لحضرة الكاتب الكبير الأستاذ الدكتور أحمد أمين بك
من قديم و الكتاب و الفلاسفةقد تعارفوا على وصف الشرق بالروحانية، و الغرب بالمادية! فما معنى هذا؟
لقد سمعت كثيراً من المثقفين ثقافة واسعة ينكرون هذا و يقولون: إن الغرب غنى بماديته وروحانيته، و الشرق فقير فى ماديته و روحانيته، أما أن الغرب غنى بماديته، فليس يحتاج إلى دليل ولا برهان، فالصناعات و الاختراعات و الآلات و نحوها، كلها من الغرب، و ليسالشرق إلا عالة عليه. أما روحانية الغرب، فتتجلى فى سمو عواطفه و حبه للخير لأمته، و أحياناً للإنسانية كلها، و هو فى هذا يفوق الشرق أيضاً. إن شئت فانظر لتبرعات الأغنياءمن الغربيين ببناء المستشفيات والمؤسسات العلمية و الأعمال الخيرية، مما لا يبلغ عشر معشاره الشرقيون، فهؤلأء أغنياء الشرق، لا يفكرون إلا فى لهوهم و ملذاتهم، فانارتقوا قليلا، ففى أسرتهم و أقاربهم، و لذلك لا نرى منهم تبرعا لعمل خيري، إلا أن يكون ملقاً لوزير أو مدير، أو رغبة فى رتبة أو نياشين، و كثيراً ما نسمع عن غربى خرج عنماله أو أكثره لعمل ينغع قومه، وقلما نسمع ذلك عن شرقي، و لكن نسمع الكثير عن شرقيين ابتزوا أموال غيرهم، أو اغتصبوا عملاءهم الفقراء، أو غشوا فى المعاملة أو ارتشوالقضاء مصلحة أو نحو ذلك، فأين هى روحانية الشرق، و مادية الغرب؟
و إن كانت روحانية الشرق عبادة و صلاة و صياما و نحو ذلك، فما قيمتها إذا لم تؤثر فى عمل المؤمن؟ما قيمة صلاة يتبعها سلب و نهب؟ و ما قيمة صيام لا يمنع صاحبه من جشع و طمع؟ إن العبادة إذا كانت على هذا النحو كانت حركات ميكانيكية، أو ألعابا بهلوانية، و كانت هى والعدمسواء.
و لكن يظهر لى رغم كل ذلك، أن للشرق روحانية ليست للغرب، و أن من الواجب إذا نظرنا للشرق، ألا ننظر اليه فقط فى عصر تدهوره و انحطاطه، و ألا ننظر إليه فى شكلهالأخير الذى ساء، بل فى جوهره الحقيقي، و قيمته الذاتية، و نعاليمه و مبادئه غير مقيدة بعصر، و لا مرتبطة بزمن.
إن الغرب من غير شك يحيا حياة مادية بحتة، بعمنى أنحياته حياة عمل فى مصنع أو شركة أو وظيفة يحسب المادى فقط من مرتب و أجر، و كيف يناله على خير وجه، و كيف ينفقه على خير وجه، و كيف ينعم بهذه الحياة، و كيف يكسب خير كسب، وينفقه خير إنفاق، و كيف يعيش فى أسرته، و كيف يحظى بالنّعيم المادى الخ ... و كل الأخلاق الحسنة المرسومة له أخلاق تجارية، تعلمه كيف ينجح فى التجارة، و كيف ينجح فى العلم،و كيف يسعد فى الحياة، و لذلك كان أهم قوائهم الفضائل عنده المحافظة على المواعيد، و النظام، و الترتيب، و الصدق فى القول و العمل الخ، و الذى يسيطر على هذه الحياة و يرسخططها، و يخترع آلاتها، هو العلم، نتيجة العقل و القضايا المنطقية، و هى أمور كذلك مادية بالمعنى الواسع.
أما الشرق فعماده قديماً و حديثاً القلب لا العقل، فان كانولا بد فالقلب أولا و لعقل ثانياً: هو يدخل فى حسابه دائماً الحياة الآخرة بعد الموت، و يضمها دائما إلى حساب الدينا، و هو دائماً يتساءل هل هذه الأعمال يكافيء الله عليهافى الآخرة بالثواب أو العقاب.
