وسیط فی أُصول الفقه

جعفر السبحانی التبریزی

جلد 1 -صفحه : 9/ 2
نمايش فراداده

كتاب يبحث عن الأدلة اللفظية والعقلية بين الأيجاز والأطناب

الجزء الأول

كتاب دراسي اُعد لطلبة الحوزة العلمية / السنة الخامسة نشر مؤسسة الإمام الصادق _ عليه السلام _

( 2 )

( 3 )

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

التبوة: 122

( 4 )

( 5 )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّالعالمين، والصّلاة والسلام على أفضل خليقته، وأشرف بريّته، وخاتم رسله، محمّد وعلى آله حفظة سننه، وعيبة علمه، وخزنة سره، صلاة دائمة مادامت السماء ذات أبراج، والأرض ذات فجاج.

أمّا بعد، فقد ألفّتُ في سالف الزمان كتاب «الموجز في أُصول الفقه» للمبتدئين في دراسة هذا الفن، توخّيت منه التعرض لأهمّ المسائل الأُصولية بنحو موجز يتلاءم مع روح العصر وقد انكبَّ عليه الدارسون بالبحث والمطالعة حتى غدا محور الدراسة في الجامعات الإسلامية.

ولمّا كانت الغاية من تأليفه هو بيان أُمّهات المسائل الأُصولية على وجه الايجاز، فقد أوجزت الكلام في بعض المسائل، وتركت التعرّض لبعضها الآخر رعاية لحال الدارسين،فدعا الأمر إلى تأليف كتاب آخر يتميز عن سابقه بميزتين:

1. تبسيط ما أوجز في الكتاب الأوّل.

2. طرح المسائل الأُصولية التي لم نتعرض إليها في الموجز.

وربما مست الحاجة إلى تكرار بعض ما ذكرناه في «الموجز» حفظاً لنظام البحث وتسلسله وليعلم انّ المتن الدراسي يتميز عن غيره بمزية خاصة وهي انّه يأخذ على عاتقه التعبير عن المطالب والمحتويات بأقصر العبارات وأوجزها،

( 6 )

خالية من التعقيد والغموض.

وعلى ذلك جرى ديدن القدماء في تأليف المتون الدراسية وقد راعينا هذا الأُسلوب في كتابنا، واحترزنا عن الاسهاب والاطناب كما احترزنا عن التعقيد وحرصنا على أن تكون لغته على مستوى اللغة الدارجة في الحوزة العلمية.

واسميته بـ«الوسيط» لتوسطه بين الايجاز والتبسيط.

ونستهلُّ البحث بنبذة موجزة عن تاريخ علم الأُصول وكيفية نشوئه وتكامله والأدوار التي مرّ بها والجهود التي بُذلت بغية ارساء قواعده.

وختاماً أرجو من اللّه سبحانه أن ينتفع به رواد هذا العلم وينير لهم الدرب في تذليل الصعوبات التي تعترض سبيلهم.

( 7 )

إلماع إلى تاريخ علم الأُصول

الإسلام عقيدة و شريعة; فالعقيدة هي الإيمان باللّه سبحانه وصفاتِه والتعرّفُ على أفعاله، والشريعة هي الأحكام و القوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد و المجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات، والمعاملات، والإيقاعات، والسياسات.

فالمتكلِّم الإسلامي مَن تكفّل ببيانِ العقيدة و برهَن على الإيمان باللّه سبحانه وصفاتِه الجمالية والجلالية، و أفعاله من لزوم بعث الأنبياء والأوصياء لهداية الناس و حشرهم يوم المعاد.

كما أنّ الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد والمجتمع، والتنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه و وظيفة كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر.

بيد أنّ لفيفاً من العلماء أخذوا على عاتقهم بكلتا الوظيفتين، فهم في مجال العقيدة أبطال الفكر وسنامه، وفي مجال التشريع أساطين الفقه و أعلامه، ولهم الرئاسة التامّة في فهم الدين على مختلف الأصعِدة.

إنّ علم أُصول الفقه يعرِّف لنا «القواعدَالممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية و ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل»، وقد سُمِّي بهذا الاسم لصلته الوثيقة بعلم الفقه، فهو أساس ذلك العلم و ركنه، وعماد الاجتهاد و سناده.

الاجتهاد: عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، أو الوظائف

( 8 )

العمليّة من مصادرها، و هو رمز خلود الدين وحياته، وجعله غضّاً طريّاً، مصوناً عن الاندراس عبْر القرون و مغنياً المسلمينَ عن التطفّل على موائد الأجانب، ويتّضح ذلك من خلال أُمور:

1. انّ طبيعة الدين الإسلامي ـ أي كونه خاتم الأديان إلى يوم القيامة ـ تقتضي فتح باب الاجتهاد لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث و تحدّيات مستجدَّة، وموضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النص، فلا محيص عن معالجتها إمّا من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب و السنّة وغيرهما من مصادر التشريع و استنباط حكمها، وإمّا باللجوء إلى القوانين الوضعية، أو عدم الفحص عن حكمها و إهمالها.

والأوّل هو المطلوب، و الثاني يكوّن نقصاًفي التشريع الإسلامي، وهو سبحانه قد أكمل دينه بقوله: (اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (1) و الثالث لا ينسجم مع طبيعة الحياة و نواميسها.

2. لم يكن كل واحد من أصحابِالنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ متمكناً من دوامِ الحضورِ عنده ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدّة حياته يحضره بعضهم دون بعض، وفي وقت دون وقت، وكان يسمع جواب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ عن كلّ مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب و يفوت عن الآخرين، فلمّا تفرّق الأصحاب بعد وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في البلدان، تفرّقت الأحكام المروية عنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فيها، فتُروى في كلّ بلدة منها جملة، و تُروى عنه في غير تلك البلدة جُملة أُخرى، حيث إنّه قد حضر المدنيّ من الأحكام، مالم يحضره المصري، و حضر المصريّ مالم يحضره الشاميّ، وحضر الشاميّ مالم يحضره البصري، وحضر البصري مالم يحضره الكوفي إلى غير ذلك، وكان كل منهم

1. المائدة:3.

( 9 )

يجتهد فيمالم يحضره من الأحكام. (1)

إنّ الصحابي قد يسمع من النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في واقعة، حكماً و يسمع الآخر في مثلها خلافه، و تكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين غفل أحدهما عن الخصوصية، أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث، فحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، ولا تنافي واقعاً; ومن هذه الأسباب و أضعافِ أمثالها احتاج حتى الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد و النظر في الحديث، و ضمّ بعضه إلى بعض، و الالتفات إلى القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، و مراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام، و الحديث نُقِلَ والقرينة لم تنقل.

وكلُّ واحد من الصحابة، ممّن كان من أهل الرأي والرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو و محدث، و تارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية، أو الروايات بحسب نظره واجتهاده فهو في هذا الحال، مفت و صاحب رأي. (2)

3. وهناك وجه ثالث و هو انّ صاحبَ الشريعة ما عُني بالتفاصيل والجزئيات لعدم سنوح الفرص ببيانها، أو تعذر بيان حكم موضوعات لم يكن لها نظير في حياتهم، بل كان تصوّرها ـ لعدم وجودها ـ أمراً صعباً على المخاطبين، فلا محيص لصاحبِ الشريعةِ عن إلقاء أُصول كلية ذات مادة حيويّة قابلة لاستنباط الأحكام وفقاً للظروفِ و الأزمنة.

4. انّ حياة الدين مرهونة بمدارسته ومذاكرته ولو افترضنا أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ذكر

1. المقريزي: الخطط:2/333.

2. أصل الشيعة وأُصولها: 147، طبعة القاهرة .

( 10 )

التفاصيل و الجزئيات وأودعها بين دفّتي كتاب ، لاستولى الركود الفكري على عقلية الأُمة، و لانحسر كثير من المفاهيم و القِيَم الإسلامية عن ذهنيّتها، وأوجب ضياع العلم و تطرق التحريف إلى أُصوله و فروعه حتى إلى الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل.

على هذا، لم تقم للإسلام دعامة،ولا حُفِظَ كِيانُه و نظامه، إلاّ على ضوء هذه البحوث العلمية و النقاشات الدارجة بين العلماء، أو ردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة.

( 11 )

تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية

لم يكن علم الأُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه في عصر الأئمّة ـ عليهم السَّلام ـ ، فقد أملى الإمام الباقر ـ عليه السَّلام ـ وأعقبه الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ على أصحابهما قواعد كلّية في الاستنباط، رتّبها بعض الأصحاب على ترتيب مباحث أُصول الفقه.

وممّن ألّف في ذلك المضمار:

1. المحدّث الحرّ العاملي (المتوفّـى 1104هـ) مؤلف كتاب :«الفصول المهمة في أُصول الأئمّة» و هذا الكتاب يشتمل على القواعد الكلية المنصوصة في أُصول الفقه و غيرها.

2. السيد العلاّمة الشبّر عبد اللّه بن محمد الرضا الحسيني الغروي (المتوفّـى 1242هـ) له كتاب «الأُصول الأصلية».

3. السيد الشريف الموسوي، هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني، له كتاب: «أُصول آل الرسول»، وقد وافته المنيّة عام 1318 هـ.

فهذه الكتب الحاوية على النصوص المروية عن أئمة أهل البيت في القواعد والأُصول الكلية في مجال أُصول الفقه، تعرِبُ عن العناية التي يوليها أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ لهذا العلم.

وقد تبعهم أصحابهم، منهم:

( 12 )

1. يونس بن عبد الرحمن (المتوفّـى 208هـ)

يقول النجاشي: كان ـ يونس بن عبد الرحمن ـ وجهاً في أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، روى عن أبي الحسن موسى والرضا عليمها السَّلام . فقد صنف كتابَ: «اختلاف الحديث و مسائله» (1) و هو قريب من باب التعادل والترجيح في الكتب الأُصولية.

2. أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237 ـ 311هـ)

يقول النجاشي :كان شيخَ المتكلمين من أصحابنا و غيرهم، له جلالة في الدنيا و الدين، إلى أن قال: له كتاب «الخصوص و العموم»،و «الأسماء والأحكام».(2)

و يقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة، و كان فاضلاً عالماً متكلّماً، و له مجلس يحضره جماعة من المتكلّمين، إلى أن قال: له كتاب «إبطال القياس». (3)

3. الحسن بن موسى النوبختي

عرّفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلّم، المبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها. و ذكر من كتبه«خبر الواحد والعمل به». (4)

يقولُ ابن النديم: الحسن بن موسى ابن اخت أبي سهل بن نوبخت، متكلّم فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النَقَلة لكتب الفلسفة. (5)

1. رجال النجاشي:2/420 برقم 1209.

2. رجال النجاشي:1/121 برقم 67.

3. الفهرست: 225.

4. رجال النجاشي:1/179 برقم 146.

5. الفهرست: 225.

( 13 )

يقول ابن حجر: الحسن بن موسى النوبختي، أبو محمد من متكلّمي الإمامية، وله تصانيف كثيرة. (1)

أُصول الفقه و أدواره

اجتاز علم الأُصول من لدن تأسيسه إلى زماننا هذا مرحلتين، ولكلّ منهما أدوار، و امتازت المرحلة الثانية بالإبداع والابتكار و طرح مسائل مستجّدة لم تكن مذكورة في كتب الفريقين.

