ادباء مکرمون

نزار بریک هنیدی، ابراهیم عباس یاسین، جمال الدین الخضور، خلیل الموسی، درغام سفان، راتب سکر، رضوان القضمانی، سعدالدین کلیب، سلمان حرفوش، فاروق ابراهیم مغربی، فواز حجو، محمد عبدالرحمن یونس، محمد قجه، نبیل سلیمان، یوسف الصمیلی، جمانة طه، حسن حمید، خالد ابوخالد، شوقی بغدادی، عبدالکریم شعبان، وفیق خنسه، فاید إبراهیم

نسخه متنی -صفحه : 82/ 9
نمايش فراداده

استلهام الثقافات في شعر محمد حمدان

د. راتب سكر

تقدم تجربة الشاعر محمد حَمدان أنموذجاً مناسباً لاهتمام الشعر المعاصر باستلهام الثقافات العالمية، والموروثة، في سياق النصّ الأدبي، يسهم درسها وتحليلها في محاولة لاكتشاف مساحات جديدة، تسمح بخلق علاقات مختلفة بين المصادر الثقافية المتنوعة، التي يستقي الشاعر منها ثقافته.

ضمن هذه الرؤية يمكن دراسة نماذج شعرية للشاعر محمد حمدان في مجموعاته، التي تنشغل بترتيب ما حملته من أعباء ذاتية أو جَماعية، في دفاتر القصيدة، مستمدة من الثقافات على اختلاف مشاربها مادة غنية تثري تجربة الشاعر وتعمق الرؤية التي عمل على تقديمها في قصائده. ويمكن قراءة استلهام الثقافات في شعر محمد حَمدان من خلال محورين رئيسين:

ـ الاستلهام المحوري للمصدر الثقافي في القصيدة.

ـ الاستلهام الجزئي للمصدر الثقافي في القصيدة.

يتنوع التوظيف الفني للثقافات في قصائد الشاعر محمد حمدان تنويعاً متصلاً بالمصادر المعرفية والوجدانية لتلك الثقافات من جهة، وبالتجلي الفني لمؤثراتها في النص الشعري من جهة أخرى. وغالباً ما ترتبط تلك المصادر بينابيع دينية (إسلامية ومسيحية)، فضلاً عن ارتباطها في غير قصيدة من قصائده، بينابيع التاريخ العربي القومي وما يكتنز به من تراث ثقافي، وبما تمور به الثقافات العالمية الإنسانية من تراث وعطاء ثرّ متنوع.

أما التجلي الفني لمؤثرات هذه الينابيع أو المصادر الدينية والقومية والإنسانية، فيغلب عليه فعل تناصي جزئي منسجم مع البناء الفني لكل قصيدة، وهذا التناول الجزئي يلبي حاجة العمل الفني للشاعر إلى جانب معرفي أو وجداني محدد من التكوين الثقافي الذي يتفاعل معه من جهة، وحاجة جانب محدد في النّص الشعري المنبثق عن ذلك التفاعل من جهة أخرى.

بدأ محمد حمدان رحلته مع الشعر، بنشر قصائده منجمة في الصحف والمجلات منذ مطالع الستينات من القرن العشرين، ونشر مجموعته الشعرية الأولى في أواخر السبعينيات بعنوان "الفارس والعتمة"، ثمّ تتالت مجموعاته الشعرية معززة حضور اسمه في المشهد الشعري في سورية، مما يجعل دراسة أعماله إسهاماً مفيداً في دراسة هذا المشهد، وإذا اهتم الدارس بانكشاف الشاعر على الانتماء العربي العام، بإقامته غير القصيرة دارساً ومدرساً في الرباط وبيروت، وزياراته المتكررة إلى مدن عربية كثيرة مثل بغداد، وعمان، والقاهرة، من جهة، وبتعبيره عن قيم هذا الانكشاف ثقافياً ووجدانياً، في قصائده، من جهة أخرى، أضافت إلى دراسته فوائد مرتبطة بأبعاد العلاقات العميقة بين المشهد الشعري في سورية وآفاقه العربية.

1 ـ مجموعة "الميناء الموبوء":

في اعتمادنا المحورين المشار إليهما في دراسة تجربة الشاعر محمد حمدان في علاقتها بالمصادر الثقافية، نجد أن بعض قصائده في مجموعته "الميناء الموبوء" (1) تقدم أنموذجاً للحالة الأولى، مثل: "يا أمنا العذراء"، "واللات"، و"خطاب إلى نَمَتار"، بينما نجد في بعض قصائد هذه المجموعة مثل: "عصفورة الشاطئ الأزرق"، و"رسالة"، و"الشمس والمستنقع"، و"أمنية"، و"يا شعر"، و"مغارة الدراويش"، أنموذجاً للحالة الثانية.

ويمكننا التوقف مع قصيدته "مغارة الدراويش"، التي تضمّ ثلاث قصائد قصيرة يعنون الأولى بـ "الدرب" والثانية بـ "المغارة" والثالثة بـ "نجمة الصبح"، فاتحين نافذة على أنموذج لاستلهام الثقافات في شعره.

تقدم القصيدة رؤية مأسوية للواقع المتأزم، بكل ما يعتريه من خيبة وانكسار، فترسم مقطوعة "الدرب" الملامح الأولية لهذه اللوحة، محددة أبعادها بما يتناسب مع طبيعة الموقف الشعري الرافض لكل ما يطالعه من تعابير الواقع من علامات الضياع، يقول:

الزواريب التي تنتعل الشوكَ

دروبٌ حالكات الخطوِ

لا فانوسَ

لا شمعَ يضيء الخوف للداخل في قبو السكونْ

في كهوفٍ عمرُها عمرُ جراحِ النخلِ

في الوادي الحزينْ. (2)

تأتي صورة "النخل في الوادي الحزين" مرتبطة بمدلولات دينية، تؤكدها وتعمق أبعادها صورة "المغارة والمصلّى يسكن السدّة في حي الدموع"، التي تأتي في المقطوعة الثانية المعنونة بـ "المغارة"، لينتقل بعد ذلك إلى قوله:

"باركَ الوجهُ النحاسيُّ/الحواريونَ

سكينَ افتتاحِ الحفلِ/

سفّودَ الوليمهْ

وأعادوه إلى السيافِ

يحني رأسه شوقاً لليل المقصلهْ" (3)

ويبقى الشاعر رهين المادة الثقافية المستلهمة، التي يربط بين معطياتها وما يراه ماثلاً أمامه من ضياع للقيم النبيلة، وسيطرة لسلطان المادة على المعاني الروحية السامية، يقول في مقطوعته الثالثة المعنونة بـ "نجمة الصبح":

"قاتلوا عنا جيوش الردة/الغزوِ

فإنا قاعدون"

دمتَ للشرق إلهاً

أيها اللاتُ/الحجرْ

أنت صندوق الأعاجيب لكل التعساءْ

أنت يا تاجاً على رأس إمام الملة المعصومِ

في كلّ قبيلةْ. (4)

تحيل عبارة "إنا قاعدون" بشكل مباشر إلى النص القرآني في خطاب موسى المعروف لقومه، عندما امتنعوا عن مشاركته قتال أعدائهم، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر، في قوله تعالى:

قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (5) في إشارة يحاول الشاعر من خلالها إسقاط موقف قوم موسى ، على الصمت العربي حيال مشاهد القتال والدمار التي ضاقت بها ساحات فلسطين دون أن تجد من يصغي إلى نداءاتها المتكررة. فينتهي في المقطع التالي إلى قوله:

"كم شكا مما نعانيه أذانُ الصبحِ

والتكبيرُ في الواحاتِ

والأقصى

وزهرُ اللوز والليمون في حوز الجليلْ" (6)

وليست الثقافة الدينية وحدها التي تبدو حاضرة في قصائد الشاعر محمد حمدان، فسرعان ما نجده ينتقل بين مصدر ثقافي وآخر معبراً عن ثراء تجربته وتنوع ثقافته.

ففي قصيدته "رسالة" (7) يستلهم الشاعر محمد حمدان شخصية امرأة أوربية، يرسم صورتها على جسور اللقاء بين الذكورة العربية، والأنوثة الغربية، في حوار الثقافة العربية مع الغرب وحضارته، في القرن العشرين. وعلى الرغم من تدفق عناصر الذكورة الطالعة من مهاوي الحرمان والأوطان المسلوبة المنكسرة، فإن خطاب الشاعر يسيج بتوق إلى لقاء الشرق بالغرب على "قنطرة الآتي بالحب"، لعل ذلك يفيد الغرب بروحانية الشرق المتمثلة بالشعر، والفتوة، والحب، والجموح، والأصالة، ويرفد الشرق المعذب المهموم بالغرب العارف، القادر، المتحرر، يقول الشاعر:

"معذرةً شقراءَ الدانوبْ

فأنا من أول وهلهْ

أتعب بالوشم العربي جداركْ

أزرع جسرك نحو الشرق همومْ" (8)

2 ـ ديوان "بتغرامو.. وشرفة الأبجدية":

يتخذ التعالق النصي برموز الثقافة العربية في قصائد ديوان "بتغرامو.. وشرفة الأبجدية" ثلاثة مسارات رئيسية، يشتمل أولها على عناصر شعرية مادتها الأساسية نصوص تسربت إلى نتاج الشاعر عبر المخزون الثقافي الثر الذي مثل سمة بارزة في دواوينه، حيث اتخذت هذه العناصر لنفسها مسارات جديدة وامتزجت بعناصر التجربة لتغدو جزءاً لا ينتمي إلى التراث بقدر ما ينتمي إلى التجربة ذاتها.

تقدم قصيدة الشاعر محمد حمدان "وردة الفاتحة" (9) لوحة غنائية منسجمة مع طبيعة شعره الغنائي الحريص على ترتيل الحزن العربي المعاصر، في انكساره المسيج بالخيبات والخذلان. وقد حملت القصيدة أمارة هذا الحرص منذ مطلعها:

"تقول الحكايةُ:

بين ركام النشيج، الضجيج، العجاجْ

وكان العشاء يرتل آياتهِ" (10)

فالمحمول الذي يبشر به الخطاب الشعري، نابت في بيئة محكومة بما يدلّ على انكسار وخذلان، مسيجين بما يليق بهما من "ركام النشيج، الضجيج، العجاج".

إنّ القصيدة المبنية من خمسة مقاطع شعرية تتأسس رؤية كلّ منها، على توصيف الخراب العربي، وندب الذات المغتربة في خرابها، لا تقطع علاقتها الفنية بثنائية الفكرة والصورة في حمل دلالات الخطاب وتأكيدها وتزيينها، منسجمة في وفائها لتلك الثنائية مع التقاليد الفنية لقصيدة الستينيات في سورية. ومن الراجح أن هذه الثنائية ـ على الرغم من احتفاء الشاعر حمدان بحدها الثاني ذي الطبيعة الاستعارية والرمزية ـ ظلت تمنح قصيدته وضوح الغاية والقصد، وتحكم على توظيفه الفني للثقافات بمنهج تجزيئي، يوفر لـه فرصة الانكشاف على جانب محدد من مكونات الحالة الثقافية المستلهمة، وفرصة التفاعل مع ذلك الجانب في تكوين جزئي من النص، بما ينسجم مع البناء المقطعي لقصيدة حريصة على الحدود الفكرية والتوصيفية الأولى من ثنائيات بنائها الفني، بمثل قول الشاعر في المقطع الثاني:

"غريب أنا في بلادي وداري

... أمام حراك المرايا

فهل كنتُ تلك الصحارى التي عبرتها الشعوبُ؟

وهل أنا إلا سليل المتاهةِ" (11)

إن شراع الشاعر الضارب بين أمواج الغربة والمتاهة والخيبة، في تعبيره عن تماهي ذاتي الفرد وأمته، يرسم في مقاطع القصيدة الصور الفنية التي تسهم في حمل هذا التعبير المؤسس على قول فكري صريح، وفي شرحه وتأكيده وتزيينه, بأساليب تتجاوز وظائف الصورة الفنية التقليدية، وتتخطاها ملبية حاجات النص الجديد الذي ضيق مساحات قوله الفكري الصريح, إلى معاضدة غاياته بالصور التي تتدفق من مقطع إلى آخر, متلونة بمكوناتها ومصادرها بألوان الرؤية المتنوعة نسيجاً وأفقاً في بنائها المقطعي للقصيدة.

