عالمان

محمد محمودغالی

نسخه متنی
نمايش فراداده

عَالَمَانْ

للدكتور محمد ممحود غالي

دكتوراه الدولة فى العلوم الطبيعية من السوربون

وكيل مصلحة النقل

عالمانمتميزان فى تاريخ البشرية نبغ فيهما الإنسان بوغا عظيما، و ارتقى فيهما شآوا عاليا، و طهرت فيهما مزاياه العقلية و قواه الفكرية التى بها استحق الزعامة فى هذا الكوكب دونغيره من المخلوقات.

العالم الأول: عالم «الكتروني» اعتمد فى خلق مدنيته على معرفه للكهرباء، حيث دار الموتور و تحرك الدينامو، و حيث نشأت الصناعات الصغرى ثم الكبري،فانتقل الناس من عصر إقطاعى كانت تباعى فيه الضِّياع و الأملاك بمن يسكنها من البشر إلى عصر برجوازى صناعي، تحولت الصناعات فيه من مصالع صغيرة إلى مصانع كبيرة، ثم إلىمصانع أكبر منها، و بعبارة أخرى انتقل الناس فيه، و فى أكثر بقاع المعمورة من العصر الإقطاعى إلى العصر الرأسمالي.

و لئن كانت قدرة الانسان و نبوغه وسعة حيلته، و تقدمحضارته و مدنيته، قدظهرت فى هذا العالم بمظهرها الرائع المعجب، لقد اكتنف هذا التطور العظيم ضروب عدة من الصعاب و المشاق و التعقيد، كان آخرها هاتان الحربان العالميتاناللتان ترادفتا على سكان المعمورة فى مدى قريب لا يزيد على ربع قرن.

هاتان الحربان كانتا بين حكومات لم يفهم كثير من محكوميها الأسباب الحقية التى دعت إليهما،ولا الدوافع التى طوعت الإنسان قتل أخيه الإنسان.

لقد مات و جرح ملايين من البشر، و اختفى من على وجه الأرض أناس لو قدرلهم أن يتجنبوا هذه المجازر العاتية لأفادتالإنسانية منهم أعظم الفوائد، و ناهيك بشباب مفتولى السواعد، مكتملى النشاط، يفيضون حيوية و إقداما و قدرة على الانتاج، أتت عليهم نيران حاصدة، و فنون من التدمير والاهلاك لا تبقى و لا تذر، هذا إلى أن الانتاج قد تحول مرتين فى ربع قرن إلى صناعات حربية فخسر العالم بذلك خسارتين:

الأولى أنه أنتج أدوات و معدات لا فائدة منهاللبشر، أدوات لا قيمة لها فى أى عمل إيجابى يزيد فى رفاهيه الانسان.

و لثانية أنه أهلك بها ملايين من بنى الإنسان، و هدّم مساكنهم، و خرَّب مدارسهم، و دك مصحاتهم و طرقمواصلاتهم، و كل ما هو نافع لهم.

والعالم الثاني: عالم نووى يعتمد الانسان فيه على قوة جديدة خارقة للعادة، قوة دفينة فى كل مادة نلمسها و فى كل عنصر نعرفه، هذه القوةأو الطاقة هى جزء من المادة إن لم تكن هى المادة كلها، هذه القوة الخارقة للعادة هى التى تجعل مثلا جسميات نواة كل ذرة مجتمعة بعضها إلى بعض، و هى التى تعطينا هذا الشكلالمادى الساكن الهاديء لما نراه من الأشياء، فهذا حديد و هذا خشب، و هذا زئبق و ذلك ماء. و هذا منزل و ذلك جبل، و هذا «يورانيوم» و ذلك «توريوم» و يغلب على الظن أن بعض هذهالعناصر قابل بمعاملة خاصة، لما نسميه اليوم: الانفلاق النووي، أو تفرق الجسميات المكونة لنواة ذراتها و خروجها إلى الخارج، وتحولها الكامل فى بعضها، أو فى بعض اجزائهاإلى طاقه قوية كمينة فيما منذ القدم ربما كانت هى التى استخدمت فى تجميعها و ضم شتاتها بطريقة لا نعرفها اليوم، بل يغلب على الظن أن الإنسان سيعرف طريق تحويل الكثير منهاإلى هذه الطاقة

