فی وزن الشعر و قافیته

علی النجدی ناصف

نسخه متنی -صفحه : 4/ 2
نمايش فراداده

في وَزنِ الشِّعر وقافيتَهِ

للأستاذ على النجدي ناصف

كثر الكلام في وزن الشعر وقافيته، وطالعليه الزمن: فريق يدعو اليهما، ويرى الحفاظ عليهما، وفريق ينكرهما ويرى التحلل منهما. ويبدو أن سيزيد الحديث عنهما كثرة، والزمن عليهما طولا، لأنه عند الأولين حديث عنعنصر من عناصر الشعر، بل عن مفهوم من حقيقته وكيانه، فيما ورثناه منه، وثبتت أصوله عليه. وهو عند الآخرين تخفف من ثقل، وتقدم إلى أمام.

وليس ينقطع الكلام عنهما، إلايوم يتخلى أحد الفريقين عن رأيه، وينحاز في الأمر إلى صاحبه، أو بعبارة أدق يوم يؤمن بعض المجددين من الشعراء أن تجديد المأثور شيء، والانتقاض عليه ومحاولة مسخه شيء آخر.بل إن دعاة التمرد على القافية والوزن في الشعر ليسوا في واقع الأمر من المجددين، إنما المجددون حقاً هم الذين نهضوا بالشعر وحرروه من أثقال التقليد والتلفيق، وراضواالآخرين أن يقولوا الشعر بألسنتهم لا بألسنة غيرهم، ويعبروا فيه عن خواطرهم وأحاسيسهم، لا عن خواطر الآخرين وأحاسيسهم؛ فإذا هو شعر ذاتي، تتمثل فيه شخصيات الشعراء كمافطرها الله، وتتجلى فيه خصائص نفوسهم في التلقي والانفعال والتصوير.

أما أصحابنا الحائدون عن جادة الشعر فنفر من الشبان المتعجلين، يريدون الشهرة الواسعة، والمقامالرفيع في عالم الشعر قبل الأوان، وبلا كدح كبير، ولا احتمال عناء طويل، كأن الذين ينافسونهم، ويريدون أن يكون لهم مثل ما لهم، قد أوتوا نصيبهم المرموق قضاء وقدرا، أووصلوا إليه وثبا في طريق ممهدة ذلول.

ربما كان لأصحابنا هؤلاء نصيب من موهبة الشعر القادرة على الابتكار والتصوير، هبة من الله ونعمة، ولكن الموهبة وحدها لا تكفي فيبلوغ منازل

الشعراء المقدمين، فهناك المرانة والدربة، تشحذان الفطرة، وتجلوان جوهرها، وتكشفان عن مزاياها الكامنه. وهناك اللغة، أو قوالبالتعبير التي يصب فيها الشاعر خواطره، ويودعها مواجد نفسه، لابد من الإكباب عليها والتضلع منها، حتى تتسع روايته، وتغزر مادته، فلا يضيق بمعنى، ولا يعبأ بوزن ولا قافية.وهو بلا شك عمل ليس بالهين، والطريق إليه غير قاصدة، ولكن لابد منه مع ذلك لكل شاعر يريد أن يكون شعره عن نضج واكتمال، لا عن فجاجة وابتسار.

فإن كانوا يريدون المجدالصحيح، والشهرة من طريقها القويم، فدونهم اللغة، فليتزودوا منها بأقصى ما يستطيعون. فاللغة هي التي مكنت لأبى العلاء أن ينظم فلسفته العميقة، وأن يلتزم في نظمها مالايلزم من قيود القافية، وهي التي مكنت لشعراء البديع أن يأتوا في شعرهم بآيات منه بينات، يكاد يضيق بها النثر بله الشعر.

لقد اقتضت مطالب التعبير باللفظ أن يصطنع الناسكلٌّ من لغته نوعين من الكلام: نوع عام، لا تكاد تختلف الجمهرة في جوهره ومادته، وإن اختلفت في طريقة أدائه وخصائص هيئته، تديره بينها في حاجات السوق، ومطالب العيشواليسيرة، غير محتفلة به، ولا متأنقة فيه، وذلك هو ما يسمى بلغة التفاهم والخطاب. ونوع خاص لا يطيقه إلا ذو حظ مقسوم من الثقافة والمواهب الفنية، ويصطنعه الناس في الشؤونالجليلة، والمقاصد الجامعة: من نحو دعوة خيرة، أو حكمة بارعة، أو تجربة صادقة، أو وصية نافعة، أو أدب رفيع، لا يقتصرون فيه على فيض الخاطر وإسماح الطبع، ولكن يضيفونإليه، ويأخذون فيه بالأناة والتصنيع، وزخرف الافتنان، ليكون للقلب والذوق منه غذاء ومتاع. وذلك ما يسمى بالنثر الفني.

واشتق الناس من هذا النوع نوعا ثالثا، أسمىمنالا، وأجمل جمالا، يتجهون به أكثر ما يتجهون إلى مواجد القلب وأشواق النفس، ويصطفونه أكثر ما يصطفونه، في تصوير الإحساس بالحياة والأشياء، كما يتلقونه، وينفعلون لهفي أمانة وصدق، لا يقتصرون في تزيينه والإمتاع به على جمال الفن، ولكن يضيفون إليه وحدة الموسيقي، ووحدة

المقطع. أو بعبارة أصرح، وحدةالوزن، ووحدة القافية، ليتوافي إليه الجمال من أقطاره كلها، ويجمع التأثير بالمادة إلى التأثير بالنغم، والتأثير باللفظ إلى التأثير بالمعنى.

فإن للكلام ذي النغموالإيقاع من حلاوة الجرس، وعمق الأثر ما ليس للكلام المرسل المنثور، تشهد بذلك التجربة والإحساس الصحيح. وما أبعد الفرق بين الأصوات الساذجة، تنبعث في غير نظام جامع،ولا نمط مرسوم، والأصوات المنتغمة، تنبعث في حسن نسق واطراد نظام. ثم إن وحدة مقاطع الأصوات في القصيد تبعث في النفس الروح والسكينة حين الإنشاد والاستماع، أما تخالفهاومجيئيها في كل بيت على حال، فيعرض النفس للقلق والحدس والذهاب مع الأوهام.

فإذاً الشعر في صورته المأثورة غاية الغايات في التعبير بالكلام. فمن آنس من نفسه قدرة علىالشعر أو النثر، فليمض إلى ما يقدر عليه، ولكن بعد أخذ الأهبة له والارتياض به، فذلك أعون على الإحسان، وأشحذ للموهبه. ولا تثريب على المرء أن يكون ناثرا لا شاعرا، بل لاعليه ألا يكون كاتبا ولا شاعرا، فليست قيمة المرء بنوع العمل الذي يحاوله، ويتكلف معالجته، ولكن بمقدار ما يبرع فيه ويحسن منه.

وإذا كان غيرنا لا يرى بأسا أن يكونالشعر غير موزون ولا مقفي، فله رأيه، ولنا راينا. وما كان حتما علينا أن نقلد الآخرين، وتأخذ إخذهم في كل شيء، فليس كل ما يفعلونه حقيقا أن يكون قدوة ومثلا، ولا سيما حينلا تكون له مزية ظاهرة، ولا فضل مذكور. فيكف إذا اتصل مع ذلك بمأثور علينا كريم ؟.

إن الله تعالى لم يخلق الناس على غرار واحد في الهيئة والشكل، ولم يجعلهم على وفاق فيالخصائص والسمات، بل جعل لكل شخصيته المتميزة، وطابعه الذي تقتضيه البيئة والوراثة، حتى يكون لكل أمانة يحملها، ورسالة يؤديها على طريقته الخاصة، الأفراد والأمم في هذاسواء ونحن لقوم عرفوا بصفاء الطباع وإشراق النفوس، إذا كانت الطبيعة من حولهم دائما ضاحكة مستبشرة.

فالموسيقي إلينا أقرب، وبنا أشبه. وعملها في نفوسنا أقوى، وتأثيرهاأعمق.

ألا ترى إلى الجماهير في هتافها وأهازيجها كيف يصطنعون التقفية، ويؤثرون النغم ؟ بل ألا ترانا كيف نغني حتى في المقامات التي لا يظنأن تكون مجال غناء وتطريب: النائحة في نواحها، والعامل في عمله، والبائع مع سلعته، حين يشيد بها ويدعو إليها.

فالشعر الموزون المقفي صدى الطبيعة التي فطرنا عليها،ونفحة من نفحات البيئة التي نبتنا فيها. وهو حقيق أن يحيا بيننا أبدا، إذا قدر له أن يموت عند الآخرين.

صحيح أن أبالحسن الأخفش يروي هذا الشعر، ويقول: '''' والذي أنشدهأعرابي فصيح، لا يحتشم من إنشاده ''''، وهو:


  • ألا قد أرى إن لم تكن أم مالك خليلي سيرا واتركا الرحل إنني رأى من رفيقيه جفاء وغلظة فبيناه يشري رحله قال قائل لمن جمل رخو الملاط نجيب ؟ (2)

  • بملك يدي أن البقاء قليل بمهلكة والعاقبات تدور إذا قام يبتاع القلاص دميم(1) لمن جمل رخو الملاط نجيب ؟ (2) لمن جمل رخو الملاط نجيب ؟ (2)

وهو كما ترى شعر غير مقفي، لم يكتف الشاعر بإطلاقه من القافية حتى باعد فيه بين حروف الروي، فإذا منها اللام والراءوالميم. ولكن متى كان الشاذ أصلا تقوم عليه القواعد، وتدور حوله المسائل والفروع.

إن الشاذ في كل شيء ينبذ جانبا، ثم لا ينظر إليه، ولا يعول في شيء عليه. وقد يشار إليهفي العرض وحين التفصيل، ولكن دون أن يكون له أثر، أو تترتب

(1) القلائص، جمع قلوس، وهي الشابة من النوق؟ بمنزلة الجارية من النساء.

(2)يشري: يبيع. الملاط: الجنب. رخو الملاط: سهلة، وقيل الملاط: مقدم السنام، وقيل: جانبه، وهما ملاطان. وقوله: رخو، (إشارة إلى عظمه واتساعه. وصف بعيراً ضل عن صاحبه، فيئس منه،وجعل يبيع رحله، فبينا هو كذلك سمع مناديا يشيد به، ويروي هذا ا لبيت للعجير السلولي، كما يروي للخطب الهلالي. وهو في أشعارهما. والقطعة لامية. ووقع في كتاب سيبويه نجيب،بدل ذلول. وتبعه النحاة على التعريف (انظر خزانه الأدب: 2: 396) ولم أعثر على البيت المذكور بين شواهد المطبوعة في المطبعة الأميرية من الكتاب.