لحضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز المراغى بك
عضورجماعة كبار العلماء و الإمام الخاص للحضرة الملكية
و عدت فى حديثى الماضى بالكلام على معنى الحكومة اطية الثيوقر أو الحكم الإلهى ـ كما يسمونه ـ ، لأن كثيراً منالكاتبين فى نظم الحكم الدستورية و صفوا حكومة الاسلام بأنها حكومة ثيوقراطية دينية، و خلصوا من ذلك إلى أن النظم الديمقراطية العصرية لا تلأئم الإسلام، و هو بدروه لايقرها، و على ذلك لا يمكن أن يحقق الاسلام للناس نظاما متطوارا يرضى حاجاتهم، و يساير الزمن ورقيه و تقدمه.
فما هى الثيوقراطية؟ و هل حكومة الإسلام ثيوقراطية حقا؟ وهل وضع الاسلام نظاما جامدا لا حياة فيه، و لا يرضى الناس عندما يتقدم الزمن؟.
الثيوقراطية نظام حكومة دينية ينفذ القائم على رأسها تعاليم إلهية محددة لا يحاسب عليهاإلا أمام الله، فلا سلطان لأحد فى حسابه، يفعل ما يجب أن يخضع له الشعب، لأن ما يفعله مستمد من أمر الله، أو بوجه أدق من أمر إله، هذا النظام قد عرف فى العالم منذ أقدمالعصور: عرفته مصر الفرعونية، و عرفته الهيودية فى عهد أنبيائها و قضاتها و ملوكها، و عرفته المسيحية فى القرون الوسطي.
(380)
و ما نظرية التفويض الإلهى التى عرفهاالناس على أنها أحدث النظريات فى وجود الدولة ادلا صورة من صور هذا النظام.
و خلاصة هذه النظرية أن الدولة أصلها الدين على معنى أن سلطانها يرتكز على سناد سماوي، ويرجع إلى إرادة علوية فوق إرادة البشر.
تلك الإرادة الإلهية هى التى اصطفت من بين الناس مباشرة ملوكا عليهم يختصون دونهم بالسيادة و السلطان مؤيدين بروح من عند اللهالذى اصطفاهم و عهد إليهم بمصالح البشر المكلفين بطاعتهم و الاتتمار بأمرهم، و أساس الدوله على هذا هو التوفيض الإلهى الخارج عن إرادة البشر، و رئيس الدولة على هذا غيرمحاسب على علمه إلا أمام الله الذى اصطفاه و فضله على عباده، و فى ذلك يقول لويس الرابع عشر: (إن سلطة الملوك إنما تستمد من تفويض الخالق، فالله هو مصدر هذه السلطة و بينيديه و حده يؤدى الملوك حسباً عن استعمالها) كما قال لويس الخامس عشر فى مرسوم صدر منه فى عام 1770 م (إننا لم نتلق التاج إلا من الله، فسلطة عمل القوانى هى من اختصاصنا و حدنادون تبعية و لا توزيع).
لا بل إن هذه النظرية سادت حتّى مستهل هذا القرن، فقد قال غليوم الثانى امبراطور الألمان فى عام 1916 (إن الملك يستمد سلطته من الله، ولا يقدم حسابهإلا إليه، و إننى على هذا المبدأ أضع سياستى و أعمالي).
و قرب من هذه النظرية أيضاً نظرية العناية الإلهية، و هى لا تختلف فى جوهرها عن النظرية السابقة، و الفرق بينهماأن إرادة الله عن النظرية الأول تعمل مباشرة فتختار الحاكم، بينما هى ـ على النظرية الثانية ـ تعمل بطريق غير مباشر، و بواسطة إرادات الأفراد، تلك الإرادات التى تختارالحاكم مباشرة مسيرة فى هدا الاختيارا بالعناية الإلهية.
تلك هى نظرية التيوقر اطية و ما لفَّ لفَّها من نظريات حديثة، فهل كانت نظرية
(381)
الحكم فى الإسلامشيئاً من هذا، و هل كانت الدولة فى الإسلام سفينة يقف على دفتها إله يختار شخصاً معينا ينفذ أوامره الإلهية و هو غير مسئول ـ كا جاء فى عبارة لويس و غليوم ـ إلا أمامه؟الجواب على ذلك، لا ... لا؛ و لكن قضية النفى يحاتج الجزم فيها إلى شيء من التوضيح المتعلق بمركز الرسول عليه الصلاة و السلام كنبى و كإمام، و مركز الخلفاء من بعده، و موقعالتشريع الإسلامى من سلطة الخليفة، و من صلات الشعب بالحاكم، و الحاكم بالشعب، و مدى سلطان ذلك الحاكم على الشعب، و إلى أى حد يمكن أن ينفذ الإمام سلطانه على المحكومين، وكيف يكون مسئولا، و أمام مَن يكون مسئولا.
و الإجابة على هذا الأسئلة توضح تماماً نظرية الحكم الإسلامى على أساس متين بعد ما لغط فيها الناس جاهلين أو متجاهلين، و بعدما أكثر الناس من التشدق بنظريات حديثة لا نقرهم عليها، بل نلومهم على عدم التثبت فى قضايا الشريعة الإسلامية جملتها و تفصيلها، و إن كانوا لم يتمرسوا بدقاثقها،فليكفونا و يكفوا أنفسهم المئونة بالسكوت، أو فليحا ولوا ـ ولو مرة ـ سؤال أهل الذكر.
أظن أنه أصبح من المعاد الكلام عن تاريخ دعوة الرسول عليه الصلاة و السلام فى مكة،ثم جهادة بالمدينة، حتّى استقرا أمرها، و بالرسول (عليه السلام)
يرسى قواعد الدولة الجديدة، و يبرز مظاهرها الداخلية و الخارجية من مكاتبة الملوك و الأمراء، و عقدالمعاهدات، كما أنه أصبح من الواضح الحديث عن مسألة الدولة، و مكيفات كيانها من وطن و قوة و سيادة.
و الإسلام يعتبرـ ولو من الوجهة النظرية ـ وطنة العالم أجمع، فالأصلأن تكون كلمة الله هى العليا، و هى التى تسود ـ كقانون ـ شتى بقاع الأرض، و هى التى توحد الناس و تجمع شتاتهم، و هى المؤهل الوحيد للدخول فى الجنسية الإسلامية بمعناهاالدقيق، فالإسلام كدين و كنظام عام لا يعرف الحدود الجغرافية الضيقة و يوجب تناصر المسلمين فى مختلف أرجاء العالم، و يجعلهم ـ أية سلكوا ـ مخاطبين بتكاليفه،
(382)
ولو أن فقهاء المسلمين فى العصور المتأخرة قد أذعنوا للأمر الواقع و بينوا كثيراً من الفروع الفقهية متأثرين فيها بالناحية العملية، فإن ذلك لا يمنع من تقرير المباديءالعامة التى أسلفناها.
و لست الآن بصدد الحديث عن نظام الحكم فى الإسلام، و هل هو من أمر الدين أم من أمرالدينا، فإنى أعتقد أنه جدل لفظي، أو خلاف فى حال، كما يقولسادتنا العلماء فى اصطلاحاتهم.
فالمهم الآن ـ ولو تاريخيا ـ أن ثمت نظاماً للحكم أقره المشرع الإسلامى على نمط أو آخرمن طرق التشريع، و كان الأساس فيه هو الشوري، حتّىفى عهد الرسول عليه الصلاة و السلام.
و الذى شدا طرفا من أصول الفقه يعرف البحث المشهور فى جواز اجتهاد الرسول (عليه السلام)
و مداه، و فى أى الأشياء يحصل، و مهمايكن من شيء، فقد ثبت أن الرسول (عليه السلام)
استثسار أصحابه فى كثير مما يسمى الآن من أمور الدولة، كأمر الأسارى فى بدر، و قصة الخندق، و صلح الحدبية، و غير ذلك، و هذاأول مظهر ينفى الثيوقراطية عن نظام الحكم الإسلامى و عن القائم على أمر الدولة و التشريع فى الإسلام.
و أمر آخر وراء هذا قد يكون أكثر أهمية فى إثبات ما ذهبنا اليه فىهذا الحديث و سابقه، ذلك أن الرسول (عليه السلام)
لحق بالرفيق الأعلى و لم يترك نظاما معيناً لهذه الحكومة، و لم يدع وصية محدودة بشأنها، بل شاء بعد مشيئة الله ـ أن يدعهذا الأمر للمسلمين يقلبون فيه وجوه الرأي، و يحلون معضله كما يلائم طبيعة الجو الذى يعيشعون فيه، ليبين لهم أن ملاك هذا الأمر الشورى، و اختيار أهلى الحل و العقد، و أنللمسلمين أن يبينوا تفاصيله فى دستور مكتوب أو محفوظ، و أن يضعوا ما يرونه كفيلا باسعادهم و تقرير حكمهم على النمط الذى يرضى مزاجهم و عرفهم و تقاليدهم، من نظام دستورى وإدارى و غير ذلك، مادام ملتئما مع المباديء العامة التى جاء بها القرآن الكريم و السنة المطهرة. و قد رسما لهم الخطوط العامة لمعادهم و معاشهم، و ما على المسلمين إلا أنيفصلوا مجمل هذه الخطوط، و يبينوا فى ذلك الفراغ ما يظنونه ملتئماً و حاجتهم و مصلحتهم، و أى نظام اختاره المسلمون على وفق الفكرة العامة التى رسمها المشرع فهو نظاممقبول، و دستور مرض، فإن وضع المسلمون دستوراً على أحدث النظم، لا يعارض شيئا مما نص المشرع عليه نصاً صرحياً لا تأويل فيه، فهو دستور محترم مقبول، مادام راه أهل الشوري،و يختار تفاصيله أهل الحل و العقد الذين يعرفون حكم الله فى تحليه و تحريمه، و يعرفون أن ذلك الذى وضعوه يحقق المباديء الطبيعية، و حرية الفرد و الجماعة التى يستمتع بهاالإنسان كإنسان، و إلتى قررها الشارع الإسلامى فى ألف موضع و موضع من تشريعه.
و تلك نقطة جديرة بالعناية أحب أن ألفت لها نظر الذين يقولون عن الحكومة الاسلامية إنهاحكومة ثيوقراطية، فليس ثمت ـ عند التدقيق ـ فرق بينهم و بيننا، فواضعوا الدساتير على النظم الحديثة يضعونها متأثرين بما يقبسون من نظم و دساتير يرونها أرقى الدساتير، وهى لذلك جديرة بالاقتداء و التقليد، لأنها تحقق المثل العليا للديمقراطية، و هى عرضة للتغير على الطريق المرسوم متى جدما يستدعى تغيرها، و نحن نقول مثلهم: إن أى دستوريحقق مصلحة البلد على نظام شورى، فنحن نقبله إذا لم يكن فيه ما يصادم النص (المجمع عليه) ولا بد من التنبه لهذا القيد الذى و ضعناه بين القوسين، و ها هى ذى حكومة الباكستان،و هى من نعلم فتاء و قوة تريد ـ و قد أعلنت صراحة ـ أنها ستضع دستورها على أساس إسلامى خالص، و تريد أن تضع نظاماً مالياً إسلامياً خالصاً، و قد بدأت تستشير أهل العلم فيماانتوت، و النصوص التى أوجبنا مراعاتها نصوص قامت الأدلة على أنها جديرة بالتقدير لمصلحة الجماعة و مصلحة الفرد، و فوق ماعندنا من نصوص؛ عندنا سوابق من التاريخ متى رجعناإليها ساعدتنا و أسعفتنا، فما الفرق بيننا و بينهم؟ هم يقولون لا بد أن يحقق الدستور حقوق الإنسان و الحريات الطبيعية، و نحن نقول مثلهم على شكط أن تكون
(384)
علىوفق مايراه المسلمون ملتدءما مع نصوص الشارع على أى وجه من وجوه الاعتبار الشرعية التى لا أريد أن أدخل فى تقاصليها، فلم يكون نظامنا ثيوقراطيا، و ظنامهم ديمقراطيا؟ «إنهى إلا أسماء سميتموها»
ثم تأتى بعد هذا مسألة المسئولية: لم يقل أحد من المسلمنى إن الخليفة أو أحداً من وزارئه غير مسئول إلا أمام الله، و لم يقل أحد من الخلفاء مثلما قال لويس الخامس عشر (إن الخليفة وحده ـ دون الأمة ـ له حق إقرار التشريع و التقنين) فلا بد من رأى الجماعة، و الخليفة فرد ـ من بين الفرادـ اختير ليقوم بينهم مقامالوكيل فى تنفيذ أغراض الموكل، و للموكل فى كل وقت محاسبته متى خالف شرطا من شروطه الوكالة المنصوص عليها، أو المعروف بداهة أنها شروط للوكالة، وله عزله من الوكالة علىنحو من الأنحاء التى نص عليها الفقهاء و من كتبوا فى الأحكام السلطانية التى بينوا فيها مواطن عزل الخليفة و ما يستحق به العزل، و ما ينعزل به من تللقاء نفسه، و كيف يحاسبو كيف يقاضي، إلى غير ذلك مما لسنا بسبيل الحديث عنه الآن و قد نعرض له عند الكلام على تفاصيل هذه المسائل و دقاثقها.
و إنك لو نظرت إلى آيات القرآن الكريم لوجدتالخطاب فى أغلب الآيات المتصلة بنظام الحياة موجها للأمة «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين». «فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيماافتدت به» إلى غير ذلك من مئات الآيات و الأحاديث الشريفة، و الخليفة مسئول كأى فرد أمام الله من ناحية وجوب العمل عللى وفق الحدود العامة للتشريع، و لكن ذلك أمر آخر غيرما نحن فيه، فلم يترك الخليفة لجزاء الضمير أو العقاب الأخروى فحسب، و لكنه كان ولا يزال ـ على ضوء القانون الإسلامى ـ معرضاً لأدق أنواع الحساب، و هو غير معفى منالمسئولية التى أسلفت الحديث عنها.
و التاريخ الإسلامى من عهد الرسول عليه الصلاة و السلام شاهد على الحوادث التى وقف فيها المسلمون ليبرئوا عهدتهم، و يريحواضمائرهم، و يحاسبوا المسئولين عما يرونه لا يتفق و ما
(385)
يعتقدون، و إنك لتعجب إذ تسمع أن بعض الصحابة حاوروا الرسول فى عبارات وردت فى صلح الحديبية لأنهم لايرونها متفقة مع ما قدموا من جهاد، و بذلوا من أرواح، حتّى أرجعهم الرسول عليه الصلاة و السلام إلى الجادة، مبينا أن الموقف يقتضى من ناحية الحكمة ما فعل.
كذلككان شأن الخلفاء و الأمراء من بعده حتّى عمر ـ و هو من تعلم شدته ـ كان يقبل أن تحاسبه العجوز، و قد رجع إلى الحق على يده مرتكب حين طلع على عورة منه من ظهر البيت لا من بابه،إلى غير ذلك من شواهد لا نريد الاطالة بذكرها.
فمبدأ مسئولية رئيس الدولة أمام الأمة مبدأ مجمع عليه، أو فى حكم المجمع عليه و بذلك كان الاسلام متفقاً مع المباديء التىيسمونها ديمقراطية، و هى من بدائه الاسلام.
و إن كان ثمت عيب فى طور أو آخر من أطوار التاريخ الاسلامي، فليس العيب عيب الاسلام، و إنما هو عيب الذين ينتسبون للإسلامدون فهم له، و يحاولون أن يسبغوا على تصرفهاتهم ثوب التشريع الإسلامي، فيُعرِّضوا الإسلام لكلام هو أبعد ما يكون عنه.
فليطمئن الباحثون إلى أن الإسلام دين ديمقراطيةكما يلهجون، و أن مبادئه صالحة لمسايرة أرقى العصور على شرط أن يكون على وفق المباديء العامة الإسلامية.
و الله جل جلاله البناء
الحق فيه هو الأساس و كيف لا
و المبادئ العامة التى هى ـ كما يرى العقلاء ـ لصالح البشرية عامة، متفقة مع الإسلام.
وصلة الخليفة بالشعب، صلة الوكيل بالموكل، أو الأجير بالمؤجر، و قد عبرعن ذلك أبو العلاء المعرى فى قوله:
و لا شك أن المؤجر من حقه أن يحاسب أجيره على كل ما يبدو منه، و قد جاء فى قول عمر و هو يخطب: «لو وجدتم فى اعوجاجا فقوموه» فيرد عليه واحد منعامة المسلمين«لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا» فيقول عمر: «الحمد لله الذى جعل فى أمة محمد من يقوم أعوجاج عمر بسيفه».
فهل فى الدنيا مسئولية كتلك، و هل فى الدنيا محاسبة أكثر من هذا، و من أراد الاستقصاء أكثر من هذا فليرجع إليه فى مكانه، فالخليفة مسئولأمام الأمة، و هى تحاسبه، و لها أن تعزله متى رأى فى ذلك مصلحة، و هو مختار منها، و الأمر لها أولا و آخراً، و حقها غير قابل للتنازل أو التحويل.
و يكاد رأى المسلمين فىنظرتها السياسية فى هذه الناحية يشبه نظرية روسو فى العقد الاجتماعي، و حق الأمة، و عدم قابليته للتحويل.
و إن كان علماء المسلمين الذين كتبوا فى الأحكام السلطانيةلم يبينوا طريق المسئولية، فقد أثبتوها جمعياً، و إذا رأت الأمة أن تنظم طريق المسئولية و تضع لها قواعد و نظما، فليس الاسلام بمانع من شيء من ذلك بعد ما أعلن أن كل فرد منالمسلمين من أى جنس أو لون أولغة بعرض أن يكون خليفة متى رأى ذلك أهل الحل و العقد. و الفكرة العامة فى ذلك أن أى تقصير من الخليفة يقوم عوجه رأى الأمة و سلطانها، و أنالمصير إليها؛ فلا ضير فى أن يكون الخليفة أى شخص كائنا من كان.
أظننا قد أوفينا على الغاية فى هذا الموضوع الذى نراه جديراً بالتقديم بين يدى البحث الموضوعى فى نظامالحكم، و إلى اللقاء فى مقال آخر، و السلام؟