الأستاذ العلامة الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني
الأمين العام
عصر النزول وبيئته
نزل القرآن الكريم قبلأربعة عشر قرناً في السنوات الميلادية الممتدة بين 611 إلى 632 في أرض قفر غير ذي زرع، ألا وهي أرض الحجاز، وهي شبه جزيرة يحدها من الشرق الخليج الفارسي وبحر عمان ومن الغرببحر عدن والبحر الأحمر ومن الشمال بادية الشام
(60)
ومن الجنوب المحيط الهندي. وقد سكن العرب هذه المنطقة، وانحدروا من أصل عدناني أو قحطاني،فالعدنانيون أو النزاريون وهم من ذرية إسماعيل وإبراهيم ـ عليهما السلام ـ سكنوا الشمال والغرب، فيما سكن القحطانيون وهم من أعقاب يعرب بن قحطان جنوب الجزيرة، وكانتبينهما حروب مستمرة.
والى الشمال والجنوب وشرق الصحراء وجدت حضارات عريقة، كانت آثارها باقية بشكل أو بآخر حين نزول القرآن، فكانت حضارة الحميريين في الجنوبوالغسانيين في الشمال والحيرة في الشرق، حيث يمكن التأكد منها من خلال الكتابات المتبقية منها، والشواهد الموجودة في الشعر الجاهلي والإسلامي وعند رواة ومؤرخي العصرالعباسي.
وتأثرت هذه المنطقة بالحضارات المجاورة لها: الفارسية والرومية والحبشية والمصرية، وكانت الأكثر ثراء والأنسب سكناً من سائر المناطق الصحراوية، ولهذاشخصت الانظار إليها وطمعت عيون الدول المجاورة القوية فيها، فكانت تستعمرها وتصبح مناطق نفوذ لها، بل قد تضمها إلى بلادها، إذ كانت الحبشة وفارس والروم ـ على سبيل المثالـ تتبادل الجنوب الذي كان يخضع للإمبراطورية الفارسية إبّان ظهور الإسلام، كما كان الشرق والشمال الشرقي للمنطقة ( الجزء الأكبر من العراق الحالي) يعتبر جزء من فارس، وماطاق كسرى فيه إلاّ القصر الشتوي لخسروان، في حين كان شمال الجزيرة وغربها (سوريا ولبنان وفلسطين) يخضعان لسيطرة الروم.
وكلما اقتربنا إلى قلب الجزيرة وسواحلهاالغربية انعدمت آثار الحضارة والحياة فيها، وسوى مدن مكة ويثرب ( المدينة حالياً) والطائف لم تكن هذه المنطقة مأهولة وليس فيها مدن أخرى، ولهذا السبب ظلت بعيدة عنالأطماع، سوى ما حدث في عام الفيل، سنة
(61)
ولادة الرسول على ما هو مشهور حينما تعرضت مكة والكعبة إلى هجوم جيش إبرهة الحبشي، لا بسبب استراتيجية أرضهاوأهميتها، وإنما لهدم الكعبة، لكونها كانت تمثل معبدا للعرب، وقد انكسر هذا الجيش بشكل إعجازي بنص القرآن الكريم.
يعيشسكان الصحارى في حرية مطلقة لا تحدها حدود، لا تجمعهم دولة واحدة، بل يتناثرون كقبائل متفرقة يعشعش فيها الجهل، ويركبهم الغرور القبلي والتعصب الطائفي والمفاخرالعشائرية.
وكانت النزاعات بين هذه القبائل على أشدها حتى أصبح شغلها الشاغل وهمها الدائم، بحيث يتوقف برنامجها الحياتي وتجارتها وسفرها وعبادتها إلى الحرب،ولم تكن تتوقف هذه الحروب أو يترك الاستعداد لها سوى في الأشهر الحرام (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) طبق تقليد قديم، للانصراف فيها إلى شؤون الحياة والتجارة والحج.
هذا الصراع الدائم والنزاع المستمر أدى إلى عقد اتفاقيات عديدة وأحلاف كثيرة بين القبائل، كما أعطى أهمية خاصة للاستقامة بوجه العدو والوفاء بالعهد، وأصبح دفاعالقبائل المتحالفة عن بعضها والتضحية والإيثار في سبيل القبيلة الحليفة من الخصوصيات العربية حينذاك، الأمر الذي يستتبع بشكل طبيعي الشجاعة والكرم والسخاء.
إذن كان للحياة الصحرواية وعدم الانقياد لحكومة مركزية واحدة أثر كبير في نمو روح الاستقلال والحرية والأباء والهمة والشجاعة في النفوس، من جهة أخرى شلت الحروبالمتتالية والمستمرة التجارة والزراعة والاقتصاد بشكله العام الضعيف من أساسه بسبب
(62)
وكان عدد المتضررينبالحروب من معاقين ويتامى وأسرى وعبيد يتزايد باستمرار، كما اتصف ذلك المجتمع بالطبقية وانتشر فيه الربا ( أضعافا مضاعفة) وشاعت كراهية البنات وإهانة المرأة بشكل عام منخلال الفحشاء وتبادل الزوجات واتخاذ الأخدان والفاحشات ( ذوات الأعلام)، وانتشر الزواج المتنوع الذي انتج أبناء غير شرعيين مشكوك في انتمائهم إلى عدة آباء، كماانتشر بين صفوف الطبقة المترفة القمار والشراب والفساد بأنواعه، وأصبحت هذه الخصال هي التي تشكل الإطار العام لحياة فترة الجاهلية التي ذاع صيتها بهذه الصورة بينالشعوب المجاورة، وعبر عنها القرآن الكريم بالجاهلية الأولى، وهذا شأن كل الجاهليات التي لم تحظ بنعمة التوحيد كالجاهلية الرومية والفارسية والمصرية وغيرها.
خلافاً للشعوب المجاورة والنصارى واليهود داخل الجزيرة، فان الجهل والأمية كانا يعشعشان في صفوف الغالبية من العرب، وكانواغرباء عن الكتاب والكتبة والمدرسة والمعلم والخط، إلاّ في برهة صغيرة حيث ظهر عدد من الناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد يقرؤون ويكتبون ( بشكل ناقص) في مكة ويثرب، وقد أوجدتالحياة الصحراوية والحاجة التي تتولد عنها ومن خلال الاتصال ببعض الأقوام والشعوب الأخرى علوماً ناقصة في الجزيرة مشوبة بالخرافة، أمثال: التنجيم والكهانة والسحروالأساطير والطب وعلم الأنساب والأنواء، حيث انتشرت طوال قرون متمادية بين صفوف العرب الذين لم
(63)
يكن كلهم على معرفة بهذه العلوم، أو بتعبير أدق بهذهالتجارب والأوهام، وإنما اقتصرت على بعضهم فاشتهروا بها، وكانت تشد إليهم الرحال من قبل عامة العرب الذين كانوا يعتقدون بها ويرتبون الأثر عليها.
ولم تكن هذهالعلوم تستند إلى الكتاب والتعليم الصحيح وإنما تنتقل من جيل إلى آخر بشكل مباشر أو عبر التجربة.
أما الذوق الفطري والقريحة وجزالة اللفظ وقوته الذي تجلى فيالشعر والخطابة العربية، أو كما يقول الجاحظ: إن ما يقوله العرب هو عن بديهة وإلهام وتجري عنهم المعاني الممتازة والكلام الدقيق كالسيل دون تأمل وتفكر. فإن هذه القدرةالخلاقة كانت تستهلك ـ وبشهادة أدبيات الفترة الجاهلية ـ لامتداح الذات والفخر بالأجداد، والقتل والثأر والتحريض على الحروب وسفك الدماء، والتغزل والهجاء والمديح فيغير محله وما شابه.
ومثلما كانت دواوين الشعر الجاهلي التي جمعت فيما بعد مظهراً لفن البيان والبلاغة والفصاحة والشجاعة لدى العرب، فأنها كانت أيضاً صورة منواقعهم، بما يحمله من مشاكل اجتماعية معقدة ومفاسد أخلاقية. إلاّ أن هذه السابقة الأدبية الممتدة للغة العربية بلغت بها إلى ذروة الفصاحة والبلاغة بحيث أصبحت معدة لبيانأرق العواطف وأدق الأفكار، كما أن هذه السابقة الأدبية هيأت الإدراك العربي وصقلته لنيل أعلى المعارف الإلهية.
ويبين القرآن الكريم ـ الذي يمتاز بأعلى صورالبلاغة ـ مدى بلاغة مخاطبه وفصاحته حين يتأثرون به بشكل خاص، وإلا فان الكلام البليغ والعميق والفصيح لا يمكن أن يجذب الأبله والأحمق والسطحي من الناس. ومن مضامينالآيات القرآنية يتأكد بوضوح أن
(64)
القرآن نزل بلسان بسيط يدركه العرب، وما عبارة ]بلسان عربي مبين[ والآيات المماثلة إلاّ إشارة لذلك. وبالطبع فإننا لاننكر أن القرآن الكريم نزل لجميع الأجيال والأقوام حتى نهاية العالم، ولا يمكن القول بأن كل دقائقه كانت مفهومة لجميع عرب عصر النزول، وأن القرآن أخذ بالاعتبار إدراكاتمخاطبيه كلهم إلى نهاية العالم. بيد أننا لا نوافق أيضا من يقول بان معظم الناس الذين خاطبهم القرآن في عصر النزول لم يكونوا يدركون دقائقه وكنه أعماقه.
إذن،فبلاغة القرآن الكريم تدل على بلاغة العرب وفصاحتهم، ولا سيما إذا علمنا أن إعجاز القرآن يكمن في بلاغته انسجاما مع هذا الفن الذي كان شائعا بين العرب حينذاك، مثلماتناسبت العصى مع سحر السحرة، وعيسى مع الطب، وهكذا بالنسبة لباقي الأنبياء، حيث شاءت السنن الإلهية أن تكون معجزات الأنبياء ملموسة لأممهم.
ومهما يكن من أمر،ورغم أننا نوافق بعض الموافقة شكوك طه حسين وغيره في صحة انتساب أشعار الجاهلية إلى شعراء الجاهلية، إلاّ أننا لا نستطيع أن ننكر بلاغة العرب وفصاحتهم وقدرتهم الفائقةعلى قول الشعر، بل علينا أن نعترف أنهم بلغوا مبلغا متكاملا في هذا الفن بحيث باتوا يستطيعون إدراك سر الإعجاز القرآني، الأمر الذي أصبح فيما بعد موضع خلاف حتى بينالعلماء كنتيجة للاختلاط مع باقي الأجناس واللغات واللهجات.
بلحاظ ما قلناه، فان مما لا شك فيه شيوع فن الشعر عند العرب الذي ارتقى لديهم إلى مستوى رفيع، وماالأشعار والقصائد الكثيرة التي وصلتنا ومنها( المعلقات السبعة) إلاّ دليل على عظمته عند العرب.
وتتميز اللغة العربية بكثرة المترادفات، وسعة الاشتقاقات ووفورأدوات الربط
(65)
وأسلوب تركيب الجمل وقواعدها، ولا سيما عند أولئك الذين سكنوا وسط الجزيرة والذين اشتهروا بالفصاحة واحتفظوا بخصائصاللغة تماما لعدم اختلاطهم بالشعوب المجاورة. وكلما اتجهنا نحو سكان المناطق الحدودية، لاحظنا أن لغة الناس تشوبها كلمات أجنبية وتختلط بمفردات اللغة عبارات فارسيةورومية وحبشية وغيرها، مما يفقد اللغة أصالتها. ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن بعض الشعراء انطلقوا من قلب الجزيرة وكانوا يترددون على البلاط الفارسي والرومي وعلى ملوكالحيرة، فتأثرت أشعارهم بتقاليد تلك الأمم.
رغم أن الأديان المختلفة من نصرانية ويهودية وزرادشتية وصابئية ومزدكيةوغيرها تغلغلت تدريجياً بين صفوف العرب إلاّ أن الغالبية ظلت على عبادة الأصنام، فبالإضافة إلى الأصنام المنزلية، احتوت الكعبة على 360 صنما كل منها يختص بقبيلة معينة،فضلا عن الصنم الأكبر(هبل) الذي اعتبروه رباً مشتركاً لجميع العرب. ولهذا حظيت الكعبة باحترام العرب وتقديرهم وأصبحت محلا لعبادتهم، وكان العرب ولاسيما العدنانيون منهميكنون احتراما خاصا لإبراهيم ـ عليه السلام ـ، وينسبون دينهم إليه، ولكن لم يكونوا يمارسون من هذا الدين الذي أسس على التوحيد الخالص إلاّ بعض أعمال الحج ومناسكهوبطريقة منحرفة وبعض الشعائر الأخرى، ويبدو إنه لم يكن الانتساب إلى إبراهيم إلاّ من باب المباهاة والفخر والغرور والتكبر على الآخرين.
(66)
ولد النبي صلى الله عليه وآله في مدينة مكة من أعرق الأسر وأشراف القبائل، أي من بني هاشم من قبيلة قريش، وكان أجداده من سدنة بيت اللهوموضع احترام أهل مكة بل كل العرب، وقد أمضى النبي صلى الله عليه وآله أربعين عاما من عمره الشريف (قبل البعثة) في مكة معروفا بأمانته وحسن سيرته. وطوال هذه المدة لم يقرأكتابا ولم يكتب خطاً واحداً ولم يتصل بالعلماء والقادة الدينيين ولم يسجد لصنم ولم يتبع الدين الذي كان يتعبد به قومه.
في مثل هذا البيئة، وعلى مثل هذه الشخصيةنزل القرآن الكريم قبل أكثر من ألف واربعمائه عام. ويبدو أن يد التقدير هيأت العرب لقبول القرآن والإسلام وفهمه، وهكذا أصبح مقدراً أن يبعث آخر الأنبياء وينزل آخر الكتبالسماوية على هؤلاء القوم وبلغتهم وفي قلب صحراء الجزيرة الحارقة.
لقد هيأ استعداد العرب لغوياً وفكرياً لبساطة أذهانهم وجهلهم بالعلوم واستعدادهم لا دراكالمعارف الإلهية ونقلها إلى الشعوب الأخرى دون أن تختلط بالأفكار والفلسفات البشرية، إضافة إلى روح الشجاعة والحرية والاستقلال والالتزام بالمواثيق والسخاء والتضحيةوالكثير من الفضائل الأخرى، كل ذلك هيأ الأرضية اللازمة لتأسيس دولة قوية وإقامة مجتمع قوي يستسلم للإرادة الإلهية. وهذا هو سر اصطفاء النبي صلى الله عليه وآله من العرب،فقد كان الوضع الروحي والاجتماعي للعرب قبل الإسلام بشكل يمكنهم من التقدم والتكامل والتفوق على الشعوب الأخرى سريعاً لو أزيلت عنهم الانحرافات الفكرية والمفاسدالأخلاقية وشاءت الإرادة الإلهية أن تنزل هذه العطية الإلهية من خلال القرآن والرسول على أولئك القوم بل على البشرية جمعاء في الوقت المناسب، وقضت الإرادة
(67)
لنر الآن من أين بدأ القرآن، وكيف أدى رسالته ؟
بداية القرآن الكريم رسالته الخطيرة في المرحلة الأولى بهداية الأفكار وتهذيب النفوس، وفي المرحلة الثانية بإصلاح الأعمال، وبشكل عام فان القرآن اعتبر أساسإصلاحاته الفردية والاجتماعية الإيمان القلبي والتقوى الباطنية والعمل الصالح، وربط بين هذه الأمور الثلاثة وبين الفلاح الدنيوي والأخروي ]... الذين آمنوا وعملواالصالحات...[ (1).
واعتبر في سورة (العصر) جميع الناس في خسران إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إذ يمكن اعتبار هذه السورة البرنامج الإصلاحي للقرآن، وكما يقولالشافعي: فان هذه السورة كانت كافية في إصلاح البشر وتكامله لو لم تنزل غيرها.
بدأ القرآن هدايته الفكرية بتوجيهالأفكار نحو فلسفة الخلقة والمبدأ والمعاد، وقدم أساساً فكرياً ومدرسة فلسفية خاصة هي محور كل تعاليم هذا الكتاب، أو كما يعبر عنه في العصر الحاضر بأنه قدم نظرتهالكونية الإلهية الخاصة.
وتتركز هذه النظرة ـ باختصار ـ على أن عالم الوجود ـ ومنه الإنسان ـ بدأ من الله وينتهي إليه، وعلى الإنسان أن يطوي هذه المسافة جبراً،أما فلسفة هذه الحركة القوسية
1 ـ العصر:3.