آلیات الخطاب النقدی العربی الحدیث فی مقاربة الشعر الجاهلی

محمد بلوحی

نسخه متنی -صفحه : 139/ 16
نمايش فراداده

فمفهوم الشعر والشعراء في الجاهلية والملتبس بكلام وتعاويذ الكهان، وما كان يصدر عنهم من كلام مسجوع مبنيٍّ على نغمٍ موسيقيٍّ متجانس وإيقاع متناغم يتداخل في كثير من الصفات مع الإيقاع الشعري الجاهلي هو الذي خَيّل لمرجوليوث وجعله يقرّ ويؤكد أن الذي نَصَّ عليه القرآن من شعر ما هو إلا سجع الكهان، وشتان بين ما هو شعر وما هو سجع للكهان، وأنهما جنسان وإن التقينا في بعض الخصوصيات التعبيرية فإنهما يختلفان في الكثير منها، لذلك فإن مذهب مرجوليوث يحتاج إلى سند علمي يؤكده، وإلا كان الحكم مبنياً على فرضيات تخمينية لا تجد من النصوص ما تشد به عضدها.

إن إشارة المستشرق كارل نالينو فتحت الباب أمام القراءة العربية الحديثة لتتجاوز الروايات والأخبار القديمة، وتؤسس لقراءة تذهب إلى أن أولية الشعر العربي القديم موغلة في القدم، بل القول أن أول شاعر عربي كان نبياً، وذلك إشارة إلى سيدنا إسماعيل عليه السلام، فنجد نجيب محمد البهبيتي يعنون الفصل التاسع من مؤلفه [الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم] بأن أبا الشعر العربي الأول نبيٌّ وهو إسماعيل أبو الشعر العربي، نشأ بعمله في العاربة، واتخذ أول أشكاله على صورة أناشيد يتغنى بها المصلون في صلاتهم بالمعبد، ينظمها لهم إمامهم الديني الذي تولى قيادتهم الدينية بعد أن ترك أبوه له رعايتهم وتعليمهم دين التوحيد الجديد ... ولذا وجد إسماعيل نفسه مسؤولاً عن الصغيرة والكبيرة فيه فهو الإمام، وهو ناظم الأناشيد، وهو مرتلها، والمصلون من ورائه يرددون، والصلاة في المعابد الأولى كلها كانت أناشيد منظومة، تُغنى وتصحبها الموسيقى وإسماعيل هو الموجه لهذا كله، وهو القائم به وعليه. وقد أكسب هذا الماضي الأول الشعر قدسية النبي التي لزمته حتى آخر العهد الجاهلي حتى إن العرب الذين لقنوا هذا المعنى في تاريخهم كله لما تقدم إليهم النبي بالقرآن باعتباره وحياً من الله قالوا لـه: بل هو شعر مثل الذي كان يُوحى من قبله للشعراء، فشأنه فيما أوحي إليه شأن غيره من الشعراء فيما يوحى إليهم: أي يدافعونه عن ملك ظنوه طالبه؛ وهي قراءة تنطلق من فرضية تحتاج إلى أدلة موثقة تعضد به ما تذهب إليه، لأن مسألة نسبة بداية الشعر العربي القديم إلى إسماعيل عليه السلام تحتاج إلى ترو وتمحيص دقيق حتى لا نبني أحكاماً علمية بهذه الأهمية على فرضيات غير مؤسسة.

يربط البهبيتي قدسيَّة الشعر عند العرب بالاعتقاد الذي كانت العرب تعتقده من أن الشاعر كان يقوم في قومه مقام النبي، ويحتج بقول أبي عمرو بن العلاء الذي يرويه أبو حاتم الرازي في الزينة؛ بحيث كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب مقام الأنبياء في غيرهم ، ويبني عليه البهبيتي حكماً يلتبس فيه عليه بين ما هو شعر وما هو وحي، وحجته في ذلك قراءة رواية أبي عمرو بن العلاء دون المساس من دلالتها الأساسية أو جوهرها بشيء؛ وبذلك يذهب (( إلى القول بأن الذين كانوا يقومون في العرب مقام الأنبياء في الجاهلية كانوا ينورون لهم طريقهم، ويوسعون لهم آفاقهم بالشعر الذي كان العرب ـ شأنهم في هذا شأن العالم القديم ـ يرونه إلهاماً يتنزل على الشاعر من وحي قوة قدسية تختار الشاعر من بين الناس لتهب له من العلم ما تصطفيه به دونهم. فهو كيان مقدس يلتف على قوة مقدسة تتحكم فيه، وتعتلج بقلبه، وتفور به، فيهيج على لسانه قولاً منسجماً مستوياً مواجاً، ينتقل أثره إلى قلب سامعه، فيتجاوب القلبان بالأصل ورجع صداه ويمتزج النفسان بمعنى واحد، وكأنهما كيان واحد ))(9)، وتلك موازنة عجيبة من البهبيتي بين ما هو وحي وما هو شعر، وكأننا به لا يفرق بين مصدر كل واحد منهما، بل ويجعل كليهما من مصدر بشري، وذاك ما يدعو إليه الاستقراء، لأن مصدر كل منهما معروف لدى العام والخاص، ولا حاجة لنا بالتفصيل فيه، فالنبي موحى إليه لا دخل له في ما يوحى إليه إلا من جهة التبليغ، أما الشاعر فهو المبدع الخلاق لما يقوله، أما إذا كان يصطلح ويستعمل لفظي النبوة والوحي على غير ظاهر معناهما، بل على دلالة أدبية تنـزاح فيها اللفظة عن معناها الأصلي إلى معنى ثان يراد به الإلهام والتفرد قياساً لما ورد في قول النبي (صلى الله عليه وسلم ) لما سمع قول الشاعر الجاهلي: