*( 69 )*
مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث، فلأجل ذلك
لا يؤثّر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيره إلى حال.
إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة، التي لا تقف عند حدّ.
وقد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللومَ والذمَ، بل الأمرَ
الأشد من ذلك، في سبيل إظهاره الحقيقة، حتّى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة
ورصانة.
نعم، قد أثّر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع، عاملان كبيران، كان لهما الأثر
البالغ في بناء شخصيته الفكريـة والفلسفية والاجتماعيـة والسياسيـة، وهما:
1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ في منفاه(بيروت).
2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي
--------------------
*( 70 )*
(1254ـ 1316هـ).
ففي ضوء هذين العاملين، خالف الرأي العام في كثير من الموارد، ومنها أفعال العباد، فقال في رسالة
التوحيد التي كتبها عام 1303هـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها وقد
وقف على نهج البلاغة في منفاه ـ:
يشهد سليم العقل والحواسّ من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده،
كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله، ويقدّرها بإرادته، ثمّ يُصدرها بقدرة
ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.
كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس... وعلى
هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، وهو
عقله الذي شرفه اللّه
--------------------
*( 71 )*
بالخطاب في أوامره ونواهيه.
إلى أن قال: ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد.^(1) لأفعاله يؤدي إلى الإشراك باللّه ـ و هو الظلم العظيم
ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير اللّه
أثراً فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة
المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظِّم سوى اللّه مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه....
جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية:
الأوّل: إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.
والثاني: إنّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات، وإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-ولعلّه استخدم لفظ الكسب ليكون واجهة لبيان مقصده بتعبير مقبول عند أهل السنّة وإلاّ فما ذكره لا
صلة له بالكسب المصطلح، إلاّ أن يريد الكسب القرآني، أعني قوله سبحانه: (*لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ*) البقرة:286.
--------------------
*( 72 )*
من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده، وإنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمدّ العبد
بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.
وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد