراً على مدى القرون.

حاربهالملاحدة، لأنه لا يعجبهم، وذهب الملاحدة وبقي الدين.

وحاربه الجبابرة، لأن في بقائه كسراً لشوكتهم، وذهب الجبابرة وبقي الدين.

وحاربه الذين استغلوه ليصلوابواسطته إلى الحكم، فلما استقر لهم الأمر بطشوا به وطاردوه، وكانوا أشد عليه وطأة من كل عدو.

وذهب المستغلون وبقي الدين.

حاربه كل هؤلاء، وكانوا يعنفون في حربه،لأن نصوع حقيقته وشدة حيويته وقوة تأثيره في الناس، كانت تشكل أكبر خطر عليهم، وتهدد نفوذهم وسلطانهم بالزوال.

بل إن حربهم إياه بلغت في فترات من التاريخ غاية الشدة،حتى لقد خشي المؤمنون ألا يبقى على الأرض من يعبد الله ويوحده.

ثم ذهبوا جميعاً، بجيوشهم وبربريتهم، وخلت الأرض منهم ليصبح ترابها معابد ومساجد للعابدين والساجدين.

/ صفحة 29 /

ثم جاء القرن الأخير، وظهرت فيه المذاهب والنظم السياسية والإقتصادية والإجتماعية المستحدثة، التي تقوم على المادية الخالصة، أو على الإلحادالسافر وإنكار الله.

وزعم أصحاب هذه المذاهب أن مبادئهم تحقق السعادة للبشر. ولكنها عند التطبيق ظهر عجزها وقصورها، وعدم جدارتها لإدارة شئون العباد، بحيث اعترىالكثير من مبادئها التغيير والتبديل، وربما الإلتحام مع مبادئ من يعارضونها.

وقد تعرض الدين لهجمات هذه الكتل الكبيرة المارقة، فتعطلت الكنائس في بلاد، وتعطلتالمساجد في بلاد أخرى.

فماذا كانت النتيجة?.

إذا كان لكل مائة أو مئات كنيسة أو مسجد يجتمعون فيه، فقد صار لكل واحد مسجد أو كنيسة بناها في قلبه.

وإذا كانتالشعائر قد تعطلت أو أهملت بفعل البيئة، فإن جوهر الدين ـ وهو الإيمان بوجود قوة فوق القوى ـ قد بقي في القلوب سليماً، أدرك الإنسان ذلك وأحس به، أو فاته إدراكه بتأثيرالدعايات.

أي أن النتيجة كانت على عكس ما ذهبت إليه الظنون، ومن الأحداث ما يكون له أثر كبير في تقوية الدين، بل في إحيائه ـ وإن لم يكن ميتاً في وقت من الأوقات.

وستذهب هذه النظم المستحدثة، لعجزها عن إسعاد البشر.

وستختفي من الوجود هذه المذاهب التي قامت على المادية أو الإلحاد.

ولن يبقى على تلك المذاهب والنظم، تقدمالعلوم في تلك البلاد ـ كما يظن كثير من الناس ـ لأن العلم لا يعارض الدين، فضلاً عن أن كثيراً من العلوم من شأنها أن تدفع أهلها إلى الإيمان بالله.

/ صفحة 30 /

الذرة والكون:

ومن عجيب الصدف اشتغال العالم في نصف القرن الأخير بالذرة وبالكون، أي بأصغر شيء وبأكبر شيء في الوجود.

أما الذرة، فهي أصغر لبنة يمكن أن تنقسمإليها العناصر مع احتفاظها بخصائصها المختلفة.

وقد تمكن الإنسان من تحطيمها، وكانت النتيجة الملموسة فضيحة (هيروشيما).

ولعل الإنسان لم يكن يدرك الدمار الذييحدثه التفجير النووي، فلما رآه رأى العين بدأ يخافه ويرهبه، ويدعو إلى التعايش السلمي ليدفع عن نفسه خطر هذا المارد الجبار.

وأما الكون، فإنه أوسع مما يتصوره أيعقل، أو يحده أي حد.

والإنسان حين أراد أن يشرف هذا الكون غير المتناهي بقدومه، أنفق في سبيل ذلك مبالغ طائلة كانت تكفي لإسعاد كثير من البشر، وسخر في العمل لهذهالغاية أكثر من إثنى عشر ألف عالم، وأجرى التجارب الباهظة التكاليف سنين عديدة، وأرسل الأقمار الصناعية بعضها في إثر بعض، فعلى ذلك كله لكي يطأ برجله القمر.

ويتساءلالكثيرون: ماذا يكون مستقبل الدين بعد أن وجد الإنسان في نفسه الجرأة على تحدي الكون؟.

