لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت
خلاصة ما سبق فيما تضمنه النداء الثالث من نداءات سورة المائدة: نعمة الله على عباده -(مواثيق الله مع الناس) ميثاق الاعتراف بالربوبية - ميثاق الطاعة والامتثال بمقتضىالايمان - ميثاق الانبياء على البلاغ و تصديق بعضهم لبعض - ميثاق بنى آدم باتباع الهداية، و ترسم الرسالات الالهية - (المواثيق الخاصة ببعض الامم) ميثاق بنى اسرائيل - ميثاقأمة الاجابة لمحمد - ميثاق الله على نفسه - عهد الله للاولين هو عهده للاخرين - خطة الهية واحدة لانسانية فى قديمها و حديثها واحدة - النداء الرابع (ما يشتمل عليه هذا النداء)القوامية لله، و أثرها فى السمو بالانسان - القيام بالقسط و حمايته و لو بالقوة - العدل مع الصديق و العدو - اجمال مواطن الامر بالعدل فى القرآن - النداء الخامس: رواياتالمفسرين عن سبب نزول آيته - الاية تذكر بوقائع الاعتداء على المؤمنين عامة - و عمومها يشمل الاولين و الاخرين الى يوم الدين - عناية القرآن بتذكير المؤمنين بحوادث النصر -سر هذه العناية - موازنته بين نصر الله للمؤمنين و خذلانه للمكذبين و المخالفين - النداء السادس: لهذا النداء مكانة خاصة على ما قبله و ما بعده من نداءات السورة - ما يأمر بههذا النداء هو ملاك الامر كله - تذييل الاوامر القرآنية بالامر بالتقوى - ما يدل عليه ذلك من المعنى المقصود للتقوى - الوسيلة و المراد منها فى هذه الاية.
تكلمنا فى العددين السابقين على ما تضمنه النداء الثالث مما يجب على المؤمن
أن يقوم به اذا أراد الصلاة، و كان من ذلك أولا - بيان أعضاء الوضوء و أعماله. و ثانياً: التطهر عند حصول الجنابة. و عرضنا فى هذا الموضوع الى تحقيق الموجب للغسل فى تلكالحالة، و خرجنا منه بترجيح مذهب الجمهور و هو: أن مجرد الالتقاء الوارد فى الحديث المشهور موجب للغسل حصل انزال أم لم يحصل انزال، كما عرضنا الى أن مصدر وجوب الاغتسالعلى المرأة من الحيض، انما هو السنة الصحيحة، و أن القرآن لم يشر فى قليل و لا كثير الى وجوب التطهر منه، و قلنا فى هذا المقام ان ((السنة)) مصدر مستقل فى بيان الاحكام التىلم يعرض لها القرآن اثباتاً أو نفياً، على أنه مما لا يقبل من أحد خلافه أن السنة تلحق ما لم يعرض القرآن لحكمه بما عرض له القرآن متى وجد المعنى الذى لاجله كان الحكمالقرآنى فى الملحق به.
عرضنا لهذا، و عرضنا لبدلية التراب أو الصعيد الطاهر عن الماء، و بينّا سر هذه البدلية، و ما تدل عليه من المعانى التى تتصل بالطهرالنفسى، و استبقاء دوافع الامتثال فيما كلف به المؤمن من عملية الطهارة المطلوبة للصلوة. و تكلمنا بوجه خاص على الاسباب المبيحة للتيمم و ما تدل عليه الاية مع وقفة فىالمقارنة بين ما اشتهر فى المذاهب الاسلامية فى هذا الموضوع و ما يستفاد من الاية بمقتضى أسلوبها، و بمقتضى ما عرف فى الشريعة من الاسباب المبيحة للترخص، و أشرنا الىكلام الفقهاء فى نواقض الوضوء و ما تشير اليه منها آية التيمم، و بينا مواضع اتفاقهم، و مواضع اختلافهم مع الاشارة الى ترجيح ما رأينا ترجيحه من مواضع الاختلاف فى تلكالنواقض، و قد ختم هذا النداء بارشادين، لكل منهما أثر كبير فى توجيه المؤمنين الى التزام ما شرع الله من أحكام يطهّر بها النفوس، و يتمّ بهما النعمة دون ارهاق و لااعناب.
