المسلمون إليها كالسيل الجارف، فأغلق الباب عليهم بعد دخولهم جميعا، ورمى بالمفتاح من وراء الجدار حتى لا يتمكن أحد من الخروج فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مسيلمة. قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار كلاهما قد أصابه. ووحشي هذا هو قاتل حمزة كما تقدم في السيرة النبوية. فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمة وأخذهم السيف من كل جانب حتى قتلوا عن آخرهم وأخبر خالد بقتل مسيلمة فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة وأخذ يكشف له عن جثث القتلى حتى عثر عليه. فقال مجاعة لخالد (ما جاءك إلا سرعان الناس(5) وإن جماهير الناس لفي الحصون). فقال ويلك ما تقول؟ قال هو واللّه الحق فهلم لأصالحك عن قومي، وكان خالد نهكته الحرب وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب فقد رق وأحب الدعة والصلح. ثم قال مجاعة: (أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر فأرجع إليك) فانطلق ودخل الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان، ومشيخة فانية ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن وأن يشرفن على رؤوس الحصون حتى يرجع إليهم ثم رجع فأتى فقال: قد أبوا ما صالحتك عليه وقد أشرف لك بعضهم نقضا علي وهم مني براء - فنظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت - ولكن إن شئت صنعت شيئا فعزمت على القوم. قال ما هو؟ قال تأخذ مني ربع السبي وتدع ربعا. فقال قد فعلت. قال: قد صالحتك.فلما فرغ فتحت الحصون فإذا ليس فبها إلا النساء والصبيان والشيوخ فقال خالد لمجاعة: ويحك! خدعتني. قال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت.
وقيل صالحه خالد على الذهب والفضة والسلاح ونصف السبي ولما عرض هذا الصلح عارض قوم من بني حنيفة، ومنهم سلمة بن عمير الحنفي فإنه أبى إلا الحرب وتجنيد أهل القرى والعبيد غير أن مجاعة أصر على الصلح وكتب خالد كتاب الصلح وهذا نصه: (هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا: قاضاهم على الصفراء، والبيضاء(6) ونصف السبي والحلقة(7) والكراع(8) وحائط من كل قرية ومزرعة على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان اللّه ولكم ذمة خالد بن الوليد، وذمة أبي بكر خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذمم المسلمين على الوفاء).
ثم وصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم لكنه وصل متأخرا لأن خالدا كان قد صالحهم فوفى لهم ولم يغدر، والذي أوصل كتاب أبي بكر هو سلمة بن سلامة بن وقش.
وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد، وخالد في عسكره.
(1) المهاجر بن أبي أمية أخو أم سلمة زوج النبي صلى اللّه ع ليه وسلم. كان اسمه الوليد فسماه رسول اللّه المهاجر. (2) عقرباء: منزل من أرض اليمامة في طريق النباح قريب من قرقرى من أعمال العِرْض وهو لقوم من بني عامر بن ربيعة وهي التي خرج إليها مسليمة لما بلغه مسير خالد إلى اليمامة فنزل بها لأنها في طريق اليمامة ودون الأموال وجعل ريف اليمامة وراء ظهره. النباح بين البصرة واليمامة. وقرقرى أرض يمر بها قاصد اليمامة من البصرة فيها قرى وزروع ونخيل كثيرة. والعِرْض بكسر أوله وسكون ثانيه وادي اليمامة ويقال لكل واد فيه قرى ومياه عرض. (3) نهار الرجال بن عنفوة كان قد هاجر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وفقه في الدين فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة. وليشدد من أمر المسلمين فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة. شهد له أنه سمع رسول اللّه يقول: أنه قد أشرك معه فصدقوه واستجابوا له. (4) الحديقة هي بستان في أرض اليمامة لمسيلمة مسور بحائط قوي كانوا يسمونه "حديقة الرحمن" فسموه "حديقة الموت". (5) سرعان الناس: أوائلهم. (6) الذهب والفضة. (7) السلاح. (8) الكراع وزان غراب: الخيل.