لحضرة الأستاذ الفاضل ممحمد بن اسماعيل العمراني
مدرس الحديث بدار العلوم بصنعاء اليمن
لقد جهل كثير من المسلمين عقيدة إخوانهم (الزُّيود) الذين يقطنون الشمال الشرقى من بلاد اليمن جهلا عظيما، كان من نتائجه السيئة أن رموهم بالابتداع فى الدين، و الشذوذفى الرأي، و المخالفة فى المأخذ للأحكام الشرعية، حيث تركوا دراسة كتب الحديث الشريف المشهورة، و رغبوا عن الاحتجاج و العمل بما فيها مستبدليلن بها غيرها من الكتبالمجهولة التى لا يعرفها علماء الحديث و لا يعترفون بها، هكذا رموا من بعض إخوانهم جهلا، كما رموا من بعض آخر بالجمود و التعصب المذهبي، و البغض للسلف الصالح من أصحابالنبى
(صلى الله عليه و سلم)
و الحق أن الزيدية لم يشذوا فى آرائهم عن آراء إخوانهم المسلمين، كما أنهم لم يشذوا فى طريق الأخذ و الاحتجاج، بل هم أقرب المذاهب
، فإنها مهما اختلفت عن أصلها فى بعض من المسائل الفقهية اليسيرة، أو خالف بعضها بعضاً فى شيء منذلك، نراها تتفق كثيراً مع أصلها فى عدة مسائل كثيرة كبرى و توافق غيرها من المذهب الإسلامية الأخري، كما وافقها أصلها، لأنها فرق متفرعة عنه، و متولدة منه، ولا تخرج عنهإلا نادراً، لاسيما المذهب الهادوي، الذى أسسه إمام اليمن الإمام الهادى يحيى بن الحسين رضوان الله عليه، و تمذهب به زيدية اليمن، و ظل المذهب الرسمى للحكومة اليمنيةأكثر من ألف عام، و هو أيضاً كأصلة فى الموافقة غالبا لماعليه المذهب الإسلامية الأخرى و على الخصوص مذهب الحنفية الذى يتمذهب به كثير من المسلمين، و تمذهب به كثير من دولالاسلام و حكوماته قديماً و حديثاً، وظل المذهب الرسمى للحكومة المصرية حتى الآن، و كتب الهادوية شاهدة على ما قلته من الموافقة، حتى كان بعض ائمة الهادوية يرى الأخذ منأقوال أبى حنيفة ـ إذا لم يجد للهادى نصاً فى آية مسألة فقهية ـ مذهباأ للإمام الهادى و هذا أكبر دليل على أن المذهب الحنفى و المذهب الهادوى أخوان.
بل يمكن أن أصرحللقاريء بأن المذهب الحنفى أقرب إلى المذهب الزيدى أو الهادوى منه إلى المذهب الحنبلي، نعم ربما تفردوا بأقوال قد لا يوافقهم عليها أحد من أئمة المسلمين، و لكن فى مسائلجزئية محصورة، تعد بالأصابع، لا تخرجهم إلى البدعة، و لا توجب نبزهم بالشذوذ و البتداع.
و كم من عالم شذَّ فى بعض أقواله العلمية، و آراءئه الفقهية، و اغتفروا له ذلكالشذوذ، و لم يخرجوه من دائرة السنة إلى البدعة، ولم ينبزوه بالشذوذ و الابتداع.