تضمن أول الارشادين قوله تعالى ((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) .
و تضمن ثانىالارشادين قوله تعالى بعد، ((واذكروا نعمة الله عليكم
و ميثاقه الذى واثقكم به اذ قلتم سمعنا و أطعنا و اتقوالله ان الله عليم بذات الصدور)) .
يذكر هم بأمرين: نعمة عليهم، و ميثاقه و عهده الذى عاهدهم به، و لله على المؤمنين نعم عامة تشملهم و تشمل غيرهم، و هى نعم الخالقية، و نعمالربوبية، و تنتظم نعمة الخلق و التكوين، و نعم التربية البدنية و العقلية، و نعم تسخير ما خلق فى السموات و الارض و ما بينهما لمصلحة الانسان، و قد أشار القرآن فى جميعسوره الى تفصيل كثير من هذه النعم ((هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات و هو بكل شىء عليم)) ((و لقد مكنا كم فى الارض و جعلنا لكم فيهامعايش قليلا ما تشكرون)) ((و هو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر و البحر، قد فصلنا الايات لقوم يعلمون، و هو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قدفصلنا الايات لقوم يفقهون، و هو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شىء، فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات منأعناب و الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه، انظروا الى ثمرة اذا أثمر و ينعه ان فى ذلكم لايات لقوم يؤمنون)) ((خلق الانسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين، و الانعام خقلهالكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون)) اقرأ هذه الاية و ما بعدها من سورة النحل الى قوله تعالى: ((و ان تعدوا نعمة الله لاتحصوها)) ثم ارجع و اقرأ من قوله تعالى: ((و الله أنزلمن السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها ان فى ذلك لاية لقوم يسمعون)) الى قوله ((يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها و أكثرهم الكافرون)) ، و اقرأ فى سورة الروم من قوله تعالى ((ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم اذا أنتم بشر تنتشرون)) الى قوله ((و له المثل الاعلى فى السموات و الارض و هو العزيز الحكيم)) .
و ما يحيط بك من عناصر هذا الكون و أفاعيلها فى نفسك لتعرف مقداره، أو لينفخ لك باب من أبواب المعرفةبنعمة الله عليك و على الناس و على الخلق أجمعين، و على المؤمن بعد ذلك الذى أجاب دعوة محمد، و نزع نفسه من الشرك و الوثنية أن ينظر فيما أنعم الله به عليه من نعمة الايمانو الهداية، و نعمة النصرة على الاعداء، و نعمة الاتحاد و الاعتصام، ((و اذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخواناً و كنتم على شفا حفرةمن النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)) ((و اذكروا اذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم و أيديكم بنصرة و رزقكم منالطيبات لعلكم تشكرون)) .
و كما لله على عباده المؤمنين نعم عامة و خاصة، له مع عباده أنواع منالمواثيق أخذ بعضها على نفسه، و أخذ بعضها عليهم. أخذ عليهم ميثاق الايمان بوجوده، و الاعتراف بخالقيته، ((و اذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهمألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ و كذلك نفصلالايات و لعلهم يرجعون)) (1) و بمقتضى هذا العهد قالوا فى جواب: من خلق السموات و الارض؟ خلقهن الله.
أخذعليهم ميثاق الايمان على القيام بالاحكام، و الطاعة و الامتثال، و يتجلى هذا فى جميع التكاليف التى مهد لها بالنداء بوصف الايمان، ((يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود))((يأيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله)) ((يأيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم)) (2) و هكذا الى آخر ما تراه فى القرآن من نحو هذه الايات الدالة على أنالايمان يقتضى العمل بالاحكام.
(1) الاعراف 172، 173.
(2) النداءات الاولى من سورة المائدة.