الخطيرة، بحيث إذا كان الإنسان المفكر قد عرف الوسيلة فى بعض العناصر ليجعلها قابلة للانفلاق و خروج الطاقة، فليس هناك ما يمنعه فى القريب أنيعرف السبيل إلى ذلك، فى غيرها من العناصر.

«فاليورانيوم» و هو عنصر من ثمانية و تسعين عنصراً، هى المعروفة اليوم على هذه الأرض ـ يصبح بمعاملة خاصة و تعديل فى نواةذرتة «بليتونيوم» و هو عنصر آخر جديد لم يكن فى جدول العناصر، و هذا العنصر الأخير قابل الانفلاق أى قابل لما نسمية الانفجار الذرى ـ و أفضل الانفجار النووى ـ ذلك النوعمن الانفجار الذى ذهب‌«بهيروشيما» و «ناكازاكي» و قد يذهب انفجار من نوعه غدا ببلريس أو موسكو أو نيويورك، كما أنه قد يسخَّر فى صالح الإنسانية فيأتى بالعجب العجاب.

و لعل الانفجارات التى حدثت فى سيبريا هذه الشهور، و ذكرت الأنباء أنها لأعمال تتعلق بحفر أنهار جديدة و ترع كبيرة للري، هى استخدا للطاقة النووية لصالح الإنسان، و قديكون هذه فاتحة خير للبشر.

هذا العالم انووى الجديد الذى بدأنا نعيش فيه يحتاج إلى كثير من التأمل، و يثير فى نفس القارىء كثيرا من الأسئلة، و لعل أهمها: هل يستخدمالإنسان الطاقة النووية لأعمال الخير و السلم؟ و الجواب على ذلك: أننى لا أشك فى و صولنا لهذه الغاية و ذلك فى الحالة التى نتحاشى فيها حربا ثالثة تدمر كل هذه المدنية وتدفن معها كل ما ورثناه من علم، أو ما لدينا من كتب.

إنما أذهب إلى هذا الرأى بسبب ما ينشأ عن سلسلة الانفلاق المعروفة اليوم فى نويات الذرة من طاقة حرارية فوق الوصف، وهذه الحرارة من الممكن تحويلها إلى كهرباء، بل أن الكهرباء موجودة أيضا من جراء «الألكترونات» الناتجة رأسا من عملية السالسة المتقدمة.

و ها نحن إولاء و قدانتصف القرن العشرون، نجد أنفسنا على فوهة بركان، إن يكن اليوم هادئا فقد يثور غدا، و نحن بين حرب تهددنا، و سلام قد ننعم فيه، بما لم ينعم به إنسان من قبل، بل نحن علىمفترق طريقين: إما أننا سهندم أنفسنا بأنفسنا، إما أننا سنحظى بمدنية لم نشهد لها مثيلا.

سؤال آخر يتبادر إلى الذهن هو: هل ينتقل العالم فى هذا العصر النووى الجديد منالعصر الرأسمإلى إلى عصر اشتراكي، كما انتقل خلال العالم الألكترونى السابق، والذى استخدم فيه الكهرباء من العصر الإقطاعى إلى العصر البرجوازى الرأسمالي؟ وجوابنا علىذلك: أننى اعتقد أن هذا حادث فعلا، و أن تمة تطورا من الرأسمالية إلى الاشتراكية، سيصل إليه البشر بصفة فعالة إذا لم تحدث قبل ذلك حرب نووية، تعتمد على القنابل الذرية وعلى ما هو حادث اليوم من تسلسل فى نواة البليتوونيوم أواليور انيوم 235، أو تعمد على قنابل «هيدروجينية» يحدثها الإنسان بتحويل « الهيدروجين» إلى «هيليوم» مارا بالكربون،كما هو حادث فى الشمس، و كما هو معروف فى سلسلة بيث المشهورة.

