لحضرة الدكتور محمد البهي
أستاذ الفسلفة بكلية اللغة العربية
كثيراً مايتبع الإنسان هواه في سلوكه وتصرفاته؛ فلا يتقيد فيها بمبدأ معين: يسير في أي أتجاه حسبما يهوى؛ لا كما يجب عليه. ما يهواه الإنسان هو ما يرغب فيه. ودافع الرغبة عنده تحقيقأمانيه وآماله الشخصية. وما يجب عليه هو ما يفرضه المبدأ السلوكي العام أو العرف الجاري في جماعته. وبقدر ما ينطوي هوى أي شخص ـ أو تنطوي رغبته ـ على النظرة الفردية فيالحياة، بقدر ما يعبر المبدأ العام في السلوك أو العرف السائد ـ عن رعاية الجماعة والحرص على مصلحتها فيما يأتي به الإنسان من ضروب التصرف والعمل.
واتباع الإنسانهواه من شأنه إذن أن يبقيه في الدائرة الخاصة به، ويبعده عن أن يقر بمشاركة غيره له في مقتضيات الوجود. واسترساله في اتباع الهوى يودي به حتما إلى الاعتداء على وجود غيرهفي الجماعة التي يعيش فيها، لأن مطالب الذات الخاصة وأمانيها الشخصية تئول في آخر الأمر إلى الميل إلى السيطرة على أوسع حين في الحياة العامة في كثير من أركانها. وفيتحقيق هذا الحيز الواسع من إنسان ما تضييق بالطبع على الآخرين الذين يشاركون هذا الإنسان في الوجود.
ولذا كان الهوى من أسباب الخصومة والنزاع بين الناس، أو هو السببالرئيسي فيها، كما أنه إذا ارتفع به إنسان وظن أنه بهواه قد ساد فلابد أن يهوى
/ صفحه 421/
به ثانية، لأن ارتفاعه به قد يكون لفرصة واتته، هي أن الآخرين قداستكانوا له لأمر ما. وهؤلاء بما فيهم من طبيعة الكفاح لابد أن يثأروا لهزيمتهم هذه، قرب زمن أخذهم بالثأر أو بعد.
فليس من مصلحة الشخص نفسه إذن أن يتبع هواه في سلوكه،أو أن يسر إذا ارتفع بهواه في فترة من فترات حياته.
ـ 2 ـ
واتباع الهوى لتحقيق الأماني الخاصة في وضوح وفي غير التواء أقل ضرراً من اتباعه في جانب ما له الطابعالعام: فقد يتبع بعض المفسرين هواهم في تفسير كتاب الله، وقد يتبع المقننون هواهم في إصدار القوانين العامة. وضرر اتباع الهوى في هذين الضربين الأخيرين مثلا أشد أثراًوأكثر ضرراً من اتباع الهوى في الحالة الأولى، سواء على الشخص المتبع هواه فيهما أو على الحياة العامة التي تأثرت بهما.
فقد يكون المفسر صاحب مذهب معين يتعصب لهفيوحي به أثناء تفسيره لكتاب الله ويرغب إلى الناس أن يتبعوه عن هذا الطريق على أنه المقصود من كلام الله. وقد يكون الحرص من المشرع على تحقيق رغبة خاصة في تشريعه هوالباعث له على إصدار تشريع عام. وكل من النمط السابق في التفسير، وهذا الضرب من التقنين يدعي لنفسه الاعتبار العام، وبالتالي يحاول إلزام الناس عن رضي باتباعه.
فحملبقية أفراد الجماعة على الأخذ بالتفسير، أو على اتباع القانون الذي يتضمن لك منهما تحقيق رغبة خاصة لا يخلق في نفس الغير الذي يحمل على الاتباع عدم التقدير فحسب،وبالتالي الرغبة في عدم الطاعة، بل يكوِّن فيها معنى الثورة ضد صاحب التفسير أو صاحب القانون إذا استمر أحدهما في إلزام الناس بالاتباع.
إن تعدد التفاسير للكتبالمنزلة لا يرجع باستمرار إلى ضرورات التوضيح التي تجد في العصور المختلفة؛ بل كثيراً ما يعود إلى رغبة المفسرين في ترويج مذهب معين أو رأي خاص، يرجون من وراء ترويجهتحقيق بعض الأماني الشخصية
/ صفحه 422/
كالجاه، والشهرة، أو تكتل بعض التابعين لهم حول تعاليمهم، وكذا قوانين الأمة لا يخضع تغييرها دائما لعوامل التطورالمحلية أو الخارجية؛ بل قد يكون الباعث عليها حماية صاحب السلطة القائمة وصيانة حقوق اكتسبها قبل الشعب المحكوم، كما قد يحمل على تعديلها ضمان الحكم لمدة طويلة في جانبأحد الأحزاب السياسية قبل الأحزاب الأخرى، أو ضمانه في جانب كتلة من هذه الأحزاب ضد بقيتها، حتى الهيئات الدولية العامة لا يتخلف الباعث على تعديل قوانينها عن رعاية بعضالمصالح الخالصة لبعض المشتركين فيها.
مثل هذه التفاسير والقوانين يحمل عليها الهوى، وترمي إلى تحقيق الأماني الخاصةِ، ولأن كتاب الله ـ بإسناده إلى الله جل وعز،وتعالى عن أن تكون له أماني خاصة ـ له طابع الاعتبار العام، فكذلك ما يتصل به من تفسير وتأويل قد يكتسب هذا الطابع، ولأن القانون من شأنه أن يحمى مصلحة الجماعة ـ وهي مصلحةعامة ـ قد يبعد عنه احتمال أنه يهدف إلى رغبة خاصة. ولذا كان تسخير التفسير لكتاب الله، وتسخير إصدار القوانين لتحقيق مأرب خاص من الأمور التي يجل خطرها أولا لما لها منصبغة الاعتبار العام وما شأنه ذلك وسيلة من وسائل التلبيس على الناس، فيطيعون باسم كتاب الله أو باسم القانون، وهم في واقع الأمر مسوقون في سبيل تحقيق بعض الرغباتالفردية، وثانيا لأن ضرر ذلك يتناول أفراداً كثيرين، وهم مجموع المتدينين بالكتاب المنزل، أو من تتكون منهم الأمة التي صدر فيها القانون، ولا يتناول فحسب الغير المباشرلمن اتبع هواه في وضوح وفي غير تستر، وهو صاحب الضرب الأول.
وتفسير كتاب الله على هذا النحو ضرب من ضروب التحريف له، كما أن إصدار مثل هذا القانون تعدٍ على قدسيةالقوانين وما لها من اعتبار.
إن الذي يتبع هواه في تحقيق رغباته الشخصية اتباعاً واضحاً، أمره مكشوف للناس وللتاريخ فيما بعد. ومقاومته من الناس أيسر. أما الذي يحققهواه في ظل ما له طابع عام، فيتستر حيناً من الزمن وراء ذلك، وتصعب مقاومته أول الأمر
/ صفحه 423/
ولكن بعد فترة أو فترات يعرف أمره في صورة غير كريمة، ويكونالهجوم عليه من جوانب متعددة في غير هوادة.
إن الذي يسخر كتاب الله ويسخر القانون لتحقيق أطماع شخصية غير مستخف بقدسيتهما وما لهما من اعتبار عام فحسب، وإنما هو قصيرالنظر في تدبيره، فضلا أن يكون راعيا لكتاب الله أو حامياً للقانون.
إن الحياة مجال لتحقيق مصالح كثيرة، ولكن الطريق الواضح إلى تحقيقها هو استخدام الحكمة،والابتعاد عن اتباع الهوى. وحقاً قد يجد الإنسان صعوبات متعددة إذا ما استخدم هذا الطريق لبلوغ ما يؤمل وما يتمنى، ولكنه على كل حال الطريق الذي يجنب صاحبه زلات الهوى.وأولى هذه الزلات أن يضطهد من غيره فرداً أو جماعة حسب السبيل الذي يسلكه في اتباع الهوى، إن واضحاً صريحاً أو مستوراً معمي.
وقد بلغ أفراد كثيرون حظاً وافراً منالجاه في الحياة، وسلكوا سبيل الهوى إلى ذلك، وظن بعض الناس أن هذا الجاه باق لهم جيلا أو أكثر، أو أنه إذا ذهب عنهم ففي بطء وتدرج، لا يدركه الناظر العادي في فترة واحدةمن فترات الزمن، لكن كثيراً ما ينقلب الأمر فجأة وتشتد العواصف وتتوارد الأحداث على صاحب هذا الجاه، حتى إذا ما سلم بدنه منها لم يسلم تاريخه بعد أن لم تسلم نفسه منآثارها.
سواء في ذلك الذين وصلوا عن طريق التفسير المذهبي أو عن طريق التقنين، إلى ما ظنه غيرهم جاها أو سلطانا.
إن الحياة هي الحياة: لها قوانينها التي لا تتخلف،وإن طالت فترة الزمن قبل أن تظهر آثارها العملية. وقليل من الناس هم الذين يدركونها فيتبعونها، أما الكثرة منهم فيضطرون بعد الشذوذ عنها إلى معرفتها، ولكن بعد أن يعجزهمالزمن من جديد عن استخدامها استخداماً صحيحاً مرة أخرى.
/ صفحه 424/
الحياة فيها ما يطفو فيتعلق به أصحاب الحس المادي، وهم الأطفال في سن الطفولة الأولى، أو فيسن الرشد الإنساني العادي. وفيها ما وراء ذلك فيسعى إليه من عرف الوجود في ظاهره وباطنه، وأراد أن يجنب نفسه ما فيه من صعاب. وهذه الصعاب على كثرتها ترجع إلى الخداع.
إنالحكيم في تصرفاته هو أقل الناس ظهوراً عادة في المجتمع الإنساني، ولكنه أكثرهم خلوداً في تاريخ الإنسانية. لأن ما فيه من قوة الكفاح لم يخضعه لهواه، ولأن ما فيه من عقلورشد لم يغفل أمره واعتباره.
وإن شأن متبع الهوى في سلوكه يقترب من ذلك الذي يسلب غيره ما في يده، لأن كليهما يفكر في ذات نفسه، ولا يعترف بوجود غيره، وإن الذي يستخدمالدين أو القانون في تحقيق آماله الشخصية يقترب من ذلك الذي يجحد قيمتهما. وكلاهما غير مسدد الرأي ولا متبصر العاقبة.
الحياة ليست مادة فقط تغري قصير النظر، ولكنوراء هذه المادة فيها مثلا باقية. وهي تلك التي يكون عن طريقها الوصول إلى الله. والناس من أجل هذه الحقيقة يتنوعون إلى نوعين: نوع يخضع بطبعه إلى إغراء المادة فيتبع هواهويعتز به بدلا عن الله، ونوع آخر يميل بطعبه أيضا إلى المثل الباقيات، وإن بقي في زوايا النسيان واستمر مغموراً في الحياة.
ولهذا كان الوجود كله عبارة عن: العالموالله.