مستقبل الشعر
لفضيلة الأستاذ الشيخ علي العماري
و إذا كان الشعراء يصورون عواطفهم، و يصورون عنإحساس صادق فلماذا يقتصرون على هذا اللون القاتم من العواطف؟ و لعل الحديث عن أفراح النفس و مباهجها شاق عسير، ولكن الذي يبدو لي أن هؤلاء الشعراء يترسمون خطي أسلافهم، وأشعار الألم هى التي تملأ دواوين الشعراء، على أننا لا نعدم من حين لحين من يصدق عن نفسه، فيدعوا إلى الابتسام، و إلى الضحك، و إلى التمتع بطيبات الحياة و لست أدري لماذاانتفع شعراء الشباب بنصائح أولئك الشعراء المتشائمين من شرقيين و غربيين، و لم ينتفعوا بقول شوقي مثلا:
و لست أقول إن كل شعراء الشباب انصرفوا عن هذه الناحية: ناحية الإعلانعن أفراح أنفسهم، و التعبير عن مباهجها، و فإننا نجد منهم من صدق في التعبير ولكنهم قليلون، و أنا لا أعرف في هذا الحشد الذاخر من الشعراء و المتشاعرين إلا اثنين، أماأحدهما فصاحب ديوان (لهو و عبث) و أما الآخر فصاحب ديوان (الفجر الضاحك)(1) و هناك أصحاب المقطعات الصغيرة في هذا الغرض، ولكنهم أيضا قليلون.
ديوان لهو و عبث للأستاذ محمود السيد السنان و قد تاب بعده عن الشعر و النثر! و ديوان الفجر الضاحك لكاتب هذا البحث و قد سكت بعده عن الشعر الضاحك.
أما الشعر الباكي الحزين فتضيق به بطون الدواوين، و قليل منه ما ينم عن بؤس حقيقي، و حرمان قاس، و آلام مبرحة ، كذلك الذي يقوله الشاعرعبدالحميد الديب:
و مهما يكن من شيء فان الذين لا شك فيه أن التقليد ظاهرة عامةعند شعرائنا و لن يحتل الشعر مكانته المرجوة له في هذا العصر حتى ينبعث عن عواطف صادقة، و يصدر عن إحساس حقيقي.
و كنت أشرت في حديثي الأسبق إلى ضعف النقد الأدبي، وذكرت أنه سبب من أسباب ضعف الشعر، و هذا حقيقة واضحة، فان النقد الذي تطالعنا به الصحف و الكتب صادر في الغالب إما عن ذوق مريض، و إما عن هوى ضالّ، و كيف نستطيع أن نحترمهذا النقد، و أحد النقاد الكبار يؤكد لنا أن أزجال (بيرم) التونسي، أروع من قصائد شوقي و أحد الذين يقحمون أنفسهم في هذا الميدان، يقسم الأيمان المغلظة على أن شوقيا ليسأشعر من علي محمود طه، و أن مطران ليس أشعر من أبي ماضي، و أن حافظا ليس أشعر من عمر أبي ريشة، و الرصافي ليس أشعر من أبي شبكة، و إذا قلنا له: على رسلك، صاح فينا: الموازينيتحكم فيها الهوى و الغفلة، و سلامة التقدير، و هكذا نجد أساليب النقاد، فإما أن نذعن لأحكامهم و نؤمنّ على مزاعمهم، و ألا فنحن أعني الجماهير من القراء و النقاد الذينيفضلون شوقيا و مطران و حافظا و الرصافي على هؤلاء الذين قرنهم بهم - نحن نتسم بالهوى و الغفلة و سوء التقدير. على أن أول معركة شهدتهامصر في النقد الأدبي، و التي تمثلت فيالعقاد و المازني و شكري و في ثورتهم بشوقي و حافظ و المنفلوطي، هذه المعركة - و إن أفادت الشعر المعاصر - ألا أن كثيرا من العنف و الإسراف شاب صفوها ، حتى لنجد المازني فيأخريات حياته يندم على الحملة التي شنها على حافظ إبراهيم و يود لو طواها النسيان، و نرى العقاد يتراجع عن بعض مادعا إليه هو أو غيره من دعاة المدرسة الجديدة من مبادىء.
و النقاد - دائما- هم القوى الدافعة إلى التقدم و الكمال، فإذا أحس الشعراء - مثلا - بقوة النقد ، و صدقه ، دفعهم ذلك إلى التجويد، و الصقل، و التهذيب، أما إذا رأوا الهوىمتحكما، و المجاملات سائدة، و هذا يتبرع - لعوامل سياسية أو لعوامل أخرى - فيضفي على شاعر لقب أمير الشعراء، و ذاك يعلن أن هذا الشاب الذي لا يكاد يبين سيفتح في الأدبالعربي فتحا جديدا و هكذا من أحكام تافهة أو مغرضة، إذا رأى الشعراء ذلك تخاذلت هممهم، و استنامت ملكة الشعر الى الكسل و اليأس.
و لم يقف النقد عند حد المجاملة و الهوى، بل تعدي ذلك إلى أن أصبح شتائم تكال، و سخريات تدّون، و معارك يسيطر عليها كثير من الإسفاف، كما فعل الرافعي في كتابه (على السّفود) و كما فعل المازني في أحاديثه عنعبدالرحمن شكري تحت عنوان (صنم الألاعيب) إلى مقالات كثيرة في الصحف أقلها مهذب، و أكثرها تنبو عنه الأذواق.
و لم تغننا كثيرا هذه الدواوين التي وضعها النقاداللبنانيون و السوريون من المقيمين في الوطن أو في المهاجر الأمريكية، فأكثرها دار حول هدفين اثنين: الدعوة إلى التقليل من أهمية الأساليب العالية، و الدعوة إلى طرحالمعاتي التقليدية، و هى لاتخلو من تحامل و إسراف.
أما الأول فلا يزال الخلاف ممتدا بين النقاد بشأنه، و أما الثاني فقد وضح لكل ذي عينين، و لم يعد من الشعراء و لا منمتذوقي الأدب من يقر المعاني التقليدية أو يدعو إليها ، و الشاعر مرغم بحكم أنه شاعر و صادق الشعور أن يكون شعره ملائما للحياة التي يحياها (يصور حقائقها الواقعة ، ويوجهها إلى ما ينبغي أن تتجه إليه، و يبصر الناس بما يضرهم ليجتنبوه، و بما ينفعهم ليسعوا إليه) و هو حين يصدق لا يجد مانعا من أن يصور (حارات القاهرة المظلمة) - كما يطلبكاتب أجنبي - ولكن على شرط واحد، هو أن تنفعل نفسه بهذا الظلام، و بهذه الوحشة التي تسيطر على مشاعره حين يمر بهذه الحارات أو يعيش فيها.
/ صفحة 88 /
و من الأسبابالتي لا حظها النقاد في ضعف الشعر، أن الشعراء قليلو الاطلاع على الآداب الغربية، و قد كانت هذه الملاحظة منذ ثلاثين سنة، و في هذه الثلاثين زاد اطلاع الشعراء على الآدابالغربية، و مع ذلك بقى الشعر متخلفا.
و كذلك يرى بعض النقاد أن العلة في ضعف الشعر، و سيره إلي الفناء أو إلى ما يشبه الفناء إنما هى ضعف الثقافة في الشعوب، ذلك أنه -كما يقول - لا يبقى حرا طليقا رائجا مزدهرا غير الغذاء الذي تستطيع الملايين إساغته و اقتناءه و هوبالطبع لن يكون الشعر الممتاز.(2)
و مع ذلك يرى هذا الناقد أن المستقبلللشعر المتعدد القوا في الطليق من القيود العاتية، ولكن الحقيقة المرة أن هذا الشعر المتعدد القوافي أخفق إخفاقا ذريعا ، كما أخفق معه الشعر المتعدد البحور في القصيدةالواحدة، و كما أخفق هذا الشعر الذي يسمونه (الشعر المرسل).
و يدحض شاعر الهند الكبير (رابندرانات طاغور) الزعم القائل بأن تأخر الشعر نتيجة لتقدم العلوم في الثلاثينأو الأربيعن سنة الأخيرة ، فإن نَفاق العلم - قال- لا يستلزم حتما كساد الشعر.
و عنده أن السر في تأخر الشعر، و الخطر الوحيد هو أن الناس في خلال هذه الرجات الاجتماعيةالحديثة يصبحون عاجزين عن ترجمة الخواطر بالشعر قاصرين عن إدراك الجمال في القصيد.
وسواء أكان هذا السبب أو ذاك، أو كل هذه الأسباب مجتمعة فإن الذي أستطيع أن أحكم بهو أنا مطمئن، أن قوافل الشعراء التي نشاهدها في كل ميدان و هذه القصائد و المقطوعات التي تطالعنا من صفحات الدواوين ذات الطبع الأنيق و الورق الصقيل، أو من صفحات المجلاتو الصحف محوطة بالتقدير و الإعجاب، أفول أن كل هذا لا يبعث في نفوسنا الأمل بمستقبل باهر للشعر، بل هو على العكس من ذلك يدعونا أن نتشاءم أشد التشاؤم، و أن نضع أيدينا علىقلوبنا خوفا من أن نصيح يوما: لقد دالت دولة الشعر.
(2) فن الأدب ص 212 لتوفيق الحكيم.