بین فحطان وعدنان

عبدالجواد رمضان

نسخه متنی
نمايش فراداده

بين فحطان وعدنان

بين فحطان وعدنان

لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الشيخ عبدالجواد رمضان

يطبق المؤرخون، على أن الجزيرة العربية. كانتموطناً لقحان، التي كانت تنزل اليمن أصلا ; و لعدنان، التي كانت منازلها في الشمال، و لم يكن الشعبان على حظ واحد من الحياة، بل كانت اليمن ذات حضارة تعقد لها دائماً لواءالفخر على عدنان كلها، و تبسط سلطانها السياسي ـ مع ذلك ـ على بعض قبائلها ; مما جعل الجزيرة مسرحا لاحداث سياسية بين الجذمين، أشعلت جذوة الادب، و أطلقت السنة الشعراء، وتركت آثارها في الشعر، إلى أوائل القرن الخامس الهجرى ; و ما تزال مائلة فيه إلي اليوم.

و أبرز هذه الاحداث، انفصال عدنان عن قحطان، في القرن الخامس الميلادى على يدكليب بن ربيعة: لما ولى صاحب اليمن زهير بن جناب الكلبي على ربيعة، فأرهقهم و سامهم الخسف، فدسوا عليه رجلا فانكا من بني تيم الله ; يسمي زيابة، طعنه و هو نائم، طعنة ظنهاقاتلة ولكنها لم تصب منه مقتلا، فاحتال زهير حتي نجا; ثم جمع لهم اليمن و هزمهم ; و أسر كليب و مهلهلل، و آخرون من وجوه ربيعة ; و في ذلك يقول زيابة:

طعنة ما، طعنت في غسقالليل *  *  * زهيرا، و قد توافى الخصوم

حين يحمي له المواسم بكر *  *  * أين بكر، و أين منها الحلوم؟(2)

خانني السيف إذ طعنت زهيراً *  *  * و هو سيف مضلل مشؤم

 

/ صفحه 151/

 

ـــــــــــ

1- أنظر كتاب الامامة و السياسة (2/117 - 118)

2- المواسم، جمع موسم :الربيع.

بيد أن ربيعة تجمعت، تحت رايه ربيعة أبيكليب، و حملت حملة استردت بها الاسرى، ثم التقوا على صلح لم يلبث بعده زهير أن عاد إلي ظلمهم. و لما خلف كليب أباه على ربيعة بعد موته، جمع معداً كلها تحت لوائه: ربيعة، وقضاعة، و مضر، و إياد، و نزار; و حارب اليمن في موقعة عرفت بيوم خزازى، و هو جبل بين مكة و البصرة ; و هي التي يقول فيها عمرو بن كلثوم:

و نحن عذاة أوقد في خزازى *  *  *رفدنا فوق رفد الرافدينا

و كنا الايمنين إذا التقينا *  *  * و كان الايسرين بنو أبينا

فصالوا صولة فيمن يليهم *  *  * و صلنا صولة فيمن يلينا

فآبوابالهاب و بالسبايا *  *  * و أبنا بالملوك مصفديا

وفيها انتصفت عدنان من قحطان، و استقلوا عنهم ; و نشأ من ذلك أن طغي كليب فقتله جساس، و انبعث الحرب بين بكر و تغلب، وكانت مبعثا لفيض من الشعر الربعي ; فقصدت القصائد، و نشطت المناقضات، و المرائي ; و كان المجلي في الميدانين المهلهل ; فمضى ـ لذلك ـ بأنه أول من هلهل الشعر!

و انفصلتكذلك أسد و غطفان عن كندة، و كندة بطن من كهلان، و كانوا يلون المناصب لليمن، فملكوا أحدهم، و هو حجر الجد الثاني لامرى ء القيس على أسد و غطفان و بعض قبائل ربيعة في نجد; ولما ضعف شأن اليمن، نحاز الحرث الكندى إلي كسرى، فأقر ولايته عليهم ; ثم قتل الحرث، فتولي حجر أبو امرى ء القيس، و كان عبيد بن الابرص الاسدى نديماً لحجر، و هو الذي يقولله: غب ثورة من أسد عليه كان نصيبها الفشل:

ومنعتهم نجدا فقد *  *  * حلوا ـ على وجل ـ تهامه

برهت بنو أسد كما *  *  * برمت ببيضتها الحمامه

مهما تركت،تركت عف *  *  * وا،أو قتلت، فلا ملامه

ذلوا لسوطك مثلها *  *  * ذل الاشيقر ذو الخزامه

أنت المليك عليهم *  *  * و همو العبيد إلي القيامه

 

/صفحه 152/

ولكنهم لم يبقوا عبيداً إلي القيامة ـ كما زعم عبيد ـ بل انتقضوا مرة أخرى و قتلوا ربهم، و شردوا امرأ القيس و علموه البكاء; و تغير بإزائه موقف عبيد.

وانتصرت تميم على اليمن، في يوم الكلاب الثانى، و مدح شعراء اليمن تميما، و أشادوا بشجاعتها، و أسر عبد يغوث قائد اليمن، ورثي نفسه قبل أن يموت بقصيدته المشهورة:

ألا، لا تلوماني، كفي اللوم مابيا *  *  * فما لكما في اللوم خير ولاليا

و تضحك مني شيخة عبشمية *  *  * كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا

                                               *  *  *

و شهد الإسلام إبان مشرقه، فصلا من فصول الصراع، بين يمن و عدنان، يمثل الاولي أبنا قيلة: أنصار رسول الله صلي الله عليه و سلم، ويمثل الاخرى قريش ; تقارعت فيه السيوف، ببدر و أحد و غيرهما، و تقارعت الالسن، بين شعراء الرسول من الانصار: سادتنا حسان بن ثابت، و عبدالله بن رواحة، وكعب بن مالك ; وشعراء قريش. عبدالله بن الزبعرى، و أبى سفيان بن الحرث، و عمرو بن العاص. على أن ذلك كان يستره حجاب من الجهاد في سبيل الدين، ينأى به عن الشهوات الجاهلية، و العصبياتالقبلية ; حتي إذا لحق الرسول بالرفيق الاعلى، تحرك رأس الافعي يوم السقيفة، فسمع المسلمون من يصيح: نحن الخلفاء لاننا آوينا و نصرنا ; أو: منا أمير و منكم أمير. و من يقول:إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ; و لكن: نحن الامراء و أنتم الوزراء.

فإذا انتقلنا إلي «الشورى» سمعنا مروان بن الحكم يقول لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إنكإن تول عثمان لا يختلف عليك قرشي، فيقول عمار بن ياسر: إنك إن تول علياً لا يختلف عليك مسلم!

حتي إذا بلغت صفين، رأيت أبا تراب ـ كرم الله وجهه و رضي عنه ـ يقول:

ناديت همدان و الابواب مغلقة *  *  * و مثل همدان ثنّي فتحة الباب(1)

 

/ صفحه 153 كالهند واني لم تفلل مضاربه *  *  * وجه جميل، و قلب غير و جاب/

                                                                   *  *  * *  *  * و لو كنت بوابا على باب جنة *  *  * لقلت لهمدان: ادخلي بسلام

و همدان قبيلة يمنية.

و كان إبراهيم بن الاشتر النخعي اشجع قواده و أخلصهم، و من قواده الشعث الكندى، و هو الذي أكره على قبول التحكيم، و شغب على ابنه الحسن رضي الله عنهما، لما لمح ميله إليصلح معاوية، و الب عليه الجيش حتي و طيء بساطه، و انتهب فسطاطه.

و الاشتر و الاشعث من يمن.

و هجاء الاخطل للأنصار، و احتجاج النعمان بن بشير على معاوية بقصيدته التيمطلعها:

معاوى إن لا تعطنا الحق تعترف *  *  * لحي الازد مشدودا عليها العمائم

أيشتمنا عبد الاراقم؟ ضلة *  *  * و ماذا الذي تغنيه عنك الاراقم

من المتعالمالمشهور.

و يتهاجي عبدالرحمن بن الحكم، و عبد الرحمن بن حسان، و يستشرى بينهما الشر، و يطول الصيال ; و يقول عبدالرحمن بن الحكم:

أزجر كلابك، إنها قلطية *  *  * بقع،و مثل كلا بكم لم تصطد

فيجيبه عبدالرحمن بن حسان:

من كان يأكل من فريسة صيده *  *  * فالتمر يغنينا عن المتصيد

 

ـــــــــــ

1- ثني فتحة الباب: جعلهافتحتين اثنتين.

 

إنا أناس ريقون، و أمكم *  *  * ككلابكم، في الوانع و المتردد

حزناكم للضب تحترشونه *  *  * و الريف يمنعكم بكل مهند

فترى في شعر ابن حسان،صورة لما كان يفخر به قحطان على عدنان

 

/ صفحه 154/

في الجاهلية، من أن الاولين أهل حضارة و استقرار، و أن الآخرين رعاة رحل لا وطن لهم و لا قرار!(1)

«يقول النويرى في نهاية الارب: «و من الكبر المستهجن ما روى: أن ووائل بن حجر، أتى النبى (صلى الله عليه و سلم)، فأقطعه أرضا، و قال لمعاوية: «اعراض هذه الارض عليه» واكتبها له» فخر ج مع وائل في هاجرة شاوية ; و مشى خلف ناقته، و قال له: اردفني على عجز راحلتك ; فقال: لست من أرداف الملوك ; قال: فأعطيني نعليك ; فقال: ما يخل يمنعني، ياين أبيسفيان، ولكن أكراه أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي. ولكن، إمش في ظل ناقتى، فحسبك به شرفا!. و قيل: إن و أئلا أدرك زمن معاوية، و دخل عليه، فأقعده معه على السرير و حدثه»* 1هـ

*  *  *

و هجا الكميت بن زيد اليمن بمذهبته:

ألا حييت عنا يا مدينا، فنقضها دعبل بن على الخزاعي بقصيدة هجا بها نزار نقضها أبو سعد المخزومي بقصيدة هجا بهااليمن.

واعترك الإسلام في موقعة مرج راهط فكانت اليمن تحت راية مروان، و قيس تحت راية الضحاك بن قيس.

و انتقل الصراع بين الجذمين إلي الاندلس، فكمن حينا، ثم تراختأيدى أمية في الشرق عن ضبط السلطان في أطراف الخلافة، فصرح الشر بينهما،

 

ـــــــــــ

1- القلطي: القصير جداً من الناس و السنانير و الكلاب. و البقع: تخالفاللون، يريد أنها غير أصيلة، أو خبيثة. و الريف الخصب و السعة في المآكل، و ما قارب الماء من أرض العرب. و ريقون، لعله أراد: أشراف ; فأن ريق كل شيء أفضله، من راقني الشيءيروقني: أعجبني.

لمضر سنة، و لليمن سنة ; و مضوا على ذلك مدة ; ثم خاست مضر بالعهد، و غدرت باليمن بياتا; فبقي هؤلاء مغلوبين على أمرهم، إلي أن حازا إليهم عبدالرحمنالداخل

 

/ صفحه 155/

سنة 138 هـ ; فدله حزمه على أن يتضم لا ضعف المعسكرين: اليمن ; و ينازل بهم مضر تحت راية يوسف بن عبدالرحمن الفهرى ; و لما التقيالجيشان، كان مما قال الداخل، يشجع جيشه: «المتزاحفان، أموى، و فهرى ; و الجندان: قيس، و يمن ; قد تقابل الاشكال جدا; و أرجو أنه اخو يوم مرج راهط ; فأبشروا وجدوا.

و قد تمالنصر للداخل بعد كفاح مرير; و استقرت ولاية أمية في العرب، بعد انهيارها في الشرق ; فاختفت العصبيات تحت سلطانهم، حتي أواخر القرن الرابع الهجرى، عند ما تولي ا لسلطةعبدالملك بن محمد بن أبي عامر، بطريق الوصاية على هشام المؤيد بن الحكم المستنصر ; و لم يكن عبدالملك هذا من الحزم و بعد النظر، على ما كان عليه أخوه و أبوه قبله، منالاكتفاء بالسلطة الفعلية، باسم الحاجب ; فجعل لنفسه و لاية عهد هشام ; و لما كان الجاجب المنصور محمد بان أبي عامر فخطانيا; فقد استمد الامويون من ضعفهم و تفرقهم يومئذقوة، و ثاروا بعبد الملك ففتلوه، حتي لا تنتقل الخلافة من عدنان إلي قحطان، لاول مرة في التاريخ، و بذلك عاد الأمر إلى أمية، و تولى الخلافة المستعين سليمان ; و انتهت بذلكأيضا، ابرز الانتقاضات بين يمن و عدنان.

                                                          *  *  *

و على الرغم، من أن رجال البحث الحديث، قد شككوا فيالدلالات التاريخية، للحوادث، و الانساب، و الشعر الجاهلي; في العترة التي سبقت ظهور الإسلام ; و نصبوا على ذلك دلائل، منها القاطع، و منها المعقول الاشبه بالصواب ; ومنها الخصائص الفنية التي لا تشتبه، إلى غير ذلك، مما بعد رفضه مكابرة أو حسداً لمن وجه الله سبحانه و تعالى أذهابهم إلي إثارته و السبق إليه.