و هم أيضا أبرياء مما اتهمهم البعض به، من عدم دراستهم لكتب الحديث الشريف، و عدمالعمل و الاحتجاج بما فيها، كيف لاوهذه كتبهم أكبر برهان على رد هذه التهمة التى ليس لها مستند سوى توهم أن تفردهم برواية كتب حديثية رويت لهم من طريق أهل البيت مما يدلعلى جهلهم بكتب الحديث المشهورة المتداولة لدى جماهير المسلمين، و الواقع أنهم جمعوا بين الدراسة لكتب أهل البيت النبوي
كالمجموع الفقهى و التجريد و الأماليات، وبين الدراسة لكتب المحدثين كالأمهات الست و ما
يتبعها من المسانيد و المجاميع و المعاجيم، و أعظم البراهين على قراءتهم لها و عملهم بأدلتها، و نقلهم عنها، واحتجاجاتهم بها فى مؤلفاتهم الفقهية، لا سيما مؤلفات متأخريهم كالإمام القاسم بن محد فى (الاعتصام) و السيد أحمد بن يوسف زباره فى (أنوار التمام) و السيد حسن الحلال فى(ضوء النهار) و القاضى حسين السباعى فى (أنوار التمام) و السيد حسن الجلال فى (ضوء النهار) و القاضى حسين السباعى فى (الروض انظير) و هكذا غير هم كمن اعتنى بالتخريح لكتبهم منكتب المحدثين كالضَّمدى فى تخريجه أحاديث الشفاء، و ابن بهران فى تخريجه أحاديث البحر الزخار.
و يؤيد برهاننا هذا ما نراه فى تراجم علمائهم عموما و المتأخرين منهمخصوصا، من أخْذهم عن مشايخ مذهبهم كتب أهل البيت أولا، و كتب أهل الحديث ثانيا، بل ربما أخذوا فى كتب الحديث عن غير مشايخ مذهبهم من شافعية و أحناف، و حسب القاريء أن يتصفحماقد طبع بالقاهرة من تراجم علمائهم (كالبدر الطالع) و (المحلحق التابع) و (نيل الوطر) و (نشر العرف) و غيرها.
و هكذا مما يؤيد ما ذكرته مايراه القاريء فى مؤلفات متأخريهمالتيث جمعوها فى الأسانيد و الأجايز و الاثبات، و يكفيه ما قد طبع منها فى الهند و مصر كإتحاف الأكابر و (العقد النضيد) و كلها مؤيدة لما ذكرته من غزارة معين علومهمالدينية، وسعة دائرة معارفهم الفقهية حيث جمعوا بين علوم أهل البيت النبوى و علوم أهل الأثر و الحديث أخذاً و تدريساً و عملا و احتجاجا، و هذا إن دل على شيء فهو براءتهممما اتهموا به من قصورهم فى معرفة كتب المحدثين، و رغبتهم عن العمل بما فيها، كما يدل فى نفس الوقت على نهمهم العلمى و تحررهم الفكرى تحرراً مقرونا بالتسامح و الانصاف، ولو عرف الذين يتهمونهم بهذه التهمة حقيقة أمرهم لجعلوا تفردهم برواية هذه الكتب حسنة من حسناتهم لا سيئة من سيئاتهم، على أنه قد يوجد منهم من لا يأخر و لا يدرس كتب الحديثالشريف، ولا يرى العمل بما فيها، و لكنه قليل نادر يتضاءل أمام الكثير الغالب تضاؤلاً يمنع من الحكم على جميعهم بذلك.
و هم لا يتعصبون على غير هم ممن يخالفهم فى الفقهالاسلامى من إخوانهم المسلمين ممن يتعبد بأى مذهب إسلامى إذا كان خلافة فى المسائل الفقهية اللاتى لا يخل الخلاف فيها بجوهر الدين أى إخلال، و كتبهم الأصولية و الفروعيةدالة أكبر دلالة على براءتهم من التعصب المذهبي، و على إحسانهم الظن بكل من يخالفهم خلافا فقهياً مادام لا يمس الدين، و لا يخل بأصل من أصول الاسلام الكبري.
و هاكبعضاً من قواعدهم الأصولية و الفروعية المنصوص عليها فى أكبر مؤلفاتهم و أشهرها، مثل قولهم:
«الاجتهاد جائز لمن حقق علوم الجتهاد الخمسة المذكورة فى علم الأصول».
«لكل مجتهد نصيب».
«إذا اختلف مذهب إمام الصلاة و مذهب المؤتم به فالامام حاكم».
«لا إنكار فى حكم مختلف فيه ».
«لا يكون التكفير و التفسيق إلا بدليل قاطع».
«حكم الحاكم بين الخصمين يقطع النزاع مهما كان مذهب الحاكم، وكيفما كان مذهب الخصمين».
«الجاهل الصرف الذى لا يعرف عن المذاهب شيئا مذهبه مذهب من وافق».
