ولم يقتصر جمع الشعر على عشاقه وروايته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بامور اخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الايام والاخبار. فقد امدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي، في الجاهلية وفي الإسلام. كانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن ايام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها ابطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الابطال إنشاد شعر التبجح بالنفس ومفاخرتها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان تسجيلا لمفاخره بين الناس.
وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير الحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من ابيات وقطع بل قصائد أحيانا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل السلام، وفي ضبط الشعر الوارد في مصدر الاخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من اوهام، كما امدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة احيانا عن اصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها.
وقد تعرض "الجاحظ" لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم ار غاة النحوين الا كل شعر فيه اعراب. ولم ار غاية رواة الشعر الا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أ، غاية رواة الأخبار الا كل شعر فيه الشاهد والمثل".
يقول "برو كلمن": "ولم يبدأ جمع الشعر الا في عصر الامويين، وان لم يبلغ هذا الجمع ذروته الا على ايدي العلماء في عصر العباسيين، بيد إن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرا غريبا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع انفسهم شعراء، فقد ظنوا انه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبا عليهم ايضا في بعض الاحيان إن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا ايضا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد اراد حماد الرواية إن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لاصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم انه وجد الشعر الذي كتب بامر النعمان ودفن في قصره الابيض بالحيرة، ثم كشف في ايام المختار بن أبي عبيد.
لقد غير الرواة بعض اشعار الجاهلية عمدا، ونسبوا الشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الاولى، كما يمكن إن يكون وضع اشعار قديمة، منحولة على مشاهير الابطال في الزمن الاول لتمجيد بعض القبائل، اكثر مما نستطيع اثباته.
على انه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو إن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب الا دورا ثانويا. وقد روى علماء المسلمين اشعارا للجاهليين تشمل على اسماء اصنام وعبادتها، وأن سقطوا أيضاً أبياتاً أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لان الشعور الديني لم يكن غالباً على نفوس العرب في اتلجاهلية.
ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين أشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصيه، ولا نكاد نجد مدينة أسلامية، بلغت مبلغها في هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتها في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعاً للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتاباً في الشعر أو الأدب، إلا وهو عيال على علم هاتين المدينتين.
ولمك تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ "دمشق" التي صارت حاضرة العالم الاسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الاخرى، مع حبّ الأمويين للشعر الجاهلي؟، ورغبتهم في تفويق بلاد الشام المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، وعارضته للشام منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض "دمشق" لم تكن أرضاً خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني أرم،