أقول: إنه على الرغم منهذا التشكيك، الذي لا يدفع، تبرز حقيقة واضحة مائلة ; و هي أن المسلمين: سادتهم و قادتهم،

علماء هم و أدباءهم في صدر الإسلام، و فيما تلاه من عصوره ; إلى يومنا هذا قددرجوا عى احترام هذا التاريخ في جملته

 

/ صفحه 156/

و اتخاذه إماما مرجحاً و هادياً في الحوادث، و الانساب ; و سنداً قاطعاً في اللغة و الادب ; احتراماًلا سبيل إلي دفعه، و لا إلي الشك فيه.

يروى المفسرون، كالزمخشرى، و البيضاوى: أن أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قرأ على المنبر مرة، قوله تعالي: «أمامنالذين مكروا السيئات الى قوله: أو يأخذوهم على تخوف ; ثم قال للصحابة: ما تقولون فيها؟ أى فى معني هذه الاية، و غرضه السؤال عن معني التخوف ; فسكتوا ; فقام شيخ من هذيل فقال:هذه لغتنا: التخوف: التنقص. فقال عمر: و هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟

فقال :نعم ; قال شاعرنا أبو كبير، يصف ناقته.

تخوف الرجل منها تامكا قرداً *  *  * كما تخوف عودالنيعة السفن

فقال عمر: عليكم بديوانكم، لا تضلوا; قالوا: و ما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، و معاني كلامكم (1) و معني البيت: أثر الرحل في سنامالناقة، فأكله و تنقصه كما يتقص السفن أى المبرد أو القدوم عود النيعة الذي يعمل

 

ـــــــــــ

1- انظر البيضاوى فى تفسير سورة النحل.

والذي فياللسان ج 17 ص 72:« المسفن و السمفن و الشفر أيضاً: فدوم تقشر به الاجذاع ; و قال ذو الرمة يصف ناقة أنصاها السير:

تخوف الرحل منها تاكا؟؟؟ قرداً *  *  * كما تخوف عودالنبعة السفن

يعنى: تنقص. و السفن: ما ينحث ؟؟؟ به الشيء... الخ.

و تمك السنام يتمك، تموكا و تمكا: اكتنزوتر ، أو طال و ارتفع، و ناقة تامك: عظيمة اسنام، و قردالشعر و الصوف «بالكسر» يقرد قردا، بالفتح فيهما فهو قرد: تجعد. 1 هـ

أقول: و الاستشهاد صحيح قائم، سواء أكان القائل أبا ذؤيب أم ذاالرمة.

 

منه القوس.

                                                          *  *  *

فالامر الذي لا شك فيه، أن الادب الجاهلي، و بخاصة الشعر، حجة في اللغة، و حجة في أسلوب اللغة،في نظر الإسلام ; فحطانياً كان ذلك الشعر أو عدنانياً;

 

/ صفحه 157/

صحت دلالته التاريخية على الأحداث و الانساب و ما يتصل بها، أم لم تصح ; و من حقالباحثين أن يتكلوا على التاريخ و على الانساب، على مبلغ ما تهديهم إليه دراساتهم و بحوثهم و دلائلهم، و أن ينقدوا الادب الجاهلي نثره و شعره، على مناهجهم الخاصة أوالعامة، ماشاءوا ; و للمتثقفين على اختلاف مدارسهم، أن يفيدوا من كل نقد، و من كل بحث، ما يكشف عن فكرة سديدة أو رأى جديد.

على أن يدعوا للدارسات الاسلامية العربيةمنهجها في النقد، لارتباطه بأصول الاسلام، و فروعه ارتباطا لا يقبل الانفصال بحال.

                                                          *  *  *

ولقد نشطتحركة النقد الادبي في هذه الايام نشاطاً بارزاً ; و استفاضت فيه البحوث، و اتسع مجال النشر في المؤلفات و المجلات و الصحف اليومية، و أخذ اتجاهه في الاعم الاغلب على ضوء منالتقافات الغربية، و آدابها و أدبائها، و بأقلام مجددة ثائرة في أغلب الاحيان، و هي حركة تلقاها ـ نحن المحافظين ـ كما تعودنا أن نلقى كل علم و فن: بصدر رحب، و تعطش إليالمعرفة، و شوق إلي الاستفادة.

بيد أن كل أولئك، لا يلهينا عن أدبنا الخالد ما خلد القرآن الكريم، و ا لذى بلغ غاية نضجه على يد الباحثين من رجاله قديماً و حديثاً:

ولكن تأخذ الالباب منه *  *  * على قدر القرائح و الفهوم

و لا نرضي أن ندفع من التنكر له، أو الانحراف عن سنته و منهاجه، ثمناً لما نغنمه من مذاهب النقد الحديث، فنسكتعلى هضيمته، أو ننام معه على ضيم.