«كلمسألة خلافية خرج وقتها فلا يجب على المكلف قضاؤها و لو أداها مخالفة لمذهبه مهما كان اخلاف قد وقع فيها لمصادفة فعله قول قائل من علماء المسلمين».
و غير ذلك منالقواعد الكلية الكبرى الدالة على ما ذكرته آنفا من أنهم على قدر كبير من التسامح المذهبي.
على أنه قد يوجد فى بعضهم شيء من التعصب المذهبي، و لكنه فى الغالب يكون فىالعامة الذين لا يعرفون عن أصل مذهبهم شيئا، و ربما و جد فى بعض الخاصة، ولكنه وجود نادر قد يكون لأسباب خارجية لاعلاقة لها بأصل المذهب، كما يوجد مثل ذلك فى جميع المذاهبالاسلامية من بعض الأفراد الذين قل أن يخلو عنهم مذهب من المذاهب كما نطقت بذلك كتب التاريخ.
و هم أيضاً لا يجمدون على ما نصه إمام مذهبهم، بل طريقتهم أنهم إذا رأوا فىآية مسألة أن غير إمامهم أرجح دليلا منه أخذوا بقوله غير مستنكفين ولا آنفين فى الميل عن إمامهم إلى إمام آخر من أئمة المسلمين مادام هذا الامام قد تمسك بدليل أرجح مندليل إمامهم، بل إن البعض منهم بستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، و يتخذ هذه الأ حكام المستنبطة مذهبآ له غير عالم بمن قد سبقه إلى هذا المذهب ، و بمن قد وافقهعلى هذا الرأى ، و ذلك كله نتيجة لفتحهم باب الا جتهاد المطلق الذى كان قد أوصده الجمهور على أنسفهم بلادليل، و لذلك نرى كثيراً منهم يذهبون إلى آراء قد توافق إمامذهبهم، و قد لا توافق، و قد يكون فيها مرجحاً لمذهب عالم سني، و قد يكون رآه ابتداء، و ذلك كالإمام يحيى بن حمزة مؤلف (الانتصار) و غيره، و الامام عبدالله بن حمزة مؤلف(الشافي) و غيره، و الامام المهدى أحمد بن يحيى مؤلف (البحر الزخار) و غيره، بل جاء بعدهم من فتحوا باب الاجتهاد المطلق على مصراعيه غير هيابين و لا خائفين ولا وجلين، ودخلوا منه غير هيابين و لا مبالين بمخالفة أى عالم مهما كان علمه ماداموا قد تمسكوا بالكتاب و السنة، فتركوا المذاهب الفقهية و الأصولية و الكلامية أجمع، و رجعوا إلىأصول الدين الاسلامى و أدلته الشرعية الصحيحة، و أعلنوا اجتهادهم المطلق أصولا و فروعا و كلاما و تفسيراً و حديثاً و فقهاً فى عصور عزّ الاجتهاد فى واحد منها، أولئكأمثال السيد محمد بن إبراهيم الوزير مؤلف (العواصم و القواصم) و (إيثار الحق على الخلق) و (والروض الباسم) و (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان) و (البرهان القاطع) و(تنقيح الأنظار) و غيرها من المؤلفات القيمة، و الشيخ
صالح المقبلى مؤلف (العلم الشامخ فى إيثار الحق على الآباء و المشايخ) و (الأرواح النوافح) و (المنار علىالبحر الزخار) و (الاتحاف لطلبة الكشاف) و غير ذلك. و السيد حسن الجلال مؤلف (نظام الفصول) و (ضوء النها) و (العصمة عن الصلا)، و غيرها. و السيد محمد بين اسماعيل الأميرالصنعاني، مؤلف (سبل السلام) و (منحه الغفار) و (العدة) و (التحبير) و (الروضة) و غيرها، و القاضى محمد الشوكانى صاحب المؤلفات القيمة، التى لو لم يكن منها إلا ما قد طبع لكفتهفخراً، فكيف و الكثير منها لم يطبع، فمن مؤلفاته المطبوعة (نيل الأوطار) و (الدرارى المضَّية) و (تحفة الذاكرين) و (القول المفيد) و (فتح القدير) و (إرشاد الفحول) و غيرها،فلله دره من مذهب أنجب أمثال هؤلاء العلماء فى عصور ساد فيها التقليد و الجمود و عز فيها التحرر الفكري، و سد باب الاجتهاد.
