آلیات الخطاب النقدی العربی الحدیث فی مقاربة الشعر الجاهلی

محمد بلوحی

نسخه متنی -صفحه : 139/ 26
نمايش فراداده

انبرت كثير من المقاربات للبحث عن مصادر الشعر الجاهلي، هادفةً إلى تجلية الحقيقة من حول هذا الشعر، ومن القراءات الرائدة في ذلك دراسة ناصر الدين الأسد التي وسمها بـ "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، فخاض فيها الدروب الوعرة في قضايا تدوين هذا الشعر وفق منهج استقصائي واضح المعالم، معتمداً في ذلك على جهاز معرفي دقيق، فعمل من أجل إثبات كل ما يستند إلى سند علمي واضح المعالم في مسألة الشعر الجاهلي، وتوجس من كل ما لم يسنده المنهج العلمي، منطلقاً في إثبات المصادر الرئيسة للشعر الجاهلي من النصوص والروايات في حد ذاتها، وذلك ما يقره في مقدمة المؤَلف: (( وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجاً علمياً خالصاً: لا أميل مع الهوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافاً. بل لعل من الصواب أن أذكر أني، حين دخلت في الموضوع، لم يكن يحفزني إلا الموضوع نفسه، ولم يكن نصب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده؛ فقد كان قلبي مع هذا الشعر حين كنت أقرأه، وكان عقلي عليه حين كنت أقرأ عنه، فأردت أن أصل إلى اليقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معاً. ولم يكن أمامي سبيل لذلك إلا أن آخذ نفسي بتحري المنهج العلمي الدقيق، وألتزم حدوده التزاما تَرخُص فيه )) (24)، لأن الكثير من القراءات العربية الحديثة - وبخاصة التي أثيرت حول الأطروحات التي تبناها ودافع عنها طه حسين في مؤلفه " في الشعر الجاهلي"- اتسمت بالاندفاع العاطفي الذاتي لا التحليل العلمي ومن أمثلة ذلك ردود مصطفى صادق الرافعي في كتابه " تحت راية القرآن".

فالمنهج العلميُّ الرصين في تحقيق مصادر صحة الشعر الجاهلي جعل القراءة التاريخية العربية الحديثة تبحث في الوسائل التي اعْتُمِدَ عليها في نقل هذا الشعر، حتى كُتِب ودُوِّنَ، فأثارت قضية الرواية والرواة حيث خصص ناصر الدين الأسد فصلاً كاملاً في مؤلفه لهذه المسألة سماه " الرواية والسماع".

إن ارتباط رواية الشعر الجاهلي بالشفهية هو الذي جعل القراءة التاريخية العربية الحديثة تركز عليها بوصفها المنفذ الذي يمكن أن يُطعن من خلاله في صحة الكثير من الشعر الجاهلي، كما حدث مع المستشرقين وطه حسين، كما اعتبرتها قراءات أخرى دليل إثبات على صحة هذا الشعر مع ناصر الدين الأسد في المؤلف السابق الذكر، وعز الدين إسماعيل في كتابه " المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي".

شكل السماع أساساً للرواية عند العرب قبل ظهور التدوين، وذلك ما راحت تبحث فيه القراءة العربية الحديثة، فاعتبرت الرواية المتصلة من الجاهلية حتى القرن الثاني الهجري لم يشبها تقطيع أو انقطـــاع؛ إذ ((أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني، ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة، وسلسلة محكمة ، يأخذها الخلف عن السلف، ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها معنيين بها. ولم يشغلهم عن إنشاء الشعر وروايته، وذكر أخبار العرب وأيامهم ومفاخرهم ومثالبهم، في مجالسهم ومحافلهم، شاغل من الحرب أو فتنة، حتى لقد رأينا المسلمين الأولين، والمشركين من كفار قريش، لا ينقطعون عن إنشاد الشعر الجاهلي واستنشاده وروايته والتمثل به وتعلمه وحفظه، فأين هذا كله من قول ابن سلام وغيره، إن العرب تشاغلت عن الشعر لما جاء الإسلام " وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر"))(25)، وبذلك يؤكد صلابة الطرح الذي يعتمد في القول بصحة الشعر الجاهلي انطلاقاً من اتصال الرواية دون انقطاع مما يقلِّل من حظوظ التلف.