يأتي التوظيف الفني لنص امرئ القيس في وصف رحلته إلى قيصر, في المقطع الرابع من قصيدة الشاعر محمد حمدان, الذي يضمن جانباً محدداً من نص امرئ القيس بقوله:

"لقد كان لي خيمة في عزيف البراري

.........

تداعت

بكى صاحبي

حين أيقن أن الهلاك محيق بنا

قلت: لا تبكِ يا صاحِ

إن أمامي فضاء

من الطير والعشب والبشر الطيبينْ"(12)

يحيلنا هذا المقطع الشعري إلى أبيات امرئ القيس المعروفة التي يصف فيها رحلته إلى قيصر قائلاً:


  • "بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونه فقلت له: لا تبكِ عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13)

  • وأيقن أنا لاحقان بقيصرا نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13) نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13)

لقد حوّر الشاعر نصّ امرئ القيس تحويراً ينسجم مع البناء العروضي لنصه, ومع التنامي الدرامي لهذا النص, في تشبثه بجذوة الأمل النقيض لمحمولـه الناجع من الخذلان، هذا التشبث المرافق لنقيضه, الذي ظلّ يميز قصائد محمد حمدان وشعراء جيله, ذو وظيفة فنية جمالية مرتبطة بمحاسن جمع الأضداد, فضلاً عن وظائفه الفكرية والوجدانية. وهو تشبث ضعيف النبرة في قصائد الجيل التالي لمحمد حمدان, ذلك الجيل الذي بدا أقل احتفاء بالمشاريع الاجتماعية والوطنية الكبرى، وأكثر ميلاً إلى مصالحة خرابه باستعذاب ندبه, والتلذذ بموسيقاه الجنائزية.

تقدم قصيدة الشاعر محمد حمدان "على شرفة الأبجدية في رأس شمرا"

(14), لوحة غنائية من تسعة مقاطع, منسجمة مع البناء الفني المقطعي للنص ذي الرؤية الشعرية المسكونة بثنائياتها الفكرية والفنية، وعلى حدود تلك الثنائيات, يستدعى جانب ثقافي أدبي مع نص الفرزدق في حواره الشهير مع الذئب, وتآخيهما المعروف في المقطع الأول أيضاً. بقول الفرزدق في قصيدته:


  • "فقلت لـه لما تكشّر ضاحكاً تعشَّ فإن واثقتني لا تخونني نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15)

  • وقائم سيفي من يدي بمكانِ نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15) نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15)

لا يستند التوظيف الفني لنص الفرزدق في قصيدة محمد حمدان، إلى تضمين صريح, فهو يكتفي بإشارتين سريعتين، أولاهما إشارة معنى، وثانيتهما إشارة لفظ. يقول الشاعر:

"فيا أيُّها الهمُّ!

ألبسُ ثوبك منذ قرونٍ

وتلبس ثوبي في كلّ صقعٍ

أنا لك تربٌ

ولي أنت تربٌ

حنانيكَ

نحن ـ إذاً ـ صاحبانِ"(16)

إن اختزال الشاعر لإشارته التي توصل بين نصوصه الجديدة، والنصوص الأدبية القديمة، التي يستلهمها جزئياً, تثري قدراتها الإيحائية، وتعزز عرى الشراكة المضمرة بين الشاعر والمتلقي, في اتفاقهما غير المعلن على استيحاء ماضٍ ثقافي مشترك, في نصٍ أدبي جديد.

