إسماعيل الملحم
التجربة الإبداعية
دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع
تمهيد
ليس ما يجمع هذه الأبحاث ما يمت إلى النقد
بقدر ما يحاول الولوج إلى العملية
الإبداعية في مجالات فنية متنوعة. وإذ
تقترب أحياناً من مثال أو حادثة تتعلق
بميدان من ميادين العلوم الأساسية يكون
القصد توسيع في فضاء الإفصاح عن عمليتي
الإبداع والاتصال وهما العمليتان اللتان
تأخذان القسط الكبير من اهتمام الباحثين
في مجالات العلوم الإنسانية والسلوكية،
كونهما تستأثران في زمننا هذا، زمن التفجر
المعرفي، بعمليات التجريب ويعدهما
المهتمون بالقضايا العامة الاجتماعية
والسياسية المجال الأهم لمواكبة التغيرات
المذهلة في مختلف جوانب المعرفة البشرية.
وليس -ما سبق- فحسب، وإنما الاهتمام بهذين
الموضوعين يتعلق بجوانب وجدانية
وأخلاقية.. فالإنسان الذي تستهلك طاقاته
اهتمامات العيش في مجتمعات إنسانية
تنساق، بشكل أو بآخر نحو نزعات استهلاكية،
ليس كالفن ما يعيد لـه إنسانيته التي يكاد
التطور التكنولوجي يأتي عليها. كما أن حمى
الاستهلاك وخضوع المجتمعات البشرية على
نحو من الأنحاء لما بات يعرف باقتصاد
السوق قد أخذ برقاب البشر نحو جعلهم سلعاً
ويعامل الإنسان في هذا النظام معاملة
السلعة.. والأدلة على ذلك ليست قليلة فبحسب
سوق العمل يتلون الإنسان الذي يعرض نفسه
سلعة.
فالفن إنتاجاً وتواصلاً بين ذوات إنسانية
هو صمام أمان يقي الشخصية من الهبوط إلى
مستوى الحيوان بل مستوى الأشياء. فما كان
يسمى تشيؤ البشر صار واقعاً يقرع الأجراس
لإنذار من لديه أذنان ليسمع بأن هاوية من
التردي الأخلاقي تنزلق نحوها البشرية.
فممارسة الفن إنتاجاً وتقبلاً قد تحمي
البقية الباقية من إنسان عوالم
التكنولوجيا وقيادة منظومات الهيمنة على
مستوى المعلومة والسلعة والسيطرة
المالية.
الإبداع والاتصال
(1) ما الإبداع؟
يصدر الإبداع -كما يقول روجرز - عن ميل في
الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته.
وعندما يتفتح ذهن الإنسان أمام خبراته
كافة يصبح سلوكه سلوكاً إبداعياً، ويصبح
بناءً. هل نستطيع وصف الإبداع وصفاً
مقنعاً مهما امتلكنا من القدرات
المعرفية؟ يجيب (ويليامز): الإبداع أمر
يعزّ وصفه.. ففي لحظات ما يشعر المرء
خلالها أن الفعل الإبداعي صار طوع بنانه
وقد هبطت على ذهنه أو شعّ ذهنه بشرارة أو
قبس منه.. وفجأة يخبو كل شيء.. وفي أحيان
يبدو له أن اقتناص الإبداع سهل وفي
المتناول، لكن هذه السهولة لا تلبث أن
تصبح أثراً بعد عين فتتبدد على نحو يعصى
على الفهم.
إن الاهتمام بالإبداع كقدرة عقلية عالية
إن في مجالات العلم والتكنولوجيا وإن على
المستوى الفني والجمالي مطلب إنساني
وضرورة ملحة في عالم سريع التغير. وتسعى
باستمرار مراكز البحث والدراسات وأشكال
التدريب والتمرين لاكتشاف الطاقات
الإبداعية وتربيتها. لكن ما يمكن بوساطته
أن نضع تحديداً للإبداع والفعل المبدع
يبقى سراباً فسرُّ العبقرية يبقى غامضاً.
يفترض في المبدع أن يمتلك نوعاً من
التفكير المنطلق المتشعب، وبناء على هذه
الفرضية فإن العديد من الدراسات ينفي
الارتباط العالي بين الإبداع والذكاء كما
يمكن أن يظن كثير من الناس الذين يخلطون
بين هاتين القدرتين المعرفيتين.
لهذا فإن نتائج روائز الذكاء لا تعطي
إجابات مفيدة في هذا الشأن. لأن المبدع
عامة قلما يلتزم في إجاباته ببنود الرائز..
فإجاباته تجنح نحو الجدّة والابتكار
وتبتعد عن المنوالية التي تفترضها مقاييس
الذكاء.. فالإبداع ليس مشروطاً بنسبة
الذكاء العالية. كما يقول (فرانك بارون)
عالم النفس الشهير:
"ليس شرطاً أن تكون نسبة ذكائك مرتفعة كي