والجواب أن كثيراً من العلوم من شأنها تقدم فيها الإنسان، أن يحس بعجزه وضعفه،وأن يتوجه بصورة إرادية أو لا إرادية إلى الله.

كثير من الأطباء دخلوا قاعات الطب غير مؤمنين، وخروجوا منها وهم أشد ما يكون إيماناً بقدرة الله.

كثير من الفلكييندخلوا المراصد غير مؤمنين، وخرجوا منها وهم أشد ما يكون إيماناً بعظمة الله.

/ صفحة 31 /

كثير من علماء الفيزياء دخلوا المعامل غير مؤمنين، وخرجوا منها وهم أشدما يكون إيماناً بسلطان الله.

وعلوم الفضاء لها الصدارة على كل العلوم، ولابد أن تنتهي بأصحابها إلى الإيمان واليقين، والإعتراف بعظمة الخلاق وربوبيته.

ومع ذلك،لنظركم تقدم الإنسان بسفره إلى القمر، وهل هو حقيقة تحدي الكون، أو سخر الفضاء؟.

كلنا نعرف أننا نعيش في الكرة الأرضية، وهي سيارة من السيرات التسع التي تدور حولالشمس، والقمر سيارة أخرى أصغر من الأرض، والشمس بدورها تجري في مدار خاص بها، تدور فيه حول مركز مجرتنا الطريق اللبني ـ أو التبني ـ وتكمل دورتها حول المجرة في 250 مليونسنة، ومعروف أن مجرتنا هذه ليست من كبريات المجرات، بل هي واحدة من مجرات تعد بالبلايين، وكل مجرة منها قوامها مئات آلاف الملايين من النجوم والشموس والكواكب.

هذاكله بالنسبة لعالمنا المرئي، ومن الممكن وجود كثير من المجرات خارج النطاق الذي عرفناه، فقد يتعدد وجود الأكوان بحيث يفوق الوصف والخيال.

فالكون وسيع إلى درجة أنالعلماء جعلوا مقياس المسافة فيه السنة الضوئية، والضوء كما نعلم يقطع في كل ثانية 300 ألف كيلومتر.

النظام الأتم:

وهذا الكون الوسيع يحكمه نظام دقيق، يعجز البشرعن التفكير فيه لدقته.

فكل شمس وكل نجم وكل كوكب وكل مجرة تدور في دائرة محددة، لا ينحرف واحد منها عن دائرته، ولا يبطئ في سيره، ولا يسرع عن مألوفه، ولا يتخلف عن حركتهواحد من المليون من الثانية.

والنظام الذي يتحكم في هذا الكون الوسيع، من أرضنا التي هي تحت أقدامنا إلى كواكب في مجرة تعبد عنا بمليوني سنة ضوئية، هو النظام الأتمالذي عجز

/ صفحة 32 /

الإنسان بالأمس عن التفكير لدقته، ولمس اليوم كماله وروعته بخروجه إلى الفضاء، على ظآلة المسافة التي قطعها فيه.

ويكفي دليلاً علىتفاهة ما وصل إليه الإنسان أن نذكر أن المسافة بيننا وبين القمر تقرب من 240 ألف ميل، لو حسبناها بحساب السنة الضوئية، وهي المقياس المألوف لقياس الفضاء، لوجدنا أنها تقطعفي ثانية وربع الثانية، فإذا وضعنا إلى جانب ذلك أن بيننا وبين المجرة المتسلسلة مليوني سنة ضوئية، أدركنا تفاهة ما وصلنا إليه بالنسبة إلى سعة الكون العظيم.

فهل يحقلنا أن نزعم أننا غزونا الفضاء، أو ندعي أننا سيطرنا عليه?.

إن مثل الإنسان في صعوده إلى القمر، كمثل طفل صغير يحبو، تمكن بعد جهد شديد من صعود درجة واحدة في سلم عمارةشاهقة، فلما استقر على هذه الدرجة، جعل ينظر إلى نفسه باعجاب، وينظر إلى ما حوله بغرور، وهو يحسب أنه سيطر على العمارة الشاهقة، مع أنه لم يعرف شيئاً عن ارتفاعها، ولا عنهندستها، ولا يعرف لماذا بنيت، وكم عدد الأدوار فيها.

يقول بليفون العالم الشهير: (إن الكون كله بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها، والتي تندفع في جميعالإتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة، صورة لا يكاد المرء يتخيلها حتى يدركه البهر وتنقطع أنفاسه، ولكن يبدو أن الأجدر أن يبهر ويقطع الأنفاس هو رؤية هذا الكائن البشريالضئيل الذي يعيش على شظية من شظايا نجم صغير في زاوية حقيرة من زوايا مجرة لا تختلف شيئاً عن الملايين من أمثالها، هذا الكائن يجرؤ على أن يسمو ببصره إلى أطراف الفضاء،ويجرؤ فيتحدى، ثم يجرؤ فيحاول أن يعرف الكون).