إن هذا التعالق النصي الذي نجده لدى الشاعر محمد حمدان لا يقتصر على نصوص قديمة وإنما تمتد جسوره إلى نصوص تدخل في نطاق الأدب الحديث, من ذلك استحضاره ديواناً كاملاً للشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قصيدة "من مقابسات المسالك والممالك"(17), وهو ديوان "شناشيل ابنة الجلبي"، وذلك في قوله:

"من رام العشقَ

سباه عرينُ العشقِ

استحوذت الأقمار على سكتهِ

فتنته شناشيل "السيابِ"

ورمان الشرفاتْ"(18)

ففي قوله "شناشيل السياب" إشارة واضحة إلى ديوان الشاعر بدر شاكر السياب "شناشيل ابنة الجلبي", وفي قوله "ورمان الشرفات" تأكيد للمعنى المتضمن في عبارة "شناشيل ابنة الجلبي"، وتأكيد للصورة السابقة، يحاول الشاعر من خلاله إعادة صياغة معنى "شناشيل" الذي جاء على اللهجة العراقية في قصيدة السياب. ومن ذلك قصيدته التي حملت عنوان "جدارية لأم قصر"(19)، التي تستدعي إلى الذهن جدارية محمود درويش.

أما النصوص التراثية التاريخية فتبدو أكثر وضوحاً, وتكاد تستغرق قصائد الديوان إذ لا تخلو قصيدة من هذه القصائد من استحضارٍ لحادثة تاريخية أو استدعاء لرمز تاريخي أو شخصية تاريخية، وتبدو قصيدة "وردة الفاتحة"(20) غنية بهذا اللون من الرموز، ففيها رموز من حضارات قديمة كالبابلية على سبيل المثال.

وفي قصيدة "جدارية لأم قصر"(21) نجد إشارات كثيرة إلى الحضارات السومرية، وفي قصيدة "على شرفة الأبجدية في رأس شمرا"(22) تغدو القصيدة برمتها إحالة على هذا النوع من الرمز وفيها إشارات إلى الحضارة الكنعانية وحضارة "سبأ". أما قصيدة "الأسود والأحمر"(23) فتشتمل على إشارات إلى نينوى وبختنصر, وأوروك, وبابل وآشور.

وفي قصيدة "أم سبعة الأسماء"(24) يستحضر الشاعر الحدث التاريخي الهائل الذي تحول ماء نهر دجلة إثره إلى اللون الأسود, بعد إحراق مكتبة بغداد التي ظلت "مركزاً للعلم والعلماء إلى أن هاجمت قبائل المغول البدائية مدينة بغداد واحتلتها وعاثت فيها فساداً وصبت عليها جام غضبها فهدمتها وأغرقت كتبها في نهر دجلة الذي تحول لونه إلى الأسود بسبب كثرة الكتب التي ألقيت فيه"(25). يكتسب نهر دجلة لدى الشاعر حمدان لوناً مماثلاً ولكن يبدو أن السواد الذي اكتسى به في هذه المرّة ليس ناجماً عن حبر الكتب وحدها, بل عن حالة من الحزن الشديد الذي ألّم به لما شهده من كثرة الدماء والقتل الذي لحق بهذه المدينة بعد أن غزاها مغول العصور الحديثة, الذين امتلكوا من وسائل القتل والدمار ما لم يمتلكه سابقوهم, ولذلك نجد نهر دجلة لدى الشاعر حمدان يبكي منتحباً ويسودّ "حزناً على حزنه الماء".

يقول الشاعر في قصيدة "أم سبعة الأسماء":

"هكذا اسودَّ دجلةُ

حين غزاها مغول العصور الخوالي

وحين غزاها مغول العصور التوالي

بكى...

... اسودَّ

واسودَّ حزناً على حزنه الماءُ"(26)

كما تحيل قصائد الديوان إلى وقائع تاريخية تحولت إلى رموز تؤكد أصالة الشاعر في خلق رموزه الخاصة، فنجده يستحضر حادثة مقتل الحسين, وكربلاء، كما يستحضر نصوصاً حفظتها الذاكرة الأدبية، وروتها من جيل إلى جيل, من ذلك على سبيل المثال: "المنية قبل الدنية"(27).

وقد تتداخل النصوص التاريخية بالنصوص الدينية، منتجة نصاً أدبياً أصيلاً مسكوناً بالرمز, يحيل على ثقافات متنوعة التقت أجمعها لتشكل نسيجاً تتعالق عناصره أفقاً وعمقاً.

وتطالعنا في مجموعة الشاعر "بتغرامو... وشرفة الأبجدية" إشارات إلى نصوص القرآن الكريم, كقول الشاعر في قصيدته "بتغرامو": باسم الله مجراها ومرساها (28), وفي القصيدة نفسها قوله أيضاً: "أسعى في مناكبها"(29), الذي يحيل إلى الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْض ذُلولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبهَا (30) كما يستدعي الشاعر شخصية النبي الكريم المصطفى ( ) صراحة في قصيدته "وداع"(31)، يقول:

"سميته باسم النبي المصطفى

سميته أحمدْ.."(32)

بينما نجده في قصيدته "سيرة مخيم اسمه الوطن"(33) يستدعي موقف النبي ( ) إشارة وتلميحاً, مذكراً بمحاربة قريش لدعوته وثباته على طريق رسالته, في قوله:

"والله

لو وضعوا قمراً في يميني

وشمسَ ضحىً في شمالي

على أن أصالحهم ما فعلت"(34)

كما يظهر اسم السيدة العذراء "مريم" في قصيدته "نون المعنى"(35) رمزاً للسلام والمحبة، يقول:

"منفلتاً من قبضةِ الطقوسِ كلها

يحوطُهُ بخورُ مريمَ الذي

أنعشني نسيمهُ

مرتقياً معارج الحروفِ

نحو قبّة السديمِ"(36)

وتظهر مثل هذه الإشارات التي تحيل إلى المصادر الثقافية الدينية بوضوح لدى الشاعر محمد حمدان في قصيدة "فينيسيا"، من أمثلة ذلك قول الشاعر في المقطع الثالث من قصيدته:

"وينشر البخورُ عطرهُ

ليحرسَ الينبوع في أيقونة المدى

من شرّ حاسد إذا حسدْ"(37)

يشير الشاعر بإحالة مباشرة إلى سورة الفلق(38): من شرّ حاسد إذا حسد .

ثم تأتي في المقطع الرابع إحالة جديدة إلى نص قرآني آخر من سورة المسد, في قول الشاعر:

"تحوطه جديلتان من بنفسجٍ

بينهما قلادةٌ منظومةُ الياقوتِ

في حبلٍ من المسدْ"(39)

وكذلك في قصيدته "على شرفة الأبجدية في رأس شمرا" حيث نجد إحالة مباشرة إلى الآية الكريمة ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (40)، في قوله:

"ولكنني في وريد هنا أو هناك

تركت مكاناً لشيءٍ من الحقدِ

حتّى يكون لهم في الحياة قصاصٌ"(41)

وقد تتخطى هذه الإشارات لغة الشاعر إلى لغة أخرى لتدلل على سعة المخزون الثقافي الذي ينطلق منه الشاعر في تجربته.

3 ـ ديوان "بين يدي المحيط":

يؤكد ديوان "بين يدي المحيط"(42) للشاعر محمد حمدان اتجاهه في توظيف المصادر الثقافية المختلفة في التعبير عن رؤيته الشعرية المعاصرة، فتظهر هذه المؤثرات في مضامين قصائده أو في عناوينها مضفية على القصيدة بكاملها رؤية تسيجها بأبعاد الحدث التاريخي المستلهم في القصيدة، مما يفتح النص على آفاق رؤيته الخاصة من جهة، وعلى آفاق النص التراثي المستلهم، في الوقت نفسه, من جهة أخرى. من أمثلة ذلك ما نجده لدى الشاعر في قصيدته "جلجامش يتقلد السيف"(43)، يقول:

"في قاع البوغاز رماحٌ

يعطيها القوةَ آدادُ وإنليلُ لتحرس سوراً

يمتدُّ فيصبح جسراً للعشق الأبديِّ

وللثورة والموتْ"(44)

يحمل تكرار أسماء الآلهة البابلية إشارات جزئية محدودة للدلالة، مرتبطة بكلّ اسم, ويمهد في المناخ الشعري لاستلهام شخصية أنكيدو، استلهاماً مؤسساً على انكشاف النّص منذ عنوانه على جذور أسطورية مناسبة.

"صديق الرحلة أنكيدو

قتلته سجاحٌ ومسيلمة الكذّاب على أبواب الغابةِ

جلجامشُ أضحى معزولاً ومحاصرْ

.........

لكنّ إذاعات الآلهة/ الأصنامِ

تسافر في كلّ دروب الشرقِ

لتمنع عن جلجامش جمهور الرغبة في التغيير"(45)

فجلجامش المقاوم الباحث عن عشبة الخلود، يحمل إشارة إلى الشعب الفلسطيني المقاوم (1982), وفهم الشاعر للأسطورة يخضع لحاجته الاستقبالية، فنياً, مما يجعله يرسم صورة لصديق جلجامش أنكيدو، مقتولاً, الردة والكذب والخيانات، في إشارة إلى إجهاض مشاريع النضال العربي في الأقطار التي ينتظر منها الشاعر معاضدة جلجامش الفلسطيني المقاوم.

(1) ـ حمدان، محمد, 1983 ـ الميناء الموبوء. دار الآفاق الجديدة، بيروت, (159 ص).

(2) ـ المصدر نفسه، ص 143.

(3) ـ المصدر نفسه, ص 150.

(4) ـ المصدر نفسه، ص 155.

(5) ـ القرآن الكريم، سورة المائدة، آية رقم 24.

(6) ـ حمدان، محمد، 1983 ـ الميناء الموبوء, ص 155.

(7) ـ المصدر نفسه، ص 56.

(8) ـ المصدر نفسه، ص 58.

(9) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، (154 ص)، ص 47.

(10) ـ المصدر نفسه، ص 47.

(11) ـ المصدر نفسه، ص 49.

(12) ـ المصدر نفسه، ص 53.

(13) ـ امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس.

(14) ـ حمدان, محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 139.

(15) ـ الفرزدق، ديوان الفرزدق.

(16) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 141 ـ 142.

(17) ـ المصدر نفسه، ص 121.

(18) ـ المصدر نفسه، ص 122.

(19) ـ المصدر نفسه، ص 115.

(20) ـ المصدر نفسه، ص 47.

(21) ـ المصدر نفسه، ص 115.

(22) ـ المصدر نفسه، ص 139.

(23) ـ المصدر نفسه، ص 129.

(24) ـ المصدر نفسه، ص 129.

(25) ـ الشموخ، مجلة إلكترونية شهرية ثقافية، جاءت المادة تحت عنوان "مكتبة بغداد".

(26) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 134.

(27) ـ المصدر نفسه، ص 114.

(28) ـ المصدر نفسه، ص 15.

(29) ـ المصدر نفسه، ص 15.

(30) ـ القرآن الكريم، سورة الملك، آية رقم 15.

(31) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو.. وشرفة الأبجدية. ص 86.

(32) ـ المصدر نفسه, ص 86.

(33) ـ المصدر نفسه, ص 73.

(34) ـ المصدر نفسه، ص 81.

(35) ـ المصدر نفسه، ص 99.

(36) ـ المصدر نفسه، ص 99.

(37) ـ المصدر نفسه، ص 106.

(38) ـ القرآن الكريم، سورة الفلق، آية رقم 5.

(39) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 106.

(40) ـ القرآن الكريم، سورة البقرة، آية رقم 179.

(41) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو.. وشرفة الأبجدية. ص 146.

(42) ـ حمدان، محمد، 1992 ـ بين يدي المحيط. دار الحقائق, بيروت، (93 ص).

(43) ـ المصدر نفسه، ص 33.

(44) ـ المصدر نفسه، ص 33.

(45) ـ المصدر نفسه، ص 38.