لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم
رئيس لجنة الفتوى بالازهر ووكيل جماعةالتقريب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحدهما: أحكام ثابتة، يجب الإيمان بها، ولا يسوغ الاختلاف فيها وليس من شأنها أن تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا أن تخضعلبحث الباحثين، واجتهاد المجتهدين. ذلك بأنها ثابتة عن الله تعالى بطريق يقيني لا يحتمل الشك، واضحة في معانيها، ليس فيها شئ من الإبهام أو الغموض.
والثاني: أحكاماجتهادية نظرية مرتبطة بالمصالح التي تختلف باختلاف ظروفها وأحوالها، أو راجعة إلى الفهم والاستنباط اللذين يختلفان باختلاف العقول والأفهام، أو واردة بطريق لا يرقىإلى درجة العلم واليقين، ولا يتجاوز مرتبة الظن والرجحان.
والنوع الأول من الأحكام، وهو القطعي في روايته ودلالته ـ هو الأساس الذي أوجب الله على المسلمين أن يبنواعليه صرح وحدتهم غير متنازعين، وربط به عزهم وقوتهم وهيبتهم في أعين خصومهم والمتربصين بهم. والمسلمون كلهم مؤمنون به إيماناً ثابتاً لا يتزعزع، لا فرق في ذلك بين طائفةمنهم وطائفة.
/ صفحه 10 /
وإن جميع الآيات التي جاءت في النهى عن التفرق، وذم الاختلاف، والتحذير منه، وضرب الأمثال بما كان من الأمم السابقة حين تفرقواواختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، إنما تعني الاختلاف والتفرق في هذا النوع من الأحكام، ومن ذلك قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ). (ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات).(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لايعلمون. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون).
فهذا هو الاختلاف المذموم المنهى عنهفي كتاب الله تعالى.
أما النوع الثاني من الأحكام، فإن الاختلاف فيه أمر طبيعي، لأن العقول تتفاوت، والمصالح تختلف، والروايات تتعارض، ولا يعقل، في مثل هذا النوع أنيخلو مجتمع من الاختلاف، ويكون جميع أفراده على رأى واحد في جميع شئونه، وهذا النوع من الاختلاف غير مذموم في الإسلام، ما دام المختلفون مخلصين في بحثهم، باذلين وسعهم فيتعرف الحق واستبانته، بل إنه ليترتب عليه كثير من المصالح، وتتسع به دائرة الفكر، ويندفع به كثير من الحرج والعسر، وليس من شأنه أن يفضي، ولا ينبغي أن يفضي، بالمسلمين إلىالتنازع والتفرق، ويدفع بهم إلى التقاطع والتنابز.
ولقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
، والتابعون لهم بإحسان، والأئمة عليهم الرضوان، يختلفون، ويدفعبعضهم حجة بعض، ويجادلون عن آرائهم بالتي هي أحسن، ويدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم نسمع أن أحداً منهم رمى غيره بسوء، أو قذفه ببهتان، ولا أن هذاالاختلاف بينهم كان ذريعة للعدواة والبغضاء، ولا أن آراءهم فيما اختلفوا فيه، قد اتُخِذت من قواعد الإيمان وأصول الشريعة التي يعد مخالفها كافراً أو عاصياً
/ صفحه11 /
لله تعالى، وقد كانوا يتحامون الخوض في النظريات، وفتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين، ويحتمون الاعتصام فيها بالمأثور، سداً لذريعة الفتنة، وحرصاً علىوحدة الأمة، وتفرغا لما فيه عزهم وسعادتهم وارتفاع شأنهم، ولذلك كانوا أقوياء ذوى عزة ومهابة (أشداء على الكفار رحماء بينهم).
ولكن المسلمين لم يلبثوا أن انحرفوا عنهذه السبيل، واتخذوا من خلافاتهم عصبيات جامدة لا تعرف التفاهم، ولا تنزل على حكم البرهان والعقل، فكانوا باختلافهم المذهبي كالمختلفين في الدين، يتبادلون سوء الظن.ويتراشقون بالتهم جزافاً، وينظر بعضهم إلى بعض في حذر وحيطة، بل أفضى بهم ذلك في كثير من الأحيان إلى التضارب والتقاتل وسفك الدماء، وبذلك انحلت عرى الأمة، وانفصمتوحدتها، وقدر عليها أعداؤها، ونزع الله هيبتها من القلوب، وأصبحت غثاء كغثاء السيل، وانقلب الخلاف الذي كان رحمة ونعمة، إلى بلاء وشر وفتنة، وصار مثله كمثل الخلاف فيالأصول، والنزاع على الأسس الأولى للإيمان.
ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يخشى هذا التفرق، ويحذّر منه، وكان يشبه المؤمنين بالجسد الواحد. ولم يكن شئأبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية.
إن هذه الأمة لن تصلح إلا إذا تخلصت من هذه الفرقة، واتحدت حول أصول الدين، وحقائق الإيمان،ووسعت صدرها فيما وراء ذلك للخلافات ما دام الحكم فيها للحجة والبرهان.
ولقد أدركنا في الأزهر على أيام طلبنا العلم، عهد الانقسام والتعصب للمذاهب ولكن الله أراد أننحيا حتى نشهد زوال هذا العهد، وتَطهُّرَ الأزهر من أوبائه وأوضاره، فأصبحنا نرى الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، إخوانا متصافين وجهتهم الحق، وشرعتهم الدليل، بلأصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه
/ صفحه 12 /
الذي درج عليه، في أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه، وقد جريت طول مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهرـ وهي أكثر من عشرين عاماً ـ على تلقي المذاهب الإسلامية ـ ولو من غير الأربعة المشهورة ـ بالقبول، ما دام دليلها عندي واضحاً، وبرهانها لديّ راجحاً، مع أنني حنفيالمذهب، كما جريت وجرى غيري من العلماء، على مثل ذلك فيما اشتركنا في وضعه أو الإفتاء فيه من قوانين الأحوال الشخصية في مصر. مع أن المذهب الرسمي فيها هو المذهب الحنفي.وعلى هذه الطريقة نفسها تسير (لجنة الفتوى بالأزهر) التي أتشرف برياستها. وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة.
فإذا كان الله قد برأ المسلمين من هذه النعرةالمذهبية التي كانت تسيطر عليهم إلى عهد قريب في أمر الفقه الإسلامي، فإنا لنرجوا أن يزيل ما بقى بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع في الأمور التي لم يقم عليها برهان قاطعيفيد العلم. حتى يعودوا كما كانوا أمة واحدة. ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح في التفرغ لما فيه عزتهم. وبذل الوسع فيما يعلي شأنهم. والله الهادي إلى سواء السبيل. وهو حسبنا ونعمالوكيل.
قال ابو العيناء: قلت لابن أبي داود: إن قوماً من أهل البصرة قدموا (سرَّ من راى) يداً عليَّ
فقال: يد الله فوق أيدهم !
قلت: إنلهم لمكرا
فقال: ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.
قلت: إنهم كثير.
فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين.
فقلت: لله درُّ القاضي !