معالم فی الطریق

سید قطب

نسخه متنی -صفحه : 125/ 82
نمايش فراداده

المجتمع الإسلامي إذن - من ناحية شكله وحجمه ونوع الحياة السائدة فيه - ليس صورة تاريخية ثابتة ، لكن وجوده وحضارته يرتكنان إلى قيم تاريخية ثابتة . . وحين نقول : " تاريخية " لا نعني إلا أن هذه القيم قد عرفت في تاريخ معين . . وإلا فهي ليست من صنع التاريخ ، ولا علاقة لها بالزمن في طبيعتها . . إنها حقيقة جاءت إلى البشرية من مصدر رباني . . من وراء الواقع البشري . ومن وراء الوجود المادي أيضاً .

والحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي ، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة ، لأنها هي مقومات هذه الحضارة : ( العبودية لله وحده . والتجمع على آصرة العقيدة فيه .

واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة .

وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته . . وحرمة الأسرة . والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه . . وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة ) . .

إن " أشكال " الحضارة الإسلامية التي تقوم على هذه الأسس الثابتة ، تتأثر بدرجة التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ، لأنها تستخدم الموجود منها فعلاً في كل بيئة . . ومن ثم لا بد أن تختلف أشكالها . . لا بد أن تختلف لتضمن المرونة الكافية لدخول كافة البيئات والمستويات في الإطار الإسلامي ، والتكليف بالقيم والمقومات الإسلامية . . وهذه المرونة - في الأشكال الخارجية للحضارة - ليست مفروضة على العقيدة الإسلامية التي تنبثق منها تلك الحضارة إنما هي من طبيعتها . ولكن المرونة ليست هي التمييع . . والفرق بينهما بينهما بعيد جداً .

لقد كان الإسلام ينشئ الحضارة في اواسط أفريقية بين العراة . . لأنه بمجرد وجوده هناك تكتسي الأجسام العارية ويدخل الناس في حضارة اللباس التي يتضمنها التوجيه الإسلامي المباشر ، ويبدأ الناس في الخروج كذلك من الخمول البليد إلى نشاط العمل الموجه لاستغلال كنوز الكون المادي ، ويخرجون كذلك من طور القبيلة - أو العشيرة - إلى طور الأمة ، وينتقلون من عبادة الطوطم المنعزلة إلى عبادة رب العالمين . . فما هي الحضارة إن لم تكن هي هذا ؟ . . إنها حضارة هذه البيئة ، التي تعتمد على إمكانياتها القائمة فعلاً . . فأما حين يدخل الإسلام في بيئة أخرى فإنه ينشئ - بقيمه الثابتة - شكلاً آخر من أشكال الحضارة يستخدم فيه موجودات هذه البيئة وإمكانياتها الفعلية وينميها .