وسما إلى سماء البلاغة فكان نجمها الزاهر، وارتقى إلى أفلاك البراعة فكان نيرها الباهر، ورام من سواه الارتقاء إلى محله والمناوأة لفضله فغدا وهو في ذيول حيرته عاثر؛ فعند ذلك علموا عجزهم عن إدراك غاياته، واعترفوا بالتقصير عن مجاراته ومباراته؛ وحين لم يجد لفضله مجاريا، ولا عاين لفضائله مباريا؛ صار بها كالغريب وإن كان في أهله ووطنه، والفريد مع كثرة أبنائه وإخوان زمنه؛ فسمت به نفسه إلى ظلب العلوم من مظانها، والاحتواء عليها في إبانها؛ واللحاق بأعيان أهلها، والاختلاط بمن ارتدى بأردية فضلها؛ ورؤية من توشح بقلائدها، وترشح لبذل فوائدها ونظم فرائدها؛ ففارق الأقطار اليمنية وهي تسأله التأني، وتبذل لرضاه الرغبة والتمني؛ وهو لا يجيب مناديها ولا يعرج على ناديها، ولا يميل إلى حاضرها ولا ينظر إلى باديها؛ وصرف وجهه عنها، ونفض يده منها؛ والتحق بالديار المصريه، وانبت في طلب العلوم بأجمل سريرةٍ وأحسن سيرةٍ وأخلص نيه؛ فبلغ فيها مناه، وأدرك بها ما تمناه؛ وغدا وثغر فصاحته بالعلوم أشنب، وبرد بلاغته بالآداب مذهب تناهى علاءً والشباب رداؤه فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب ولما عاينه أعيان أهل هذا الوادي، وشاهدوه يبكر في طلب العلوم ويغادى؛ تلقوه بالإكرام والترحيب، وقابلوه بالتبجيل والتقريب، وأنزلوه بالمحل الأرفع والفناء الخصيب؛ وعاملوه بمحض الوداد، وساواه شبابهم بالإخوة ومشايخهم بالأولاد؛ وخلطوه بالنفس والمال، وظهر له في ابتداء أمره بقرائن الأحوال حسن المآل؛ فأصبح من عدول المصر، وأمسى وهو من أعيان العصر؛ فشكر عاقبة مسيره وحمد صباح سراه، وأجابه لسان الفضائل بالتلبية لما دعاه؛ ثم ارتحل إلى الشأم فجعل دمشق مقر وطنه، وموطن سكنه؛ ومحل استفادته وإفادته، ونهاية رحلته وغاية إرادته؛ فعامله أهلها بفوق ما في نفسه، فحمد يومه بها على أمسه؛ وغدا لأهل المصرين شاكرا، ولمناقبهم تاليا ولمحاسنهم ذاكرا؛ وله من النظم ما رقت حواشيه، وراقت معانيه؛ ومن النثر ما عذب وصفا، وكمل بلاغةً ولطفا؛ وحسن إعجازا، وتناسب صدورا وأعجازا؛ وقد قدمنا من كلامه في هذا الكتاب ما باسمه ترجمناه، ولفضائله نسبناه؛ مما تقف عليه في مواضعه، وتغتذى بلبان مراضعه؛ فلنورد له في هذا الباب غير ما تقدم إيراده وما تأخر، ونأخذ لتصنيفنا من بلاغته بالنصيب الأوفى والحظ الأوفر. فمن إنشائه كتاب عن الخليفة المستكفي بالله أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان لملك اليمن - عمله تجربةً لخاطره عند ما رسم بمكاتبته، ابتدأه بأن قال: إما بعد حمد ه مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبتداها؛ وموفق من اختاره إلى محجة صوابٍ لا يضل سالكها، ولا تظلم عند اختلاف الأمور العظام مسالكها؛ وملهم من اصطفاه اقتفاء آثار السنن النبويه، والعمل بموجب القواعد الشرعيه؛ والانتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سدته الجليلة برودها؛ وملكته أقاصي البلاد، وناطت بأحكامه السديدة أمور العباد؛ وسارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسره، وسرت بأحكامه النيرة مناحج الدنيا ومصالح الآخرة؛ وتبختر كل منبر من ذكره في ثوبٍ من السيادة معلم، وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينار ودرهم؛ يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطه، وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه إلى يوم القيامة محوطه؛ ويصلى على ابن عمه محمدٍ الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة فذادوا عن مواردها، وتجهزوا لتشييد المعالم الدينية فأقاموها على قواعدها؛ صلاةً دائمة الغدو