و أخلاقه التى يسير عليها مبنية على حساب هذه الآخرة أيضا، و هو كثير السؤال عن غاية هذا
العالم و مصيره، و أنه مسير بقوةعظيمة هى قوة خالقه، و أنه سيحاسب الإنسان فى الآخرة على ما قدمت يداة فى دنياه و هذه الصورة مركزة فى ذهن الشرقي، و موروثة له أباً عن جد، فهو فى أشد أوقات النعيم فىالدنيا يشعر بحافز يحفزه إلى أن يسأل ما عاقبةً هذه اللذة بعد المؤت؟ و هل أثاب عليها أو أعاقب؟ و ماذا سيكون موقفى أمام الله إذا سألنى عنها؟ و هكذا و هو يبنى أخلاقه علىأساس الدين، و يبنى أعماله على أساس القلب، و لهذه الطبيعة الشرقية و الاستعداد الفطرى الخاص كان الشرق منبع النبوات و الفلسفة الإشراقية و مذاهب المتصوفة، و إطالةالتأمل، و نحو ذلك من مظاهر الحياة الروحية، فإن ظهرت نفحات من ذلك فى الغرب فمصدرها غالباً الشرق، و اليهودية و النصرانية و الاسلام و التصوف فى الغرب ليس إلا موجة منموجات الشرق.
يكاد يكون لشرقيين عنصر خاص ينقص غيرهم، و هو الإحساس الدينى العميق الذى يلازمهم حتّى فى أوقات خروجهم عن الدين، و لذلك كثيراً ما يعقب المعصية تنبهالضمير الديني، و المبالغة فى التوبة و الندم، إنهم يؤمنون فى كل حركاتهم و سكناتهم و تصرفاتهم بإله يسيرهم و قدر يتحكم فيهم.
قد يأتى على الشرق زمن تفسد فيه عقيدته ويسوء تصرفة، و تنحط مشاعرة، فتصدر عنه أعمال خسيسة لا تصدر عنه الغرب المادي، و لكن هل يصح أن نعدّ هذا العارض إفسادا للذاتية و فقداً للخاصية، أو نعده حاسة أصيبت بآفة معالرجاء فى شفائها، أو جسما أصابه المرض و فيه حصانة تبشر بالشفاء، لو حكمنا بالظاهر لقلنا إن مادية سليمة تخضع للعقل و تنجح فى الحياة، و تسيطر على العالم خير من روحانيةفسدت، و مباديء قومية تعفنت، و لكن ليس هذا إنصافا فى الحكم، فما نتيجة هذه المادية الناجحة؟ إنها مدنية روّعت العالم، و جعلته على بركان يوشك أن ينفجر، و هو كل يوم فىاختراع جديد يهدد العالم بالفناء، فما قيمة القوة إذا كانت محطّمة، و ما قيمة القصر المزوّق إذا ساد سكانه الفزع، و لو أنك سألت أسرة أوروبية هل تفضل أن تعيش عيشة بذخ وترف و تفقد أبناءها فى الحروب، أو تعيش عيشة و سطا و لا يهلك أحد منها فى حرب، فما الذى كانت
تفضل؟ إنى لفى شك من قيمة المدنية الغربية إذا نحن قسنا ما أنتجتهللعالم من شرور بما انتجته للعالم من خيرات. فما قيمة آلات و أدوات و مخرعات بجانب أرواح تحصد، و طمأنينة تفقد، و استغلالِ قليل من الناس للكثرة الغالبة من العالميرهقونهم و يسومونهم سوء العذاب، ذلك لأنهم قالوا: «إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت و حيا و ما نحن بمبعوثين».
و لو آمنوا بالبعث و ضموا إلى دنياهم آخرتهم، و قدروا أنهمسيقفون أمام الله يسألهم عن أعمالهم، لكانت المدنية غير المدنية، و لكانت مدنية مادية روحانية معاً، و هذا ما ينقصها و لا يصلح العالم إلا بها، و إذ ذاك يكمل الغرب نقصهفيزيد فى روحانيته، و يكمل الشرق نقصه فيزيد فى ماديته، و يسير الركبان جنباً إلى جنب لخير العالم و إسعاده.
ما الغاية لهذا العالم؟ ماسرا الحياة؟ لماذا نعيش، ولماذا نموت؟ ما موقفنا بعد الموت؟
كل هذه و نحوها من عشرات الأسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب فيها إذ ليست من الأمور المادية، و أشباهها التى تدخل فى اختصاص العلم،إنما هى من الروحانيات التى لا يستطيع الإجابة عنها إلا الدين.
لقد بلغ العلم ذروتة فى المدنية الغربية، و لكنه لم يفعل أكثر من تحسين وسالئل الحياة، أما صبغ الحياةلتتفق مع الغاية التى يجب أن تنشد، فوظيفة الدين، فلما اقتصرت المدنية الحديثة على الوسائل دون الغايات، ضلت السبيل، و وقعت فى الحيرة و اضطراب، و سببت هذا الشقاء المفضضبالنعيم.
و خالق العالم خلقه مادة و روحا، فكان من الطبيعى ألا يسعد إلا إذا غذى العنصران، و اكتمل المنهجان؟