لفضيلة الاستاذ الجليل
الشيخ عبد المتعال الصعيدي
الاستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
* * *
هذا فضل كبير لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، و كرم الله وجهه، أن يكون هو أول واضع لأساس التقريب بين المذاهب، حتى لايكون الاختلاف في الرأي مما يدعو الى تفريق كلمة الأمة، و اثارة العداوة بين طوائفها المختلفة، بل تبقى لها وحدتها مع الاختلاف في الرأي، و يعيش فيها المختلفون في الرأيأخوانا متحابين، يترك كل واحد منهم أخاه و رأيه، لأنه أما مصيب مأجور، و اما مخطىء معذور، أو يجادله بالتي هي أحسن، فلا يكون في جدالهما تعصب للرأي، و انما يكون القصد منهالوصول الى الحق، لا المغالبة و الانتصار.
و انه لفضل أي فضل لابن عم الرسول صلى الله عليه و سلم، لا يقل عن فضله في شرف نسبه و قربه من صاحب الرسالة، و لا عن فضله فيسبقه غيره الى الايمان به و هو غلام صغير، فكان به أهدى من كل صغير و كبير، و لا عن فضله في جمعه بين الجهاد بالرأي، و الجهاد بالمال، و الجهاد بالسيف.
* * *
كانالخلاف على خلافة النبي صلى الله عليه و سلم أول خلاف وقع بين المسلمين، فانه لما قبض النبي صلى الله عليه و سلم اجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة سيد
/ صفحه 435/
الخزرج، و أرادوا أن يبايعوه بالخلافة، فذهب اليهم أبوبكر الصديق في نفر من المهاجرين، و دار بين الفريقين جدال في هذا الأمر، و كان جدالا عنيفاً كاد يصل الى اثارة حرببينهما، حتى انهم لما قاموا ببيعة أبي بكر قام الحباب ابن المنذر الى سيفه فأخذه، فبادروا اليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، فقال:فعلتموها يا معشر الانصار! أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم، و لا يسقون الماء فقال أبوبكر: أمنا تخاف يا حباب؟ قال: ليس منك أخاف، ولكن ممن يجيء بعدك. فقال أبوبكر: أمنا تخاف يا حباب؟ قال: ليس منك أخاف، و لكن ممن يجيء بعدك. فقال أبوبكر: فاذا كان ذلك كذلك فالأمر اليك و الى أصحابك، ليس لنا عليكم طاعة.فقال الحباب: هيهات يا أبابكر، اذا ذهبت أنا و أنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.
و أبي سعد بن عبادة أن يبايع أبابكر، فأرسل اليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس و بايعقومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، و أخضب منكم سناني و رمحى، و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و أقاتلكم بمن معي من أهلي و عشيرتي، و لا والله لو أن الجنالجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، و أعلم حسابي. فتركوه حقناً لدماء المسلمين، حتى مات في خلافة عمر و لم يبايع له و لا لأبي بكر.
وقد تخلف جماعة من بنيهاشم عن بيعة أبي بكر، وانضم اليهم الزبير بن العوام و خالد بن سعيد بن العاص، و المقداد بن الأسود، و سلمان الفارسي، و أبوذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، وأبي كعب، و مالوا مع علي ابن طالب، و قال عتبة بن أبي لهب:
ما كنت أحسب أن الامر منصرف عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
عن أول الناس ايمانا و سابقة و أعلم الناس بالقرآ، والسنن
وآخر الناس عهدا بالنبي و من جبريل عون له في الغسل و الكفن
فبعث أبوبكر عمر بن الخطاب الى علي و من معه، فخرج علي حتى أتى
/ صفحه 436/
أبابكرفبايعه، و قيل انه لم يبايعه حتى ماتت فاطمة، و ذلك بعد ستة أشهر لموت النبي صلى الله عليه و سلم، فأرسل علي الى أبي بكر فأتاه في منزله فبايعه، و قال له: ما نفسنا عليك ماساقه الله اليك من فضل و خير، و لكنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا، فاستبددت به دوننا، و ما ننكر فضلك.
و هذا صريح في أن علياً حين بايع أبابكر كان لا يزال على رأيه فيأنه أحق بهذا الأمر منه، و لكنه رأي أن يجمع الكلمة بمبايعته له، و ألا يجعل رأيه سبباً في الفرقة بين المسلمين، ليضرب بهذا أعلى مثل لهم في التسامح عند الخلاف في الرأي، وفي ايثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ان صح أن نذهب الى أنه كان له في رأيه مصلحة تعود عليه وحده، و الحق أنه كان يرى هذا لأنه كان يرى أنه هو و آله أقدر على مصلحةالناس من غيرهم، لقرب صلتهم بالنبي صلى الله عليه و سلم، لأنه يقوم بها وازع نفسي يجعلهم أقرب الى ايثار العدل، و أميل الى انصاف الناس.
و ما ان بايع علي أبابكر حتى حبسرأيه في أنه أحق منه بالخلافة في نفسه، فأخلص له في سره وجهره، و لم يضمر حقداً عليه و لا ضغنا، و لم يحاول أن يكيد له أو يأتمر به، بل وقف منه في حرب الردة موقفاً يدل علىكمال الاخلاص، و يعلن عن تمام الود، فان أبابكر حينما خالفه المسلمون في حرب المرتدين، و ما نعى الزكاة، خرج وحده شاهراً سيفه الى ذي القصة، فلحقه علي فأخذ بزمام راحلته،و قال له: الى أين يا خليفة رسول الله؟ لا تفجعنا في نفسك، فو الله لو أصبنا بك لا يكون للاسلام نظام، فرجع أبوبك رو مكث بالمدينة و سمع هذه النصيحة الخالصة من علي، هذهالنصيحة التي تدل على حرصه على حياته، مع أنه يرى أنه قد اغتصب منه الخلافة، و لو أنه تركه يخرج وحده لكان في خروجه ما يقربه من أمله فيها، و لكن نفس علي كانت أكبر من أنيخالجها هذا الأمل، لأنه بايع و حبس رأيه في نفسه، فليخلص في بيعته كما يخلص كل من بايع قبله، و ليخلص في نصيحته، و ان كان في خلافها مصلحة له.
/ صفحه 437/
و كذلككان شأنه مع عمر بن الخطاب حين عهد اليه أبوبكر بالخلافة بعده، فقد حبس معه أيضاً رأيه في نفسه، و عامله كما كان يعامل أبابكر، و لم يظهر في سبيل رأيه فرقة و لا انقساما، بلطلب عمر منه أن يزوجه بنته أم كلثوم، و كانت قد ولدت قبل وفاة النبي صلى الله عليه و سلم، فذكر له علي صغرها معتذراً به، فقيل لعمر، انه ردك عنها فعاوده، فقال له علي: ابعثبها اليك، فان رضيت، فهي امرأتك، فاسل بها اليه فرضيها، فتزوجها فولدت له ولديه زيداً و رقية.
و كذلك كان شأنه مع عثمان بن عفان حين آلت اليه الخلافة بعد عمر في قصةالشورى المعروفة، و كان علي يرى أنه تخطى فيها عن مؤامرة، و لكنه حبس رأيه في نفسه مع عثمان أيضاً، و لم يحاول أن يحدث فرقة أو انقساماً معه، و لما خرج عليه الخوارج في آخرخلافته لم ينتهز فرصة خروجهم عليه، و لم يحاول أن يستغله لمصلحة نفسه، بل كان يبدى فيه الرأي الصحيح و يحاول أن يهدىء تلك الفتنة لمصلحة عثمان و مصلحة المسلمين، و لماوصلت الى الحد الذي يخشى منه على عثمان، أرسل ابنيه الحسن و الحسين ليدافعا عنه، مع أنه كان يخالف رأيه في تهدئتها، و مع أنه كان من مقتضى رأيه أنه أحق بالخلافة منه: أنيتركه للخارجين عليه، و لكنه أبي الا أن يمضى الى النهاية فيما ضربه للمسلمين من المثل الأعلى في الخلاف في الرأي.
و لما أراد الناس أن يبايعوه بعد عثمان، لم يسرع الىقبول بيعتهم، و لم ير أن الفرصة قد سنحت له لتحقيق رأيه، لأنه لم يكن يراه لمصلحة نفسه، بل كان يراه لمصلحة المسلمين، فامتنع ممن عرض عليه البيعة، و لم يجبهم الا بعد أنألحوا عليه، و رأى أنه لابد أن يقبل ليجمع ما تفرق من كلمة المسلمين، و قد دعا الزبير ابن العوام و طلحة بن عبيد الله، و قال لهما: ان أحببتما بايعتماني، و ان أحببتما باعيتأحدكما، فقالا: بل نبايعك. ثم جيء اليه بسعد بن أبي وقاص ليبايع، فقال له: لا أبايع حتى يبايع الناس، و الله ما عليك مني بأس، فقال لهم: خلوا سبيله، ثم جيء اليه بعبد الله بنعمر ليبايع. فقال لا أبايع حتى يبايع الناس. فقال له علي: ائتني بحميل ((كفيل)) فقال: لا أرى حميلا فقال: الأشتر: خل عني أضرب عنقه.
/ صفحه 438/
فقال علي: دعوه، أناحميله، فلم يحاول في كل هذا أن يفرض ما آل اليه من الخلافة على الناس، بل أراد أن يبايعه من يبايعه عن طواعية و اختيار، و من أبى أن يبايع تركه حراً، حتى لا يحدث انقسامابين المسلمين، فأما أخذه معاوية بما أخذه به فلأنه أبي أن يقبل ما أمر به من عزله عن ولاية الشام، و هو حق من حقوق الخليفة، على معاوية و غيره أن يطيعوه فيه، فاذا لم يطيعوهخرج أمرهم عن حد الخلاف في الرأي الى حد العصيان، و حكم العصيان غير حكم الخلاف في الرأي، لأن العصيان فرقة بين المسلمين، فيجب أن يؤخذ بما يجمع الكلمة، و لو أدى هذا الىاستعمال الشدة.
و قد كان هذا شأنه أيضاً مع من خالفه مع من أصحابه في مسألة التحكيم بينه و بين معاوية، و قد اعتزلوه و حكموا بما حكموا به عليه لقبوله ذلك التحكيم، معأنه لا شيء في قبوله من جهة الدين، و لكنهم كانوا قوماً متنطعين متشددين في دينهم، فلم يحكم علي عليهم بما حكموا به عليه، بل قال لهم: ان لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لانمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، و لا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، و لا نقاتلكم حتى تبدءونا.
و ليس بعد هذا تسامح في الرأي، بل هو المثل الأعلى فيالتسامح، و لكنه كان مع قوم متنطعين في دينهم، لا يعرفون فضل التسامح عند الخلاف في الرأي، بل يأبون الا أن يجعلوه وسيلة تقاطع و تدابر، فأصروا على تدابرهم و تقاطعهم، وأبوا الا التمادى في غيهم، فسلطوا عليه عبد الرحمن بن ملجم فطعنه غيلة، و قد جمع على أولاده قبل أن تفيض روحه، فأمرهم أن يطيبوا طعام قاتله، و يلينوا فراشه، فان يعش فهوولى دمه، عفو أو قصاص، و ان يمت ألحقوه به ليخاصمه عند ربه، ثم نهاهم أن يعتدوا عليه أو يمثلوا به، و انه ليمضى في ذلك الانصاف لمن يخالفه مع طعنه له هذه الطعنة القاتلة،فيوصى بتطبيب طعامه، و يوصى بالانه فراشه، و يوصى بعدم التمثيل به عند قتله به، ليكون لنا في حياته و مماته أعلى مثل في الجمع بين الاستمساك بالرأي و انصاف المخالف، فرحمهالله من امام للمنصفين في الخلاف، و قدوة للمتسامحين في الدين.