رسالة السماء:

إن الإنسان لتعتريه الحيرة كلما تعمق في هذا الكون، وإن حيرته لتبلغ منتهاها حين يرى أنه حتى بالنسبةلما وفق فيه، كنزوله على القمر، أو إرساله الصواريخ إلى الزهرة أو المريخ، يجد أن هذا التوفيق مرهون بالنظام الدقيق في حساب

/ صفحة 33 /

الكون، فلو كان هناك تخلفبمقدار ثانية في دوران القمر، أو تغير طفيف في اتجاهه، هل كان الإنسان يمكنه أن يدرك القمر وأن ينزل عليه? لو أن لحظة من التأخير أو السرعة طرأت على حركة القمر، لبقيالإنسان يتيه بسفينته في الفضاء دون أن يبلغ ما يريد.

فتوفيق الإنسان في وصوله إلى القمر، أو في وصول صواريخه إلى المريخ والزهرة، هذا التوفيق نفسه يعتمد كل الإعتمادعلى النظام المحكم الدقيق الذي يسيطر على كل الأجرام السماوية صغيرها وكبيرها، ويجعلها تسير في مداراتها دون أن يطرأ على حركتها أدنى اختلال، كأنما هي عقارب ساعة تتحركعلى مينائها بغاية الدقة وبغاية الإنتظام.

واعتماداً على هذا النظام المحكم الدقيق، لم يكن على الإنسان إلا أن يحسب المدة والطاقة، ويضع لسفينته الأوصاف التي تضمنلها قوة المقاومة للجاذبية والضغط، لتصل إلى النقطة التي يريد، وهذه النقطة تبدو لشدة الضبط كأنها نقطة ثابتة تنتظر وصول سفينة الفضاء.

بغير هذا، هل كان يمكن للإنسانأن يحسب ويقرر أنه في يوم كذا، وفي الساعة والدقيقة والثانية كذا، يمكنه أن يدرك القمر في جانبه المنير، أو جانبه المظلم، ويطابق حسابه الواقع?.

واعتماد الإنسان علىدقة النظام الكوني والإنتفاع به، لا يعني أن الجهود التي بذلت في رحلات الفضاء كانت هينة أو ضئيلة. كلا، بل إن علماء الفضاء قد بذلوا جهوداً جبارة مضنية، وقد حققواانتصارات عملية كبيرة.

فالتغلب على الجاذبية والإنفلات من سلطانها، هو انتصار علمي كبير.

وخروج الإنسان إلى مجال انعدام الوزن والسبح فيه، هو انتصار علمي كبير.

ومعرفة الضغوط المتباينة في مختلف الأجواء، هو انتصار علمي كبير.

وإرسال سفينة تخترق الأجواء، وتحتمل الضغوط، وترسو على القمر، هو انتصار علمي كبير.

/ صفحة 34/

والتحكم في مسيرة سفن الفضاء ذاهبة وآيبة، هو انتصار علمي كبير.

وهذه الانتصارات العلمية، لا تدل فقط على الجهود الضخمة التي بذلها علماء الفضاء، بل تدل كذلكعلى النبوغ والعبقرية والعلم الغزير.

وليس من شك في أن هذه الانتصارات العلمية، قد نقلتنا في مجال المعرفة، من نطاق الفروض والظنون إلى الحقائق المسلمة والواقعالملموس، ومثل هذه النقلة العلمية الكبيرة قد تورث النفس البشرية الحيرة، وحين تبدأ الحيرة تبدأ رسالة الدين؛ وواجب العلماء أن يهتبلوا فرصة حيرة البشر ليضعوا أمامالحائرين قدرة خالق الكون الكون العظيم. ولن يستطيعوا أداء هذا الواجب إلا إذا تتبعوا الحركة العملية، وعنوا بدراسة علم الكون أو علم الفضاء عنايتهم بدراسة علم التوحيد،ليستعينوا بذلك على تثبيت معالم الإيمان.

أما إذا تقوقعوا على أنفسهم، وظلوا سادرين عن كل ما يجري حولهم، وعاشوا على معارف قديمة تناسب قروناً مضت، فويل لهم من هذاالتقصير، وويل للبشرية من علم متمرد طليق.

إن عصرنا هذا سمي بعصر العلوم، ثم سمي بعصر الذرة، وسمي أخيراً بعصر الفضاء، وأرى من الإنصاف أن نسميه عصر التبحر في عظمةالله، وبالتالي عصر التمهيد لمعرفة الله والإيمان بقدرته التي لا تقف عند حدود (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيءشهيد).