أمَّا في مجال الفكر والأدب فقد أعلن
القطب الأوحد عن دفن المنجزات التي حققها
النظام الرأسمالي العالمي (الذي يسميه هذا
القطب بالتقليدي) وكان قد طبّل لها مفكروها
وزمّروا عبر نصف قرن ونيّف، أي منذ
هيروشيما وحتى نهاية القرن العشرين ـ الذي
بدأ بذبح العرب وانتهى بذبحهم على هذا
النحو المأساوي الذي ما زلنا نشهده حتَّى
اللحظة، بكل صمت المتفرج اليائس... وتجلّت
هذه المنجزات في ظواهر الليبرالية،
والنزعة العقلانية في الفلسفة والفكر،
والديمقراطية المفتوحة والعلمانية و...
الحداثة... وقد أضفت الإيديولوجيا طابعها
على هذه الظواهر، كرد على إيديولوجية
الآخر، سواء كان هذا الآخر المعسكر
الاشتراكي الراحل، أم حركات التحرر
القومي التي تصاعدت في مرحلة الخمسينات
والستينات من القرن المنصرم وأضحت مركز
الثقافة العالمية ثمَّ وبعد التراجعات
المتلاحقة في سياسة الاتحاد السوفييتي
حيال الثقافات القومية والروحية، تحول
ميزان الارتكاز لتصبح ثقافة المركز
هامشية منذ ثمانينات القرن الماضي وبعد
سقوط الاتحاد السوفييتي وتابعاته تفرّدت
الثقافة الاستهلاكية الأمريكية والقطب
الواحد بهذا العالم وشعوبه ومصائرها
وثقافاتها وما إلى ذلك...
وشكَّلت هذه الظواهر تقاليدها وفكرها
وخصائصها التي تميزت بها مجتمعاتها
وترسَّخت فيها، إلا أنه عند نهاية الحرب
الباردة وظهور القطبية الواحدية جاء
الإعلان عن نهاية مرحلة الحداثة وبدء
مرحلة جديدة هي "ما بعد الحداثة" كمنحى
سياسي وثقافي شمولي، واقتصادي عالمي
يندرج تحت لواء النظام العالمي الجديد...
وقد عبّر غورباتشوف عن هذه الحالة حينما
أطلق مصطلحه القائل "لا للإيديولوجية ونعم
للمصالح" ليعلن بذلك انتهاء التفكير
العقلي والوقائع الحضارية وقيام نظام
عقلي مغاير... وقد وجدت هذه الحالة مريديها
ودعاتها في وسطنا العربي رسمية وغير
رسمية... فقد حمل الشيوعيون مبدأ إعادة
التغيير التي انتهجها غورباتشوف
"البيروسترويكا Perostroika" لتجاوز أوضاعهم
الإيديولوجية المتناقضة والتنظيمية
المركبة... وكانت هذه أول ردّة فعل
(ميكانيكية) تتخذها شرائح إيديولوجية
ملتزمة، موزاييكية التنظيم، حيال المصطلح
الوافد والثقافة السوداء... فأعاد الكثير
من الأحزاب السياسية والأفراد النظر
بإيديولوجية الالتزام العقائدي، وتفكك
موازينها وهي الآن في حالة عدم توازن في
الخيارات، بين أن تبقى مخلصة لروح
الماركسية، أو أن تنضوي تحت راية
الإيديولوجيات القومية التي ناهضتها فيما
مضى. أمَّا الشرائح الليبرالية الحداثوية
والرومانسية الفكرية ذات الثقافة الغربية
فقد دعت إلى اللحاق بركب العولمة وثقافة
السوق، "ليكون لهم موطئ قدم في النظام
العالمي الجديد قبل أن ترفسهم الأقدام".
إذاً، فالنظام الجديد (العولمي) هو نظام
سياسي ـ اقتصادي وعسكري وثقافي، يسعى
لابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم ثمَّ
إعادة إنتاجهم على هيئة سلع... وقد ولد هذا
النظام الجديد من رحم النظام السابق ـ
الرأسمالي ـ ويعرفه الكاتب الأمريكي
"توفلر" بأنه الثورة الثالثة أو موجة
الحضارة الثالثة "على اعتبار أن الثورة
الأولى هي الزراعية، والثانية هي
الصناعية، أمَّا الثالثة فهي ثورة
التكنولوجيا والمعلومات" التي تجعل
العالم قرية كونية واحدة، أو سوقاً عالمية
واحدة تخضع للأخطبوط الأكبر.
* التشيؤ والتنميط والانقراض...
جاء إعلان "فوكوياما" الياباني الأصل
أمريكي الجنسية، عن نهاية التاريخ،
إيذاناً ببداية مرحلة ما بعد الحداثة ودفن
منجزات النظام السابق ووقائعه المادية
والروحية... ودعا هذا الكاتب أحادي الرؤية
إلى أن وقت الحلم ببدائل تاريخية قد مضى
وقد سقطت هذه البدائل كلّها ميتة على عتبة
الموجة الثالثة للحضارة الراهنة، وقال
بأن ما عايشته البشرية فيما مضى ما هو إلا
أضغاث أحلام طفولية، وما على البشر إلا
الخضوع لواقع الحال، والانصياع إلى
البنية المادية والروحية الجديدة
(العولمية)...
*والعولمة من حيث هي نظام عالمي جديد،
تسعى أول ما تسعى إلى نسف عدوها (رقم واحد)
وهو الهويات القومية التي تنظر إليها على
أنها الصخرة الكأداء الهائلة التي تقف في
طريق انتشار تلك القرية الكونية المنفلتة
من حبال الماضي وحضورها في الواقع الراهن
تأسيساً لمستقبل منسلخ عن تاريخه...
وعليها، والحالة هذه نسف كل الهويات عدا