و كل ما نرجوه أن يحدث هذا التطور دون عنف، و أن يتم هذا التغيير فى هدوء، عندئذ تحظى غالبية الناس بالكثيرمن النعيم الذى لا يحظى به الآن إلا قليل منهم.

و إنى لممن يعتقدون أن الفضل فى هذا سيكون لما يعرفه العلماء اليوم من معارف لها أهميتها عن حقيقة نواة الذرة و إخراج مابها من طاقة لصالح الإنسان فيومئذ تقل ساعات العمل، و تصبح الطاقة أداة نافعة تحت تصرفنا، بل خادما متفانيا فى سبيل تقدمنا و رفاهيتنا، و نصل إلى عهد نطمئن فيه إلى زوالكثير من الأسباب التى تؤدى فى العادة إلى الحروب.

لقد أضحت صحيفة نواة الذرة اليوم من الصحائف العلمية الممتازة، و الأدبية النادرة فى الوقت ذاته، و أضحى للنواةاليوم أدب يستهوى المفكرين، و إنه لمن الواجب

أن يكون للناس فى العالم النووى الجديد من الخلق ما يفوق ما كان له فى العالم الالكتروني، و على العلماء والأدباء أن يدلوا الناس خاصتهم و عامتهم على خطورة المرحلة التى يجتازها العالم اليوم.

و هكذا: عالم «الكتروني» عشنا فيه مضى و انقضي، و عالم نووى نعيش الآن فيه أقبلانبري.

أما المدنية الألكترونية فقد لمسناها و عرفناها، فليت شعرى كم تحتاج المدنية النووية منا إلى التأمل و التفكير؟

ألا إن بيدنا أن نسلك طريق السعادة والبقاء، أو طريقا أخرى يكتنفها الشقاء و العناء ، و قد تقضى بالبشرية كلها إلى الفناء.

و إليك رأياً غير رأيى الذى أدليت به فى هذا الموضوع، فقد كان معى اليوم (28 منمارس سنة 1950) العالم الكبير «ماكس بورن» الألمانى الأصل، و الأستاذ بجامعة «أدنبره» بانجلترا، الذى شرفنى بتنناول الغداء فى منزل ريفى الأهلى قريب من القاهرة، سأله أحدالحاضرين: ما ذا تنتظر من تقدم فى الذرة؟ فقال: أرجو أآلايعرف الإنسان لصفة سهلة الطريق الاستخدام القوى الدفينة فى نواة الذرة قبل أن تعلو أخلاق البشر لأنى أخشى أنيستخدمها فى الشر.

لقد ذهب «ما كس بورن» إلى اكثر مما ذهبب إليه، فإنى لم أتمن لحظةً عدم تقدم هذه العلوم، و هاهو ذا تزيد خشيته عن خشيتي؛ و إذا علمت أن «ماكس بورن» هوأحد أقطاب علماء الذرة النظريين فى العالم، بل هو أستاذ لخمسة من أكبر أقطاب الذرة اليوم، هم «هايزنبرج» صاحب نظرية عدم التعيين و «پاولي» صاحب المبدأ المعروف باسمه، و«فرمي» العالم الإيطإلى الكبير الذى كان له دور هام فى القنبلة الذرية، و «ديراك» الشهير، و «شرور دنجير» العطيم لأدركت لكم لكلمات هذا العالم الكبير من المعنى الخطير.

فليتمن القاريء معى أن تسير البشرية إذن نحو عصر من السلام و البقاء، لا نحو عصر من الحروب و الفناء؟