و مهما يكن من الأمر فإن زيدية اليمن ليسواكما يتوهم الكثير ممن يجهل حالهم و فقههم، بل هم إن قلدوا فإنما يقلدون ائمة مذهبهم الذى لا يخرجهم عن مذاهب إخوانهم أهل السنة، لا سيما الأحناف، و إن اجتهدوا و تحرروا،فاجتهاد الوزير و المقبلى و الأمير و الجلال و الشوكاني، هؤلاء العلماء الذين لا يعرف أحد قدرهم إلا بعد أن يحيط علماً بجيع مؤلفاتهم القيمة، و هم كغير هم من أهل المذاهبالإسلامية الأخرى فى التولى للخلفاء الراشدين، و التعظيم لهم بصفتهم و زراء النبى
(صلى الله عليه و سلم)
و أعظم مناصريه، و من انتقصهم منهم، فهوا إما من العوامالجهال، أو من الخاصة المتعصبين.
و الدليل الصحيح على هذا هو ما نراه فى كتبهم الكثيرة اللاتى ألفها أكبر علمائهم، من النقل عن جماهير أئممتهم و على رأسهم إمام مذهبهمالأكبر الإمام زيد بن على رضوان الله عليه، من وجوب التولى و الحب و التعظيم، لجميع الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، و حسب القاريء أن يتصفح منها ما قد طبع بمصر منالمؤلفات القيمة اللاتى تبين لهم صدق ماقلته من براتهم من كل ما اتهموا به من رفض و ابتداع، أذكر منها على سبيل المثال: (الرسالة الوازعة للمعتدين) المطبوعة
بالقاهرة، و مجموعة ضمن الرسائل اليمنية اللاتى طبعت منذ عشرين عاما تقريباً، و هى للإمام يحى بن حمزة اليمنى الزيدي.
و حاصل هذا المقال، هو أن من تجرد من أثوابالتعصب المذهبى و نظر فى مؤلفات زيدية اليمن عموما، و فيما قد طبع منها خصوصاً، لا يخرج منها إلا مؤمنا أعظم إيمان بأن إخوانه (الشيعة الزيدية) ليسوا كما أشيع عنهم جهلا منالشذوذ و البتداع فى الرأى و العقيدة و الرواية و المأخذ، كما أنهم أيضا بريئون من الجمود و التعصب المذهبى الذى طالما رموا به، بل إنهم كغير هم من إخوانهم المسلمين روايةو أخذا للشريعة الإسلامية من دواوينها المشهورة التى دونها أئمة الحديث و حفاظه المشهورون، كما أنهم أيضا كغيرهم من المسلمين انصافا و تسامحا و حرية و حبا للسلف الصالحمن أصحاب النبى صلى الله عليه و آله و سلم، و توليا لخلفائه الراشدين، و فى الوقت نفسه يؤمن أكمل إيمان بأنهم من أبعد المسلمين عن البدعة، و أقربهم إلى السنة، و أن المذهبالزيدي، و المذهب الحنفى أخوان، و مهما تخالفا فلن يخرج المذهب الزيدى عن أى مذهب من المذهب الإسلامية الأخري، و هكذا ما تفرع عنه من فرقٍ و مذاهب، حكمها حكمه خصوصاًالمذهب الهادوى منها، و قد يشذ هذا الأخير و ينفرد بأقوال لا يوافقه عليها غيره مطلقا، و لكنه انفراد يسير فى مسائل جزئية محصورة.
و هكذا صار واضحاأن ما أشيع عنهم، هممنه برآء، و مهما وجد بعض من ذلك، فلن يتجاوز عدداً مخصوصاً من متطر فى فقهائهم يتضاءل أمام الجم الغفير من علماءهم الذين ترى أقوالهم العلمية مسجلة على صفحات الكتب بروحعظيمة من التسامح و الانصاف و التحرر الفكري؟