قال الإمام الكاظم (عليه السلام): إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم. ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.
وأمر إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.265
وبيان مراده (عليه السلام) إن الإرادة تنقسم إلى الإرادة التكوينية الحقيقية، وإلى الإرادة التشريعية الاعتبارية، فإرادة الإنسان التي تتعلق بفعل نفسه إرادة تكوينية تؤثر في أعضائه إلى إيجاد الفعل ويستحيل معها تخلف الأعضاء عن المطاوعة إلا لمانع. وأما الإرادة التي تتعلق بفعل الغير كما إذا أمر بشيء أو نهى عنه فإن هذه الإرادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر إيجاد الفعل أو تركه من الغير بل تتوقف على الإرادة التكوينية له.
وأما إرادة الله التكوينية فهي التي تتعلق بالشيء، ولابد من إيجاده ويستحيل فيها التخلف، وأما إرادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث أنه حسن وصالح، وأما نهي الله لآدم عن الأكل من الشجرة وقد شاء ذلك وأمره تعالى لإبراهيم بالذبح لابنه إسماعيل وقد شاء ذلك فإن النهي والأمر فيهما تشريعيان، كما أن المراد بالمشيئة هي المشيئة التكوينية، وقد صرحت الرواية بأن إبراهيم قد أمر بذبح ولده إسحاق دون إسماعيل، وهو مخالف لما تضافرت به الأخبار الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بأن الذي جعل قرباناً للبيت الحرام هو إسماعيل دون إسحاق.
وهنا يتوضع دور الإمام موسى (عليه السلام) في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وإبطال حجج الملحدين وأفكارهم المزيفة وتفنيده لشبههم.
ولا يخفى ما ظهر في عصر الإمام من موجات إلحادية فجّرها المعادون للإسلام عندما وجدوا أن لا وسيلة لهم لمقاومته إلا بإشاعة ترهاتهم الباطلة ليضعفوا الجانب العقائدي بين المسلمين. ولكن لم تلبث هذه الأفكار، وقبرت تلك الأضاليل والبدع بواسطة المساعي الحميدة والهمم العالية التي بذلها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل صيانة الإسلام وحمايته من شبهة الملحدين ومكايد المضللين.
إن تلك الموجات الإلحادية التي انتشرت في ذلك العصر تدل على أن المجتمع كان يعيش عيشة متحللة يسودها الشك في العقيدة الإسلامية والخلاف المذهبي. ومما لا شك فيه أن لاحتجاجات الأئمة (عليهم السلام) الأثر الفعال في إرجاع المسلمين إلى طريق الحق والصواب ومقاومتهم للغزو العقائدي الذي مني به العصر العباسي. فقد كان في أغلب أدواره عصر لهو ومجون قد أقبل الناس فيه إلى الاستمتاع بجميع أنواع المحرمات فاندفعوا على الطرب والغناء وشرب الخمر والميسر ومنادمة الجواري والغلمان وغيرها من المحرمات.
وقد شجعهم على ذلك الحكام الذين غرقوا في المحرمات والآثام، وسار الناس على مسراهم حيث لا حسيب ولا رقيب.
وإذا أردنا مثلاً دالاً على تسيّب الأخلاق في ذلك العصر فلنا شعراء العصر العباسي فقد كانوا يمثلون المجتمع في جميع اتجاهاته وميوله تمثيلاً صحيحاً. فقد كان شعرهم يصف القيان والخمر، واللذة والشهوات وأكثر ما أثر عنهم في هذا المجال وصمة عار في تاريخ الأدب العربي فأبو نواس كرّس كل مجهوده الفكري على وصف: الكؤوس والأكواب والسقاة والدنان، والخمارين والندمان. ولم يفته أن يذكر أصناف الخمور، وطريقة صنعها وطعمها ولونها ورائحتها ممّا جعله يلتفت إلى كل ما يتصل بها ويحس بها بما لم يحس بها غيره. فقال:
وقد وصل به حُبِّه للخمر إلى درجة العبادة والتقديس.
وقد تحوّلت بغداد الرشيد والمنصور والهادي.. إلى دور للهو والعبث والمجون. فانساب الناس وراء الشهوات ونبذوا القيم الإسلامية السامية وأدى ذلك إلى انحطاط في الأخلاق وانغماس في الإثم والمنكر. ومما لا شك فيه أن سياسة الحكم العباسي هي المسؤولة عن هذه الموجة من التحلل واللهو وإشاعة المنكر والفساد.
لذلك كله عمد أهل البيت (عليهم السلام) إلى الوقوف في وجه هذا التيّار الفاسد وبدأوا بإرشاداتهم ونصحهم وتوضيحهم أمور الدين الحنيف ورد الشبهات والانحرافات. ومن هذه الأدوار الإصلاحية الهامة دور الإمام الكاظم الذي أكمل مسيرة آبائه وأجداده الكرام فأجاب على كل الأسئلة والشبهات وكان لنا من مناظراته واحتجاجاته.