أ.د.جمال أحمد آبادي
قسم الدراسات العامة - بماليزيا
تدخل الأمة الإسلامية اليوم الألفية الثالثة وهي تواجه تحديات كثيرة أهمها:العولمة وتداعياتها، وتهمة الإرهاب وتبعاتها، وتربص الأعداء وتكالبهم، والصهيونية وأطماعها وخططها... الخ.
وفي مقابل كل هذا نجد الفرقة والشتات تعصفان بأبناءالأمة ودولها، خلافات مذهبية وقومية تكاد تذهب بحقيقة الأمة وكيانها، ونزاعات وحروب داخلية تذهب بثروة الأمة وتهدر دماء أبنائها.. الخ، وإلى جانب كل ذلك نجد ضيقاً فيالنظر وتعصباً في المواقف فما هو الحل والمخرج؟
إن القاعدة والأساس السليم لمواجهة كل هذه التحديات هي وحدة الأمة وتعاونها، ومن ثَمّ إذا كانت وحدة المسلمينمهمة في كل عصر فإنها باتت ضرورة ملحة في هذا العصر، نظراً لعظم التحديات التي تجابه أبناء الأمة في
كافة المستويات: المحلي والدولي، والسياسيوالإقتصادي والفكري والثقافي والتربوي.
وأسس تحقيق الوحدة الكاملة متوفرة في الأمة، وهي الوحدة الثقافية والإحساس المشترك بالأخوة التي تقوم على قاعدة الدين،بعيداً عن العرقية والصعبية الجنسية والقبلية والقومية وغير ذلك من أنواع التحزب، إلى جانب الشعور بالمسؤولية المشتركة في حماية الدين ورعاية المجتمع والنهوض به.
وبيد أن عناصر الوحدة ترتكز أساساً حول العديد من الدعائم أهمها: الوحدة الفكرية والوحدة السياسية والوحدة الاقتصادية، إلا أن الأرضية المشتركة لها جميعاً هي الوحدةالتربوية التي كانت سبباً في إيجاد ذلك الشعور المشترك بوحدة كيان الأمة والإحساس بالأخوة الإسلامية الجامعة.
إن موضوع هذه الورقة هو التحديات التربوية التيتواجه الأمة الإسلامية في هذا القرن، وهي تتمحور بصورة أساسية حول امهات التربية في الإسلام وهي: الأسرة والمسجد ومؤسسة التعليم ومؤسسة الدعوة، ودور كل منها في أداءرسالة الوحدة والعقبات التي تواجهها.
وإذ يتناول البحث هذه الموضوعات بالعرض والتحليل، يبيّن أولاً التحديات التربوية العامة المشتركة التي تبرز من خلال هذهالمنافذ جميعها، ثم يتناول ثانياً بصورة مستقلة التحديات التي تبرز من كل منفذ تربوي على حدة.
أما التحديات التربوية العامة لوحدة الأمة - في نظر الباحث - فتتمحورحول ثلاثة أمور: النظرة الأحادية في التربية، إغفال الشورى، والتعصب الفكري والمذهبي وقلة التسامح.
وقبل تناول كل هذه الجوانب بالتفصيل يحسن توضيح الإطار النظريلمفهوم الوحدة الإسلامية وأهميتها.
الوحدة قيمة كونية رفيعة تحكم قوانينها كل ميادين الوجود، وعلى أساسهيتم التفاعل العظيم بين الكون والحياة والإنسان، ولولاها لا ضطربت كل مفردات التكوين المتوجهة إلى الخالق بالتوحيد والتسبيح بلسان الحال أو المقال.
ومن المعلومأن الإسلام - وهو شريعة الله ودين الفطرة - جاء وفقاً لما أودع الله في هذا الوجود من سنن وأحكام. ولذلك فمن الطبيعي أن يشغل موضوع الوحدة مساحة كبيرة من اهتماماته، فقالتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِأَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .
فالآية تشير إلى الأصل الواحد للبشرية، ولكن تؤكد على دور التباين والاختلاف الذي غايته التعارفوالتآلف الطوعي. وكما تشير الآية - بطريقة ضمنية - إلى أن علاقة الأسرة المتمثلة في الأصول والفروع «الأبوة والبنوة» تعتبر من أهم عوامل الوحدة بين البشر.
ثم بيّنالقرآن أهمية وحدة الأمة الأسلامية بصورة خاصة وركّز عليها، فقال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) ،وقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ) (آل عمران:103) . كما بيّن أسباب الفرقة والشتـات وعــواقبهما فقـــال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَرِيحُكُمْ) (لأنفال:46) .
وقد جاءت السنة النبوية مؤكدة على هذه الأسس والأصول، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله(ص): «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة،ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار»(1).
(148)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا،وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»(2).
وعن زكريا بن سلاّم يحدث عن أبيه عن رجل قال: انتهيت إلى النبي(ص) ، وهو يقول: «يا أيها الناسعليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ثلاث مرات»(3).
ومن هنا باتت وحدة أمة الإسلام وتماسكها جزءاً من حقيقة كيانها المادي والفكري والثقافي، فلا يتحقق إلا بها، دونالعصبية العرقية أو القومية أو الجنسية.
مع أهمية الوحدة الإسلامية، فإن سنة الله قد قضت باختلاف الناس، فلم يفرضالوحدة الفكرية قهراً بأن جعل الناس على قالب واحد في الفكر والنظر، بل جعلهم على رؤى مختلفة ونظرات متباينة؛ إثراءً لساحة المعرفة وبناءً لصرح العلم. وأيضاً لم يجعلالله الناس متوحدين في وجودهم المادي من حيث الأشكال والألوان، آية للناس، كما لم يجعلهم متوحدين من حيث المكاسب والأرزاق دفعاً إلى السعي والتعمير.
وهناكالعديد من الآيات التي تبيٍن هذه السنة الإلهية وتؤكدها، ومنها هود 118، 119، والشورى 8).
ومراعاة لهذه السنة وتأكيداً لها قال الله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَالنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) (الزخرف:33) .
وبهذا يتبيّن أنه إذا كانت الوحدة قيمة كونية فإن الاختلاف في الرأي
(149)
والنظر قيمة إنسانية به تنهض الأمم وتُبنى الحضارات، ومن هنا تأخذ الوحدةمفهومها التعاوني التعاضدي على البر والتقوى في كافة المستويات.
إن الإنسان لا يكون إنساناً حقيقياً إلابالتربية، وليست التربية إلا اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحكَم والتعاليم، وهي المبادئ الحقيقية التي تعلم الإنسان الصدق والأمانةوالإخلاص، وكل الخصال الحميدة.
أما الرابط بين التربية والوحدة فيتمثل في أن التربية هي الأساس الصحيح للوحدة، والإنسان إذا تربى تربية صحيحة أحس في نفسه أنهسعيد بوجود الآخر معه؛ على عكس ما يشعر به غيره من الشقاء بوجود غيره بجانبه. فالتربية تبث في المسلمين إحساساً واحداً يؤلف بين قلوبهم وشعورهم وحاجاتهم، وحينئذ يحس كلفرد منهم بالسعادة بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه ولغيره.
فالتربية الحقيقية هي التي تعلم الإنسان رابطة العلاقة بينه وبين غيره من أفراد نوعه، فهي التي تعلمالإنسان مَنْ هو ومَنْ معه، فيتكون من ذلك شعور واحد ورابطة واحدة هي رابطة الإتحاد. وما الاتحاد إلا ثمرة شجرة ذات فروع وجذوع وجذور وأوراق، هي الأخلاق الفاضلة بمراتبهاالمختلفة، فعلى المسلمين إذا أرادوا الإتحاد أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة..، فالناس في كل الأمم أكفاء فيما بينهم لا يتمايزون إلا من جهةالعقول ونوعية الأخلاق، وهي لا تكتمل إلا بالتربية(4).
ومن أجل هذا فإن منهج التربية في الإسلام منهج متكامل يعني
(150)
بتربية الجسم والروح والعقلحتى لا تطغى ناحية من النواحي على الأخرى، وبذلك ينشأ المسلم سوياً قوي الصلة بالله؛ محققاً لرسالته في الحياة(5). وهكذا تعمل التربية الإسلامية على إعداد الإنسانالمستخلَف في الأرض على مفهوم وحدة الجنس البشري وتوحيد الخالق سبحانه، وخصوصية الأخوة الإسلامية.
إن كان للتربية أهداف كثيرة اجتماعية ومهنية وغيرها، فإنالهدف الأول للتربية في الإسلام هو بناء شخصية المسلم بصورة متوازنة، ومن أجل تكامل النظرة الإسلامية إلى الحياة والوجود والمجتمع، جمعت التربية الإسلامية بين تأديبالنفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي تعني بالتربية الدينية والخلقية والصحية والجسدية، دون إعلاء شأن أي منها على حساب الآخر. ولذلك فإن التربية فيالمفهوم الإسلامي هي إعداد روحي ونفسي وفكري وجسدي للفرد بحيث يكون مؤهلاً لأداء رسالته في الحياة والمجتمع، والبناء الحضاري وفق القيم الـخُلقية التي جاءت بها الرسالةالخاتمة. وهذا الإعداد الروحي والفكري ينبغي أن يعم المجتمع بأسره، وسنة الله في ذلك أن توجد روابط وعلاقات في الأسر والعائلات تسري منها إلى الفروع وإلى الأصول القوميةومنها تسري إلى مجموع الأمة والبشرية جمعاء. فهو إعداد يتحقق بمختلف الوسائل منها: القدوة الطيبة والموعظة الحسنة والتوجيه التربوي المنهجي والإرشاد العام، وهكذا يفتحالإسلام بالتربية مجالاً لتكامل الإنسان في ذاته ويحرره من التمزق والشتات ويمنحه نظرة وحدوية جامعة، سواء كان في نظرته للخالق سبحانه، أو لبني جنسة عامة أو لأمتهالإسلامية خاصة.
وهكذا يتبيّن أن من أهم أهداف التربية دعم وحدة الأمة وتوحيد صفوف المسلمين عن طريق نبذ الخلافات، والالتفاف حول المبادئ والمعتقدات الإسلاميةالمتفق عليها، وبثّ روح التسامح بين مختلف التيارات الفكرية،
(151)
وغرس الوازع الديني الصحيح في الأجيال(6).
فأبرز ما يتميز به منهج التربية فيالإسلام هو أنه وحدوي الاتجاه، متكامل النظرة؛ مستمدٌ من الفطرة؛ يجمع بين المادي والمعنوي؛ والمنقول والمعقول. ومن هنا تتحدد التحديات التربوية التي تواجه الأمة فيهذا القرن من خلال أربعة مداخل تربوية أساسية لتحقيق وحدة الأمةوهي: الأسرة ومؤسسات التعليم وحقل الدعوة ثم المسجد.
ولكن قبل بيان التحديات التربوية الخاصة بكلمدخل، نقف قليلاً مع التحديات التربوية العامة التي تجابه الأمة في هذا العصر.
إن التحديات التربوية التيتواجه الأمة الإسلامية في هذا القرن في مستوياتها العامة لها صور مختلفة وأبعاد متباينة: دينية وثقافية وفكرية تبرز بصور شتى يمكن تلخيصها جميعاً في ثلاثة عوامل جوهريةتتمثل في: النظرة الأحادية في التربية، وإغفال الشورى، والتعصب الفكري والمذهبي وقلة التسامح.
المقصود بالنظرةالأحادية هنا معنيان: أحدهما النظرة القاصرة عن وضع الخطط التربوية الشاملة التي تستوعب حياة المسلم كلها وتربطه بقيم دينه وعقيدته مع العمل وفق معارف العصر ومقتضياتهدون انفصام أو إنقطاع. والمعنى الثاني للنظرة الأحادية في هذا المقام هو أن ينفرد كل قطر إسلامي أو مؤسسة تربوية بسياسات تعليمية وتربوية دون مراعاة للرابطة الإسلاميةالتي تجمع قلوب المسلمين، فتنشأ بذلك أجيال لا تربطهم مشاعر أخوة
(152)
حقيقية، بل يغلب عليهم التعصب العرقي أو القبلي أو القومي دون التعصب لرابطةالإسلام الجامعة.
فالوحدة الإسلامية لا تتحقق في الواقع الخارجي إلا بعد شعور المسلمين من أعماق نفوسهم بأنهم أمة واحدة دون سواهم، مهما طغت الخلافات بينهمأحياناً وبرزت الى السطح، إذ أن ربهم واحد وكتابهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة. أما اختلاف الأفكار والاجتهادات - ولا أقول العقائد - بين المسلمين فإنه دليل رقي وتحضرلا علامة تخلف وإنحطاط، لأن تباين الأفكار قيمة إنسانية حضارية وسنة كونية.
فالتخطيط التربوي الشامل الذي يهدف إلى تربية المسلم عقديا وروحياً وفكرياًوأخلاقياً ومعرفياً؛ دون ازدواج منهجي، وتوحيد المناهج في الأقطار الإسلامية مع مراعاة الخصوصيات المحلية، من الخطوات الضرورية نحو توحيد الفكر التربوي الشامل فيالعالم الإسلامي، وذلك بتأهيل المسلمين معرفياً بحيث يكون هناك المثقف المسلم الداعية؛ والمهندس المسلم والطبيب المسلم، الذين يتولى كل منهم موقع المسؤولية من أجل بعثالروح الإسلامية من جديد، وتحقيق الوحدة الشاملة بين الأقطار الإسلامية: سياسياً وإقتصادياً واجتماعياً، وإعادة الانطلاق الحضاري الذي تمتعت به الأمة لقرون خلت(7).
أما مظاهر التحديات التربوية التي تنشأ بسبب النظرة الأحادية فإن من أهمها الفصل بين الديني والدنيوي في العملية التعليمية، وهو في حقيقته من مخلفات الاستعمار، وجزءمن التحديات العالمية التي تواجه الأمة الإسلامية التي تظهر في ثوب سياسي أحياناً وفي صورة إحتلال عسكري أو غزو ثقافي أحياناً أخرى.
ولاخلاص من هذه التحديات إلابتوحيد النظرة التربوية والسعي إلى ربط
(153)
العلم بالدين، وربط الدين بالعلم، في خطة تربوية شاملة تهدف إلى إعداد جيل مسلم متماسك فكرياً وثقافياً،فاعل ومتفاعل في إطار وحدة أمته الإسلامية.
إذن في سبيل تجاوز النظرة الأحادية لابد من تحقيق أمرين: الاول صياغة مفهوم للتربية شاملٍ يقوم على قيم الدين الحنيف؛يعمق أصول عقيدة التوحيد في النفوس، ويرتكز على علوم العصر. الثاني إبراز أهمية التعدد الفكري كقيمة حضارية والتعدد العرقي والقومي كقيمة معرفية، كما قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) (الحجرات:13).
فالمقصد الإلهي من جعلنا فيأطر قبلية قومية وعرقية هو التعارف والتآلف والتكامل، لا التناكر والاختلاف والتشرذم، فلا جنسية للمسلم بحق إلآ الإسلام، وهو أمر لا يمكن تحقيقه وغرسه في القلوب إلابالتربية بمفهومها الشامل.
الشورى في الإسلام مبدأ أساسي يتحقق على مستويين: عام وخاص، أما الشورى على المستوى العام فهو شامللسواد الأمة ونخبها ولاسيما في شأن سياسة المجتمع، كحسن اختيار من تكون لهم مكانة في السلطة السياسية أو التشريعية، وفي شأن مصلحة الأمة في علاقاتها بغيرها من الأمم فيالسلم أو الحرب.
وبصورة عامة لابد من تطبيق الشورى على المستوى العام في كل القضايا التي تتعلق بمصير الأمة وتحديد مستقبلها. فالشورى العامة حق أصيل للأمة لذلكبيّن الله تعالى لنبيّه (ص) ضرورتها، فقال تعالى: (وَشَاورهم في الأمر) (آل عمران:159) ، كما وصف المسلمين بقوله تعالى: (وأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم)
(150)
(الشورى/38)، مع ملاحظة أن اللفظ «في الآيتين أعم من تلك الجوانب التي تمّ تحديدها، مما يفيد أن الشورى بمستوييها من خصائص المجتمع المسلم، ولكن أحدهما على مستوى الوجوبوهو الشورى على المستوى العام والثاني على مستوى الندب وهو الشورى على المستوى الخاص.
وغياب الشورى العام في ربوع العالم الإسلامي أمر ليس في حاجة إلى بحثلاكتشافه أو إلى تحقيق لبيانه، لأن حال الأمة خير شاهد على ذلك، ولكن الذي في حاجة إلى نظر وبحث هو سبل الخروج من هذه الحالة السيئة.
أما الشورى على المستوى الخاصفينصرف إلى معالجة القضايا الداخلية للمجتمع المسلم، وهو ما يسميه بعضهم بـ(الاستشارة) (8).والشورى بهذا المستوى قد يكون في أمر يهم المجتمع بأسره ولكن ليس بالضرورة أنتكون شاملة، بل تكون ممارستها محصورة في نطاق السلطة التنفيذية أو التشريعية بحكم شرعيتهما، أو تكون محصورة في نطاق قطاع معين من قطاعات شرائح المجتمع، مثل الأطباء أوالمهندسين أو غيرهم. ومن هذا القبيل التشاور في نطاق الأسرة على أمر يهمها، وهو ما أكدّ عليه القرآن حتى في أضعف حالات الرابطة الأسرية عند الطلاق، فقال تعالى: (فَإِنْأَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)(البقرة:233) .
فالتحديات التربوية التي تواجه الأمة بسبب إغفال الشورى على مستوييها: العام والخاص تحديات عظيمة، تؤدي إلى المزيد من الفرقة والشتات بين أبناءالأمة وأقطارها. فكثير من المواقف المتباينة والآراء المشتتة لأبناء القطر الواحد من أقطار المسلمين حول القضايا الوطنية سببها في أكثر الأحوال عدم الميل إلى التشاوروتجميع الرأي حولها، كما أن كثيراً من الفرص الثمينة تضيع على
(155)
المسلمين في مواجهتهم ضد أعدائهم بسبب عدم التشاور وتنسيق المواقف.
الإسلام دين العفو والتسامح والصفح بقدر مقته للتعصب الفكري، والتعصب الأعمى للرأي دون تبصر. فهو يدعو إلى الإعتدال ويؤكدعلى الأخذ بالقاعدة الذهبية في العلاقات البشرية وفي الشؤون الأخلاقية، ويرفض بصورة صارمة إتباع الآخرين بغير علم، كما يرفض الجمود على المواقف بغير إدراك لقدر الحقيقةالكامنة فيها، ولذلك ينعى القرآن على أولئك الذين أعماهم التعصب الفكري أو المذهبي عن تبصر الحق بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوابَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170) ، وقال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَالِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَاأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (لأعراف:179).
لم يكن هذا التشديد من القرآن على التعصب الفكري والمذهبي إلا لأنهمامطية إلى الجهل وجمود على المواقف وتخلف عن الركب في هذا الكون المتحرك. فيد التسامح الفكري يجب أن تكون ممدودة بين كل تيارات الفكر الإسلامي ومذاهبه: (وَاعْتَصِمُوابِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْبِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْتَهْتَدُونَ) (آل عمران:103) ، (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46). بل يد التسامح ممدودة إلىالناس جميعاً بمختلف أفكارهم ودياناتهم وأعراقهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
(156)
خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .
إذن التعصب الفكري والجمودالمذهبي، وإن وجدا مكاناً ضيقاً في ساحة الفكر الإسلامي الفسيح المليء بالتسامح، فإنهما ليسا من الإسلام في شيء إلا إذا كان إنحيازاً للحق بالتعصب له والدفاع عنه. وإنماينشأ التعصب الفكري نتيجة لمواقف تربوية خاطئة في ظل تنازع الفرق والأحزاب الإسلامية، وعلى الأمة أن تعمل على تجاوزها لأنها تشكل تحدياً تربوياً مهماً في طريق النهضةالحضارية للأمة.
إذا كان ماسبق يمثل التحديات العامة، فهناك تحديات أخرى عديدة تجابه الأمة في جهاتالإشراف التربوية بصورة خاصة، أي من خلال التوجيه المنتظم عبر الأسرة والتعليم المنهجي ومؤسسة الدعوة ورسالة المسجد. وهذه التحديات إنما تعبّر بصور مختلفة عن مدى الخللالذي أصاب النظام التربوي الإسلامي المعاصر، سواء كان بعوامل داخلية تتعلق بمناهج التربية عامة، أو تتعلق بمؤثرات خارجية ناتجة عن تطور العصر وتغير ظروف الحياة، بحيثيتطلب اتخاذ أساليب أكثر فاعلية لمواجهة تلك التحديات، إذ لم يعد من الملائم اتباع الأساليب العتيقة في درء خطرها.
إن رسالة مؤسسات التوجيه التربوي في الإسلامإنما تهدف بالأساس إلى غرس قيم الإسلام في النفوس لتضع بذلك مباديء وحدة الأمة على قواعد متينة تمتد بجذورها إلى أعماق ضمير المسلم منذ طفولته في تفاعله مع وحدة الأسرةوانسجامها وترابطها، مروراً بنظرة المسلمين الموحدة نحو مناهج التربية النظامية المؤسسة على تلك المبادىء، وانتهاء بالإرشاد والتوجيه المخطط عبر مسالك الدعوة ورسالةالمسجد.
(157)
إذن ينبغي النظر إلى هذه التحديات التربوية بشيء من التفصيل من خلال عرض وجهات الإشراف التربوي في الفكر الإسلامي.
الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، وهي الوحدة الأساسية في البناء الاجتماعي التي يتكون منها كيان الأمة ووحدتها. ولذلكفإن مؤسسة الأسرة هي القاعدة الطبيعية التي تقوم عليها الأصول التربوية لوحدة الأمة وتناط بها مهمة التوجيه والإعداد الروحي والثقافي، وبالتالي لابد أن تقوم الأسرة علىأسس خلقية ومعرفية متينة تقود إلى إدراك أهمية وحدة الأمة والسعي إلى تحقيقها.
وللأسرة وظائف مهمة في المجتمع مثل التنشئة الاجتماعية والتعاون الإقتصادي وتحقيقالعفة واستمرار النسل، ولكن أهم وظيفتين للأسرة بالنظر إلى موضوع الوحدة هما الوظيفة الأخلاقية والتربوية اللتان يتحقق من خلالهما غرس معاني الوحدة في الإنسان، ولذلكلابد للأسرة في أداء هاتين الوظيفتين أن تتجه نحو حسن الخلق وكماله والتربية الرشيدة.
إن الوحدة لاتتحقق بصورة منشودة إلا بالتربية التي بها ترسخ المباديء في الضمير، وحقيقة التربية في مبتدأ أمرها تكون في الأسرة عن طريق المحاكاة والقدوة والتلقين، فينشأ الطفلمتبعاً لوالديه متأثراً بهما في السلوك والعمل. لذلك حرص الإسلام على العناية بالطفل بصورة تمتد إلى ماقبل ميلاده بـإعداد الإطار الذي يتحرك فيه، فدعا الرجل إلى اختيارالزوجة من مبنت صالح يتصف بالتدين والخُلق الحسن.
ويرجع الإسلام أكثر الأخطار التي تحيط بالإنسان في حياته إلى طبيعة
(158)
عقيدته الدينية، ومنثَم شعوره بالمسؤولية تجاه خالقه وتجاه نفسه والخلق أجمعين. ومن هنا يوجه الإسلام الفرد منذ طفولته المبكرة إلى فهم حقيقة الإيمان بالله ومسؤوليته الفردية في الحياةوالالتزام الأخلاقي، فيتكون بذلك الإنسان القادر على حمل أمانة الاستخلاف في الأرض، العامل في سبيل إقامة مجتمع الإيمان، المدافع عن كيان الأمة الحامل لرسالتهاللعالمين، المدرك لدوره في تحقيق وحدة الأمة وتوثيق عرى الأخوة الإسلامية فيها.
ليست المؤسسات التعليمية ولا المؤسسات الدعوية هي التي وحدها تصنع مثل هذاالإنسان؛ المستخلَف الرسالي الوحدوي بحق، وإنما الأسرة هي التي تبدأ في غرس كل هذه المعاني في قلوب بنيها بسهولة ويسر منذ نعومة أظفارهم وتسقيها بماء المحبة وترعاهابالعناية حتى يشبوا عليها ويقاتلوا دونها ويعضوا عليها بالنواجذ.
ومن هنا يظهر دور الأسرة وأهميتها في وحدة الأمة وخطورة التحديات التربوية التي تواجهها اليوم،فكم كان مؤسفا عندما أجبرت ظروف الحياة المرأة العصرية على الخروج للعمل، تاركة خلفها أجيال الأمة ومستقبلها تفترسهم دور الحضانة والملاجئ؟، وكم كانت النتيجة سلبيةعندما تُركت المرأة نفسها بحجج مختلفة في كثير من بقاع العالم الإسلامي يفترسها الجهل؟، وكم كان كارثياً عندما غزت تلك الأفكار والثقافات الشاذة الأسرة المسلمة في عقردارها عن طريق وسائل الاتصالات الحديثة وبثت فيها قيماً مناقضة لدينها وعقيدتها؟ وكم كان مخجلاً عندما توسعت بعض المجتمعات المعاصرة في معاني الأسرة وتم تحريرها بصورةكادت تذهب بحقيقتها وكيانها؟
كل هذه تحديات معاصرة وضعت أمام الأسرة المسلمة التي عليها المعول
(159)
في بناء قيم الوحدة ومعانيها في هذا العصر.وبالنظر إلى الدور الحيوي للأسرة المتعلمة في وحدة الأمة يقول محمد عبده: (إن النساء الجاهلات والرجال الجاهلين لا يمكن أن تتكون من بينهما أمة ولا جمعية، وعلى الخصوصإذا أصبحت العلائق والروابط الطبيعية مهددة بين الناس كما نشاهده بيننا الآن..، وهل يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن روابط للجامعة الكبرى؟!،أو ليس هذا كمن يطلب الثمرة من أغصان شجرة بعد ما جذّ أصولها وجذورها، وقطع أوصال عروقها، وغادرها قطع أخشاب يابسة؟!)(9).
تتضافر العديد من العوامل في هذا العصر لتضعف الأسرة المسلمة في القيام بواجبها ورسالتها في وضع أسس وروابط الوحدة الشاملة للأمة، ولعل أهم تلك العوامل تتمثل فيالآتي:
إن تقلب ظروف العصر الناتجة عن تطور مسالك حياة الإنسان وأسلوب تعامله مع البيئة من حوله دفعت المرأة للخروج إلى العمل تاركةوراءها أجيال الأمة دون رعاية حقيقية، أو تربية صحيحة تغرس في قلوبهم قيم الدين وشيم الأخلاق الحميدة التي تبيّن لهم معاني الوحدة الكامنة في روابطة الأسرة ووحدتهاوانسجامها. وهذه الحقيقة أدت إلى غياب الكثير من المعاني التي تتحقق عن طريق التربية الأسرية، ومن أهمها الشعور المشترك بوحدة الأخوة الدينية في مدارك المسلم الناشئةمنذ الطفولة عن طريق المحيط الأسري الواحد.
يقول أحد أساتذة علم الاجتماع في هذا الشأن: (لقد تبيّن - من خلال الدراسات الميدانية - أن الأطفال الذين يلحقونبالمؤسسات الإيوائية، مع توفر
(160)
الرعاية المادية الكاملة وإشباع حاجاتهم الجسمية؛ لا ينجحون في حياتهم ما لم تتوفر الحاجات النفسية والاجتماعية التيتحدد المواقف الطبيعية في اتجاهات الأم نحو صغارها..، ولقد تبيّن من دراسة مقارنة لجماعة من الأطفال المراهقين عاشت في مؤسسة داخلية، وجماعة أخرى عاشت في كنف أسر حاضنة أنالأطفال الذين عاشوا في المؤسسات كانوا أقل ذكاء، وأضعف في مهاراتهم اللغوية، وأقل قدرة على تكوين علاقات اجتماعية إيجابية مع الأشخاص الآخرين، كما كانوا أكثر عرضةللاضطرابات النفسية) (10).
إن التطور الهائل في وسائل الاتصال التي تحققت في هذا العصر، ولاسيما في الوسائل المرئية والمسموعة،قد أدخل خللاً واسعاً في النظام التربوي للأسرة المسلمة. فقد بات من الصعب على الوالدين والذين يتولون شأن التربية بصفة عامة، السيطرة على المعلومات التي تغزو أذهانأطفالهم الغضة. فجهاز التلفاز - مثلاً - ينقل إلى داخل حجرات النوم كل مايدور حول العالم من أحداث ووقائع، الصالح منها والطالح، والحق منها والباطل، فلا يمكن السيطرةعليها والتحكم فيها بصورة كاملة. ولاشك أن في ذلك تحريراً للطفل من القيود التربوية، وضرراً كبيراً يلحق بالنشء من حيث ضرورة تشربهم في مقتبل حياتهم بالأخلاق السويةوالقيم الحميدة دون سواها، وهو تحد تربوي كبير يواجه الأمة.
لأن الخطر لا يمكن في تقنية وسائل الاتصال، وإنما في محتوى الرسالة الإعلامية فيها، فإنه لا جدوى منمقاومة أثر الغزو الفكري بتحريم تلك وسائل نفسها، بل الأجدى معرفة كيفية التعامل معها وترويضها وتنظيمها وضبطها لصالح الشعوب، وتغذيتها بالمفيد من البرامج التربويةالخلقية والفكرية،
(161)
واستخدامها للتواصل بين الشعوب وتعارفها بينها لا لتكريس التبعية الثقافية للغزو الفكري، وذلك عبر استراتيجية إعلاميةتربوية(11).
إن كلمة «أسرة» في الإسلام لها معنى قريب هو الزوجين والأبناء، ولها معنى موسع يشمل؛ إلى جانب الزوجينوالأبناء؛ الأصول والفروع من الجهتين وتسمى الأسرة حينئذ بـ «العائلة» أو «العشيرة». وبالتالي فإن مفهوم الأسرة في المنظور الإسلامي علاقة مقدسة بين ذكر وأنثى مؤسسةعلى مقتضى قواعد الشرع، لها رسالة طبيعية هي تربية أعضاء المجتمع على حسن الخصال وتكلأهم بالرعاية والعناية من أجل تحقيق الضبط الاجتماعي.
ولكن انتشار العلاقاتالجنسية المحرمة والشاذة في بعض المجتمعات الغربية، بل تقنينها والإعتراف بها أدى إلى جدل كبير في معنى الأسرة ورسالتها بصورة تكاد تذهب بحقيقتها وكيانها أدراج الرياح،وهذا يشكل تحدياً كبيراً لوحدة الأمة الإسلامية في أهم مصادرها التربوية، بل هو تهديد لمستقبل البشرية كلها لأنه خروج سافر على قوانين الطبيعة وأخلاق الفطرة السوية(12).
إن مؤسسات التعليم - بمختلف مراحلها - هي القاعدة النظامية للتربية الخُلقية والفكريةوالثقافية لأبناء المسلمين، وبالتالي لابد أن تقوم على مناهج متناسقة مع قيم الإسلام ومبادئه وتعاليمه القويمة، ويكون الغرض منها بناء شخصية المسلم السوي، المدركلمعنى الوحدة الإنسانية عامة ووحدة الأخوة الإسلامية القائمة على معاني التوحيد خاصة.
ومع أن هذه الرسالة تتحقق عبر السُّلم التعليمي بأسره، إلا أن التركيز هنا
(162)
سينصرف إلى المستوى الجامعي خاصة، لأنه أكثر المراحل التعليمية عرضة للتحديات في هذا العصر، الأمر الذي سيؤثر على وحدة المسلمين.
منالمعلوم (أن الجامعة هي معيار مجد الأمة ودليل شخصيتها الثقافية، والحصن المنيع لتراثها الحضاري والإنساني. والمجتمع إنما يزدهر وينمو بفضل ما تنجبه الجامعة من علماءومخترعين و من فلاسفة وأدباء وفنانين، وبفضل ما تهيئه من إطارات قديرة نامية في مختلف الحرف والمهن التي تحتاج إليها الحياة الحديثة. إن عظمة الأمم وقوتها تقاس في عصرناهذا بما تخصصه الأمة من ميزانيتها العامة أو المصادر الخاصة من مبالغ عالية للأبحاث العلمية والتحريات من جهة، وبما تهيئه من مجال لأكبر نسبة ممكنة من أبنائها لينالواالدراسة العالية والإختصاصية في الجامعات والمعاهد الفنية من
جهة أخرى)(13).
مع هذا الدور الكبير والمكانة العظيمة للجامعة في المجتمع فإن التربيةالجامعية في العالم الإسلامي - كما يرى التربويون - مازالت تفتقر إلى تقاليد جامعية من حيث المستويات العلمية والآداب المهنية والضبط الخلقي. أي أنها في حاجة واضحة إلىتنمية الروح العلمية والخلق المهني فيها، إلى جانب ضرورة الابتعاد عن الإزدواج المنهجي في كثير من الأحوال(14).
إن النظام الجامعي المستورد من نظم التربيةالغربية قد حمل معه في طياته جراثيم التفسخ الاجتماعي والأخلاقي إلى العالم الإسلامي، وفي سبيل تداركه أورث منهجاً مزدوجاً بين التعاليم الدينية والمعارف المعاصرة.يقول الشيخ أبو الحسن الندوي، وهو يشير إلى خطورة ازدواجية المناهج التربوية: (إن روح النظام التعليمي وضميره إنما هو الظل العائد لواضعيه ونفسياتهم، فإذا طُبّق منهجتعليمي غير إسلامي في بلاد مسلمة أو مجتمع إسلامي يحدث به
(163)
قبل كل شيء صراع عقلي، ثم يتدرج ذلك إلى تزعزع العقيدة والردة الفكرية، وأخيراً إلى الردةالدينية) (15).
ويعيد المتخصصون في التربية أسباب هذا الإزدواج المنهجي والتحديات التربوية الناشئة عنه إلى عدة أمور:
أولها: إن نظم التعليم الغربيةالمقتبس منها قائمة أساساً على فلسفات ذات صفة ثنائية، فهي فلسفات تفصل الدين عن الدولة، والروح عن الجسد، والفرد عن الجماعة، أي علمانية صرفة، وبالتالي فإن المتخرجينعلى أسس هذا النظام يمتلكهم التفكير العلماني ويعيشون في فراغ روحي ولو كانوا بين إخوانهم المسلمين.
ثانيها: إن إقتباس نظم التربية الغربية تم بدون ربط كافبالقواعد التربوية للشعوب الإسلامية التي تشتمل على دين الأمة وقيمها ولغتها وتاريخها وفنونها وآدابها المحلية، مما أوجد انشطاراً وثنائية في الكيان الاجتماعيوالفكري للشعوب الإسلامية، أدى إلى فقدان الوحدة والانسجام الثقافي بين أبناء الأمة، ولو كانوا في نطاق القطر الواحد: هذا مع الغرب فكراً وثقافة وهذا مع التراث الإسلاميقلباً وقالباً... الخ
ثالثها: في عملية الإقتباس من نظم التربية الغربية تتجه العناية غالباً إلى القالب والمظهر أكثر من الحقيقة والجوهر، فإن إقتباس تلك النظم فيجامعاتنا كان ينبغي أن ينصرف إلى الجوهر أي إلى المعارف التقنية وفق قيم الإسلام، لا إلى القشرة والشكل الظاهري. كما أن أكثر من يذهبون إلى المؤسسات الغربية من أبناءالمسلمين لنيل المعارف ينصرف همهم إلى نيل الشهادة أكثر من إهتمامهم بالضبط العلمي والعمل الشاق في البحث المعرفي.
رابعها: إن فقدان الوحدة والانسجام في التربيةقد يؤدي إلى الافراط أو
(164)
التفريط في بعض الجوانب التربوية على حساب جوانب أخرى، مما أوجد إزدواجاً في التفكير والسلوك على حد سواء، فأفقد حياة المجتمعاتزانها واستقرارها، وجعل من التربية أداة للتعصب الفكري المغلق، كما هو مشاهد في واقعنا المعاصر بين دعاة التعليم الديني ودعاة التعليم العصري الناتج عن الإزدواج فيالمناهج التربوية في العالم الإسلامي(16).
الذي ينبغي تأكيده في هذا المقام هو أن الدين الإسلامي؛ من حيث المبدأ؛ ليس معارضاً للتربية الغربية على إطلاقها، بلبالعكس فإن الروح العلمية والتقنية السائدتين في الغرب إنما هو إنجاز إنساني يشكل جزءاً من التراث المعرفي البشري الذي يشجع الإسلام على الإستفادة منه. ولكن الذي يعارضهالإسلام في نظم التعليم الغربية هو التطرف في العلمانية والمادية بفصل الدين عن الحياة، والميول غير الإنسانية والتفسخ الخُلقي والجفاف الروحي.
كما لا يمكن عزلماهو حادث في النظم التعليمية في العالم الإسلامي عمّا يجري فيه من أوضاع: سياسية وإقتصادية واجتماعية وفكرية وحضارية، ولكن الحل المبدئي لهذه التحديات التربوية لوحدةالأمة على مستوى التعليم الجامعي تكمن في جعل العنصر الديني والعقدي والتربية الإيمانية والـخُلقية روحاً للمقررات الدراسية كلها توجه حياة الطالب عامة وتورثه أخلاقالمهنة والأعراف الجامعية، كلٌ في مجال تخصصه في العلوم النظرية أو التطبيقية، من أجل تحقيق تربية شاملة متزنة تعني بمواهب الإنسان المسلم في كل جوانبه: الخلقيةوالروحية والفكرية والثقافية، مع الحرص على تزويد الجامعات بالأساتذة المتمتعين بالأخلاق العالية إلى جانب سعة الأفق والتضلع بالمعارف في مجال التخصص، وخيرهم من يجمعبين قدرات تخصصية ولغوية مختلفة «Discipline Multi»، وبيــن معـــارف الوحي والعلوم المعاصرة،
(165)
من أجل تزويد الطالب في المرحلة الجامعية بالمعلوماتالضرورية لنهضة أمته في القرن الحادي والعشرين، موجهاً بقيم دينه الخلقية والفكرية والثقافية.
فيجب تطوير المناهج في الجامعات والكليات والمعاهد لتكون الثقافةالإسلامية والتصور الإسلامي الكلي (Islamic World View) هو أساس المناهج إلى جانب العلوم العصرية(17).
إنمؤسسة الدعوة هي التي تناط بها مهمة التربية الدعوية والتوجيه والاشراف لسير تعاليم الإسلام ومبادئه على مستوى المجتمع المسلم وخارجه.
قال تعالى لنبيه الكريم(ص)(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125). وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِــنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) .
من هاتين الآيتين الكريمتين يتبيّنأن أركان الأسلوب الدعوي تتلخص في
1/ الدعوة بالحكمة، وهي أن تُراعى حال المدعوين فيوضع كل شيء في موضعه: من الدعوة بالموعظة الحسنة إلىالدعوة بالبرهان ودليل العقل.
2/ الدعوة بالموعظة الحسنة، وتكون للقابلين غير المعاندين.
3/ الدعوة بالمجادلة بالتي هي أحسن، وتكون ببيان الدليل العقليلمن عاند وجاحد.
4/ الدعوة على بصيرة، أي عن علم بمضمون وأهداف خطاب الدعوة ولما يدعو إليه، وعن معرفة وإدراك بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي للمدعو.
قال ابنقيم الجوزية في تفسير الآية الأولى: (جعل الله مراتب الدعوة بحسب مـــراتب الخلـق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق
(166)
الحكمة. والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر، يدعى بالموعظة الحسنة ، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد، يجادل بالتي هي أحسن) (18).
إذانظرنا إلى واقع الأمة المعاصر من خلال هذه الأركان الدعوية نجد كثيراً من التحديات التربوية التي تجعل اختيار الأسلوب الدعوي الأمثل في هذا الظرف أمراً في غاية الأهمية،ولعل أهم تلك التحديات يتمثل في الآتي:
إن حال الفرقة والشتات التي تعاني منها الأمة على المستويات كلها: السياسيبانقسام أرض الإسلام إلى دويلات وقوميات متشرذمة غير متناسقة المواقف، بل بين بعضها من العداء ماهو ظاهر للعيان، وعلى المستوى الفكري المتمثل في تيارات فكرية ومذهبيةمتباينة، وعلى المستوى الإقتصادي المتمثل في غياب تام لمؤسسات إقتصادية جامعة تهدف إلى وضع خطط إقتصادية طموحة بين الدول الإسلامية على غرار الإتحاد الأوروبي.
كل هذه المواقف إنما تكوّن بجملتها دليلاً عملياً مقنعاً على أن كلمة المسلمين قد تفرقت حيال الدعوة، وكيف تقوم الأمة بأعباء الدعوة وهي لم تتمكن من جمع صفوف أبنائهابعد؟ ومن المعروف أن من أنجع أساليب الدعوة القدوة الحسنة والبيان بالعمل، كما قال تعالى لبني إسرائيل لما فشت فيهم هذه الظاهرة: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّوَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44). وقال تعالى أيضاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاتَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3).
فالفعل أبلغ من القول في الحقل الدعوي مهما كان، والناس ينظرون إلىالأفعال لا إلى الأقوال، فاتحاد القلوب مطلب قبلي وضروري لاتحاد الكلمة وتحقق رسالة الدعوة.
(167)
لعل أكبر تحد يواجه الأمة فيالقرن الحادي والعشرين هو الحملة العدائية المنظمة من معسكر الكفر التي تستهدف قيم الأمة الأخلاقية ومبادئها التشريعية، بل وعقيدتها الدينية المتمثلة في التوحيد. وقدتصاعدت هذه الحملات العدائية ضد الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر المفتعلة، فاُتهم على إثرها كل من يعتز بدين الإسلام في وجه أعداء الأمة بالإرهاب، وتم تضييق الخناقعلى الدعاة في كثير من بلاد العالم دون تفريق بين فئة وأخرى وبين شخص وآخر ، كما قد تم التضييق على كثير من المنظمات الدعوية والخيرية - دون جريرة أو ذنب - في القيامبواجبها تجاه هداية البشرية ومد يد الخير والعون إليها.
هذه الحالة التي وجدت الأمة نفسها مقحمة فيها دون إرادة منها، بل بتخطيط من اليهودية العالمية، تشكلتحدياً خطيراً أمام الأمة، وستكون لها نتائج سيئة على سير الدعوة على المدى القصير، ولكن على المدى البعيد ستكون حتماً لصالح المسلمين، لأن العاقبة للمتقين. فيجب علىالمسلمين توحيد الصفوف والانطلاق للعمل الاستراتيجي المخطط، وترك ردود الفعل العابرة استثماراً لهذه السانحة التي سنحت لتوحيد الكلمة بين أبناء الأمة من أجل النهضةوالبناء الحضاري، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِفَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105) .
إن من أهم وسائل الدعوة الاتصال والإعلام، والاتصال عملية اجتماعية
(168)
تهدف إلى نقل الأفكار للتأثير على ثقافة المتلقي بقصد إحداث تغيير في مواقفه وسلوكه، وذلك على المستوى الفردي والجماعي، وهذا هو صميم الدعوة (19). الاتصالبهذا المعنى المهم في حاجة إلى أساس علمي وتربوي خاص، وهو كون الداعية متضلعاً بمعارف العصر من العلوم الاجتماعية والنفسية تمكنه من إدراك طبائع الناس وأخلاقهم فيالمجتمعات والأمم، فضلاً عن رسوخ قدمه في معارف الوحي الإسلامي بالقدر الذي يمكنه من بثّ مبادئ الإسلام العقدية والأخلاقية، وقواعد شرعه بين الناس.
فمن أهموسائل الدعوة في هذا العصر الجمع بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية، وعلم الاجتماع الديني على وجه الخصوص. فمَنْ مِن الدعاة، في ظل الإزدواج المنهجي الراهن، يدرك عنعلم ماهي العوامل التي تفسر حضور الناس في بيئة معينة إلى مكان العبادة بمعدل يفوق معدل حضور الناس في بيئة أخرى، مادام الناس في البيئتين ينتمون إلى دين واحد؟، ومَنْمِن الدعاة يستطيع الإجابة إذا كان من الصحيح أن الأقليات الدينية تلجأ إلى التمسك بالمظاهر والإهتمام بالشكليات من الشعائر الدينية؟
إذن الدمج بين علوم الوحيوعلوم الاجتماع تحقق فائدة كبيرة للدعوة الإسلامية والدعاة، وبالأخص للداعية في الحقل الميداني، فهي تجعله يعي أن عدم نجاح دعوته في بعض البيئات ليس ناتجاً عن عواملخارجية، كالعلم والتكنولوجيا والسياسة والأحزاب والرفاهية الاجتماعية فحسب، بل منها ومن عوامل داخلية تتعلق بالمؤسسة الدعوية نفسها، إذ لم يتمكن من معرفة طرق استيعابهذه الظواهر التي تشكل المجتمع الحديث، ولم يخاطب الإنسان المعاصر بلغة تهزه من أعماقه وتمتلك كيانه. وأوضح مثال لذلك خطب المنابر الأسبوعية في يوم الجمعة، فهي موضوعتربوي، إعلامي سياسي، ولكنها لم تتمكن من تأدية أي دور نهضوي للأمة على أي مستوى كان على الوجه
(169)
المؤمل، مع أنها كانت الوسيلة الجوهرية لتعبئةالمسلمين من أجل البناء في ما سبق من التاريخ الإسلامي(20).
المسجد في الإسلام هو مركز إشعاعالعلم والإيمان، وقلب الأمة المحرك لرسالتها، وروحها المتم لنشاطها: الدعوي والتربوي والاجتماعي والسياسي، وكيانها المجسّد لمشاعر وحدتها وتميزها، وهو الذي يناط بهتربية المسلم وإعداده الروحي والفكري والثقافي، فرداً ومجتمعاً. ولذلك كان أول عمل قام به النبي (ص) عند قدومه إلى المدينة عند الهجرة هو بناء المسجد، مركز التقاءالمسلمين ونقطة إرتكاز المجتمع الجديد، وبذلك أنجز النبي (ص) عند قدومه إلى المدينة عند الهجرة هو بناء المسجد، مركز التقاء المسلمين ونقطة إرتكاز المجتمع الجديد، وبذلكأنجز النبي (ص) أول الأسس لبناء دولة الإسلام.
إن للمسجد رسالة عظيمة تهدف إلى بثّ عقيدة التوحيد وترسيخها في القلوب، وتجميع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وتحقيقتطلعاتهم، وبثّ روح التعاون بينهم، وتعميق القيم الروحية وتثبيت الأخلاق والخصال الحميدة في نفوسهم، والتعبئة الأسبوعية للجماهير عبر خطبة الجمعة، وتأدية شعيرةالصلاة وتنمية الثقافة الإسلامية.
هذه الرسالة بدأت قوية وصارت كذلك في أكثر تاريخ الإسلام ثم تراخت بعد ذلك، فما أسباب هذا التراخي وما أثره على وحدة المسلمينتربوياً وما العلاج؟
لقد كان للبدء ببناء المسجد في المدينة النبوية عند الهجرة دلالة كبيرة على مدىالأهمية التي ينطوي عليها المسجد في بناء وتماسك المجتمع المسلم.
(170)
وإنما بدأ النبي (ص) ببناء المسجد ليكون مركز الإشعاع الفكري في المجتمع وموئلالعبادة الذي يستروح فيه المسلمون، ومكاناً للشورى وروحاً لسياسة الدولة الإسلامية، فبات بذلك المسجد مركزاً للتوجيه السياسي والاجتماعي العام، ومكاناً للتحصيلالعرفي والعبادة والثقافة والوعظ والدعوة في التاريخ الإسلامي.
ظل المسجد محافظاً على هذه الرسالة التربوية الشاملة في أكثر العصور، بدءاً بالعهد النبويومروراً بعصور الصحابة والتابعين، بل كانت الأجيال في القرون الثلاثة الأولى لا تعرف إلا المساجد للتربية والتعليم، فتخرج فيها جهابذة العلماء في شتى التخصصات: القراءأمثال خلف بن هشام ، والمحدثون أمثال مالك بن أنس والإمام البخاري، والمفسرون أمثال مقاتل وابن جرير الطبري، والفقهاء أمثال الإمام الشافعي والأوزاعي، واللغويون أمثالخليل بن احمد الفراهيدي وسيبويه، والأطباء أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا، والكيمياويون أمثال جابر بن حيان والمؤرخون(21). ولما توسعت رقعة الإسلام بدخول الأمم بمختلفحضاراتها في دين الله أفواجاً، ظهرت فكرة المدارس والمعاهد المرتبطة بالمسجد، كمدرسة نظام الملك في بغداد التي كان من أساتذتها الشيرازي والإمام الغزالي، ولكن ظلت روحالمسجد مهيمنة عليها فبقيت رسالة المسجد مستمرة، وإن ظهرت مع مرور الزمن، دواوين مستقلة متخصصة لكثير من الأنشطة التي كانت تُدار من المسجد.
يقول شيخ الإسلامابن تيمية: (كانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة في المسجد، فإن النبي(ص) أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر، وتعلم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقدالألوية والرايات وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر
(171)
دينهم ودنياهم) (22).
ظلت رسالة المسجد قائمة تشد المسلمين إلى وحدتهم الشاملة، حتى سقطت الخلافة وتمزّق المسلمون شر ممزق فصاروا دويلات بعد أنكانوا دولة واحدة تهاب منها الأعداء، وتحولوا أمماً تفرقهم الجنسيات والأعراق والقوميات بعد أن كانوا أمة واحدة تربط عراها عقيدة التوحيد وتجمعهم الشعائر، فصارواشيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، فصعب الالتقاء الفكري وبَعُد الاتحاد السياسي، فصارت أمة لا غناء فيها رغم وفرة ثرواتها الطبيعية والبشرية، وسعة رقعتهاالجغرافية.
ومن المؤلف حقاً عندما تخاذل المسلمون عن حراسة الإسلام بأنظمته وشعاره ومساجده، مع فترات التخلف والجمود، استطاع الغزو الاستعماري لبلاد الإسلاممن تقليص دور المسجد والحد من رسالته، بل التخطيط للقضاء عليها، فانحصرت تلك الرسالة في نطاق محدود لا تتجاوز أداء شعيرة الصلاة على عجل، وأهملت خدمات المسجد: من توفيرسبل الراحة للدارسين والمصلين وتعيين الأئمة المقتدرين، هكذا عانت المساجد إهمالاً شنيعاً أدى إلى نفور المتعلمين من الانخراط في سلك موظفيها، لضآلة المخصصات المقررةللعاملين بها: من أئمة ومدرسين ومؤذنين، وباتت خطبة الجمعة لا تؤدي دورها التربوي، نظراً لانقطاع صلتها بالواقع وهموم المجتمع.
هكذا ماتت الرسالة العمليةوالسياسية والاجتماعية للمسجد أو كادت، وتضاءل نوره، ولم يبق إلا أداء شعيرة الصلاة في أغلب المساجد، مما يقتضي تضافر جهود المسلمين لإحياء وإنعاش هذه الرسالة من جديد.
(172)
إن رسالة المسجد وقد أصابها الوهن وإعتراها الضعف في هذا العصر، ولم يعد المسجد مركز إشعاعالعلم والإيمان كما كان، وحاد عن أداء رسالته بتضافر جملة من العوامل كما سبق بيانها، ومن أهمها تفرقة كلمة المسلمين، ثم القيود التي فرضت على المسجد من قبل المستعمرينحيث قنن الاستعمار جملة من القوانين استهدفت رسالة المسجد وأدت إلى عزل المسجد عن القيام برسالته العلمية والاجتماعية والسياسية، وحُصر نشاطه في أداء الشعائر الدينية،وجُعل كالمتحف يفتح في بعض الأوقات ويغلق في أكثر الأحيان!
ومن أجل إحياء الرسالة التربوية والعلمية للمسجد وإعادة إنعاشها، ينبغي للمسلمين القيام بعدة أعمالمن أهمها:
1/ توحيد كلمة المسلمين، وذلك بنبذ الخلافات الجانبية والمواقف السياسية المنعزلة، وتبني خط استراتيجي للوحدة تنشأ عليه الأجيال.
2/ ضرورةالعمل على تزويد المساجد بكل ما تحتاجه من فرش والعناية اللازمة بالنظافة وغيرها.
3/ الارتقاء بالمستوى المادي والعلمي لأئمة المساجد والخطباء والمدرسين فيها،وتحسين أوضاعهم، أسوة ببقية الموظفين في الدولة من حيث المرتبات والمعاشات والإمتيازات وغير ذلك.
4/ الإهتمام بإنشاء دور للقرآن في رحاب المساجد يتلقى فيهاالنشء تحفيظ القرآن في مقتبل العمر قبل نقلهم إلى المدارس والمؤسسات التعليمية.
5/ إنشاء المكتبات العلمية المزودة بكافة وسائل الثقافة والمعرفة، ملحقةبالمساجد لتكون مرتعاً للمفكرين ومجمعاً للمثقفين من شتى الأعمار ومختلف
(173)
التوجهات الفكرية.
6/ تكوين لجان من رجال العلم والمشهود لهم بالعلموالمعرفة لإدارة شؤون المساجد والإشراف عليها وتطويرها، من حيث تعيين الأئمة والمدرسين الأكفاء.
7/ تشجيع المرأة على حضور الجمعة والجماعات، والاستماع إلىالخطب التعبوية عبر منبر الجمعة وتحصيل الإرشاد والتوجيه أسوة بالرجال.
8/ الاهتمام والارتقاء بموضوعات خطب الجمعة ودروس المسجد والتأكيد على أهمية تحقيقهاللأهداف التربوية للمسجد وليكون المنبر مجالاً لتعبئة الجمهور وتوجيههم نحو البناء الحضاري.
من خلال العرض السابق للتحدياتالتربوية لوحدة الأمة في هذا القرن يخلص البحث إلى جملة من النتائج، لعل أهمها مايلي:
أولها: لاشك أن الأمة تواجه تحديات عامة كبيرة تستهدف وحدتها ورسالتها، بلوجودها كأمة حضارية حاملة لرسالة خاتمة. وهذه التحديات ذات طابع خارجي في معظمها متمثلة في تكالب الأعداء من كل صوب على الأمة لنهب خيراتها والإساءة إلى رسالتها، برفعشعارات مختلفة مثل (العولمة)، و(الإرهاب) وغير ذلك، ولكن ما كان لهذا التكالب أن يجد أثراً في كيان الأمة لولا كثير من التحديات الداخلية المساعدة لها، ومن أهمها تفرقكلمة المسلمين وتمزق وحدتهم وذهاب ريحهم. ولاحل لهذه المعضلة إلا بتوحيد الصفوف ولّم الأطراف ونبذ الفرقة والشتات بين أبناء الأمة ودولها وإعادة الدور الريادي لكافةالمؤسسات التربوية.
(174)
ثانيها: تواجه الأمة تحديات خاصة في نظامها التربوي، ولاسيما على مستوى التعليم الجامعي وما في مستواه من المعاهد، التي تعاني منإزدواجية المناهج بين الديني والدنيوي، وقلة العمل بالآداب والأعراف الجامعية وتهديدات النظام العالمي الجديد للمؤسسات التعليمية، المتمثلة في التفسخ الخلقيوالانحلال الاجتماعي.
والحل المبدئي لهذه التحديات التربوية لوحدة الأمة على مستوى التعليم الجامعي تكمن في جعل العنصر الديني والتربية الخُلقية روحاًللمقررات الدراسية كلها توجه حياة الطالب عامة وتورثه أخلاق المهنة والأعراف الجامعية، كلٌ في مجال تخصصه في العلوم النظرية أو التطبيقيــــة، مـــن أجـــل تحقيـــــقتربية شاملة متزنة تُعنى بمواهب الإنسان المسلم في كل جوانبه: الخلقية والـــروحية والفكريـــة والثقافية، وتطوير المناهج في الجامعات والكليات والمعاهد لتكون الثقافةالإسلاميـــة والتصور الإسلامي الكلي (Islamic World Vies) هو أساس المناهج إلى جانب العلوم العصرية.
ثالثها: تضافر العديد من العوامل أدى إلى ضعف الأسرة المسلمة فيالقيام بواجبها ورسالتها في وضع أسس وروابط الوحدة الشاملة للأمة، ولعل أهم تلك العوامل تتمثل في تطور أسلوب الحياة مما أدى إلى خروج المرأة للعمل تاركة الأجيال دونتربية حقيقية، وكذلك الغزو الثقافي والفكري التي غيرت الكثير من القيم لدى الاسرة المسلمة، ومن عوامل ضعف رسالة الأسرة أيضاً إنحراف معنى الأسرة ورسالتها بسبب انتشارالعلاقات المحرمة والشاذة في بعض المجتمعات.
ومن أجل تحقيق رسالة الأسرة التربوية لابد من تقويتها وحمايتها من التيارات الغازية بتوعيتها وتعليمها والعنايةبها حتى تؤدي رسالتها المرجوة.
1- رواه أبو داود في كتاب «الفتن والملاحم» باب ذكر الفتن ودلائلها 4/98، والترمذي في كتاب «الفتن» بابماجاء في لزوم الجماعة 4/466.
2- متفق عليه.
3- رواه الإمام أحمد في «المسند» انظر الفتح الرباني (24/7 ح: 15).
4- محمد عبده، الشيخ: الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده،تحقيق محمد عمارة، دار الشروق (القاهرة 1993) ط 1. ج3/168.
5- الجندي، أنور: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، دار الأنصار (القاهرة 1979) مج 6/ 397.
6- الشيباني، عمـر محمدالتومي: فلسفة التربية الإسلامية، المنشأة العامة للنشر، (طرابلس - ليبيا 1983) ط4. ص 301-302.
7- قارن: عبدالله السيد في مقاله (التربية الإسلامية وتحديات العصر)، ضمن أبحاثالمؤتمر التربوي الإسلامي الرابع لمعهد طرابلس الجامعي التابع لجميعة الإصلاح الإسلامية (طرابلس - لبنان 1997).
ص 245، وما بعدها.
8- صافي، لوئ: العقيدة والسياسة:معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي (هيريدن 1996) ص 244.
9- محمد عبده، مصدر سابق، ج 3/ 170.
10- راجع: محمود حسن في كتابه (الأسرة ومشكلاتها)طبع دار النهضة العربية (القاهرة 1981) ص 17.
11- راجع مزيداً من التفاصيل عن أثر الإعلام في التربية: محمد الخضر في مقالته (تأثير وسائل الإعلام وخطرها على التربية) ضمنأبحاث المؤتمر التربوي الإسلامي الثاني لمعهد طرابلس الجامعي للدراسات الاسلامية (طرابلس - لبنان 1993) ص 241 ، وما بعدها.
12- راجع تفصيلاً لأشكال الأسرة ومعانيها فيالمجتمعات الغربية، إجلال إسماعيل حلمي في كتابها (دراسات عربية في علم الإجتماع الأسري)، دار القلم (دبي - دولة الإمارات 1990) ص 21، ومابعدها.
13- الجمالي، محمد فاضل: نحوتوحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، الدار التونسية (تونس 1972) ص 257.
14- الجمالي، مصدر سابق، ص 244.
15- أبو الحسن الندوي، نقلاً عن عبدالطيف محمد عامر في مقالته(مشكلات الشباب الناجمة عن إزدواج التعليم في البلاد الإسلامية) ضمن بحوث (ندوة تربية الشباب المسلم ودور الجامعات فيها) التي نظمتهــا رابطة الجامعات الإسلامية بمقرالجامعة الإسلامية بإسلام أباد - باكستان، 1-3 إبريل 1986، ص470.
16- الجمالي، مصدر سابق، ص 247-256، وقارن: عبدالغني عبود في مقالته (عقبات في طريق التربية الإسلامية) ضمن ابحاثمؤتمر المناهج التربوية والتعليمية في ظل الفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة، المنعقد في القاهرة 29-31 من يوليو 1990، مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي (القاهرة 1994)ص 249 ، ومابعدها.
17- راجع سرداً كاملاً للمعوقات التربوية في التعليم الجامعي في الوطن الإسلامي: محمود أحمد شوق في مقالته (المعوقات التي تحول بين الجامعات الإسلاميةوتربية شباب المسلمين لخدمة دينهم وأمتهم) ضمن بحوث (ندوة تربية الشباب ودور الجامعات فيها) التي نظمتها رابطة الجامعات الإسلامية بمقر الجامعة الإسلامية بإسلام أباد -باكستان 1-3 إبريل 1986. ص 219، ومابعدها.
18- ابن قيم الجوزية: مفتاح دار السعادة1/194-195.
19- راجع: محمد خضر في مقالته (تأثير وسائل وخطرها على التربية)، مصدر سابق، ص 255. 20- راجع مزيداً من التفاصيل عن علاقة علم الاجتماع بمعارف الوحي: عبدالله السيد في مقالته (التربية الإسلامية وتحديات العصر) مصدر سابق، ص 249، ومابعدها.
21- الوشلي،عبدالله قاسم، المسجد وأثره في تربية الأجيال، مكتبة الجيل الجديد (بيروت 1988) ط 2، ص 42-45 .
22- ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم، مجموع الفتاوى، مج 35/35- 40.