المرحلة الأُولى: مرحلة النشوء والازدهار

ابتدأتْ المرحلةُ الأُولى منذُ أوائل القرن الثالث إلى عصر العلاّمة الحلي(648ـ726) وقد اجتازت أدواراً ثلاثة.

الدور الأوّل: (دور النشوء)

وقد بُدئ هذا الدور بإفراد بعض المسائل الأُصولية بالتأليف دون أن يعمَّ كافّة المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك، و لم نقف في هذا الدور على كتاب عام يشمل جميع مسائله، و قد عرفت أنّ يونس بن عبد الرحمن صنَّف كتابَ «علل الحديث» ، وأباسهل النوبختي كتابَ «الخصوص والعموم» و «إبطال القياس»، والحسن بن موسى النوبختي كتاب «خبر الواحد والعمل به» و بالرغم من ذلك فقد ازدهرتْ حركة الاستنباط و الاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور، فهذا هو «الحسن بن علي العماني» شيخ فقهاء الشيعة، المعاصر للشيخ الكليني (المتوفّـى 329هـ)ألّف كتاب «المتمسِّك بحبل آل الرسول».

1. لسان الميزان:2/258، برقم 175.

( 14 )

يقول النجاشي: أبو محمد العماني، فقيه متكلّم، ثقة، له كتب في الفقه والكلام، منها كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول » كتابٌ مشهورٌ في الطائفة.

وقيل: ما ورد الحاج من خراسان إلاّ طلَب و اشترى منه نسخاً. (1)

كما ألّف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي (المتوفّـى381هـ) كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» في الفقه، وهو كتابٌ كبيرٌ جامعٌ، ذكر فهرس كتبه، الشيخ النجاشي في رجاله، و له كتاب «الأحمدي في الفقه المحمدي».

يقول النجاشي: وجهٌ في أصحابنا، ثقةٌ، جليلُ القدرِ، صنّف فأكثر. (2)

الدور الثاني: (دور النمو)

إنّ حاجة المستنبط في علم الأُصول لم تكن مقصورة على عصر دون عصر، بل كلّما تقدّمتْ عجلة الحضارة نحوَ الإمام، ازدادت الحاجة إلى تدوين قواعد الاستنباط للإجابة على الحوادث المستجّدة و ملابساتها التي كان الفقهاء يواجهونها طيّ الزمان، مما ترك تأثيراً إيجابياً على علم الأُصول و ساهم في نموّه، فأفردوا جميع المسائل (بدل البعض كما في الدور الأوّل) بالتأليف، و قد تحمّل ذلك العبء ثلّة من أساطين العلم و سنامه، منهم:

4. محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336 ـ 413هـ)

هو شيخنا و شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد، صنف كتاباً باسم «التذكرة بأُصول الفقه» و طبع في ضمن مصنّفاته (3) و نقل خلاصته شيخنا الكراجكي (المتوفّـى 449هـ) في كتابه «كنز الفوائد».

1. رجال النجاشي:1/153.

2. رجال النجاشي:2/306: برقم 1048.

3. المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفيّة لوفاة الشيخ المفيد، المصنّفات: 9/5.

( 15 )

5. الشريف المرتضى (355 ـ 436هـ)

هو السيد الشريف علي بن الحسين المعروف بالمرتضى.

قال عنه النجاشي: حاز من العلوم مالم يدانه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً، شاعراً، أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، و عدّ من كتبه «الذريعة»(1) و قد طبع الكتاب في جزأين طباعة منقّحة، وقد عثرت على نسخة خطية منها في مدينة «قزوين» جاء في آخرها انّ المؤلف فرغ من تأليفها عام 400هـ، وقد نقل عنه جلُّ من تأخّر من السنّة والشيعة.

6. سلاّر الديلمي (المتوفّـى 448 هـ)

هو سلاّر بن عبد العزيز الديلمي. يعرّفه العلاّمة بقوله: شيخنا المقدّم في الفقه والأدب وغيرهما، كان ثقة وجهاً ألّف «التقريب في أُصول الفقه»، ذكره في الذريعة. (2)

7. الشيخ الطوسي (385 ـ460هـ)

هو محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي.

يقول عنه النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقةٌ، عينٌ، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه المفيد، و عدَّ من كتبه كتاب «العدّة في أُصول الفقه» (3)، و قد طُبِع غيرمرّة، وهو كتابٌ مفصلٌ مبسوطٌ يحتوى على الآراء الأُصولية المطروحة في عصره.

1. رجال النجاشي: 1/102 برقم 706.

2. الذريعة: 4/ 365 و ذكر أنّه توفّي في السفر سنة 448.

3. رجال النجاشي:2/332 برقم 1069.

( 16 )

الدور الثالث: (دور الازدهار)

بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلى أواسط القرن الثامن، و قد صنف أصحابنا كتباً خاصّة في أُصول الفقه تعرب عن الإنجازات الضخمة، والمنزلة الراقية التي بلغها علمُ الأُصول من خلال دراسة مسائله باسهاب و دقّة وإمعان أكثر، و من المصنّفين في هذا الحقل:

8. ابن زهرة الحلبي (511ـ 558هـ)

هو الفقيه البارع السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي مؤلف كتاب «غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع» وكتابه هذا يدور على محاور ثلاثة، العقائد والمعارف، أُصول الفقه، والفروع.وقد طبع الكتاب محقّقاً في مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ في جزأين، والناظر في قسم أُصول الفقه يرى فيه التفتح والازدهار بالنسبة إلى ما سبقه.

9. سديد الدين الحمصي (المتوفّى نحو 600 هـ)

هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحُمصي الرازي وقد صنف «كتابه المنقذ من التقليد، و المرشد إلى التوحيد» عام 581هـ في الحلة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز. (1)

قال منتجب الدين الرازي: الشيخ الإمام سديد الدين علاّمة زمانه في الأُصوليين، ورع ثقة، و ذكر مصنّفاته الّتي منها: «المصادر في أُصول الفقه» و «التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح». (2)

1. لاحظ المنقذ من التقليد: 17، مقدّمة المؤلف.

2. الفهرست: برقم 389.

( 17 )

10. نجم الدين الحلي (602ـ 676هـ)

هو نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلي، المكنّى بأبي القاسم، الملقّب بنجم الدين، و المشتهر بالمحقّق.

قال ابن داود في رجاله:جعفر بن الحسن، المحقّق المدقّق، الإمام، العلاّمة، واحد عصره كان ألسَنَ أهل زمانه، و أقومهم بالحجة، وأسرعهم استحضاراً، قرأت عليه و ربّاني صغيراً، وكان له عليّ إحسان عظيم،وذكر من تآليفه:«المعارج في أُصول الفقه» (1) وقد طبع غير مرّة، و هو وإن كان صغير الحجم، لكنّه كثير المعنى شأنُ كلِ ما جادت به قريحتُه في عالم التأليف، فهذا كتابه«شرائع الإسلام» عكف عليه العلماء في جميع الأعصار، و كتبوا عليه شروحاً و تعاليق وقد طبع في إيران و لبنان.

وقال في أعيان الشيعة: و من كتبه «نهج الوصول إلى معرفة علم الأُصول».(2)

11. العلاّمة الحلّي (648 ـ 726هـ)

الحسن بن يوسف المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّـي وهو غنيٌّ عن التعريف، برع في المعقول والمنقول، و تقدَم على العلماء الفحول و هو في عصر الصبا، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن، خاله، و من أبيه سديد الدين يوسف بن مطهر الحلّـي، وأخذ العلوم العقلية عن نصير الدين الطوسي وغيره.

1. رجال ابن داود: 83.

2. أعيان الشيعة:4/92. لاحظ الذريعة: 24/426.

( 18 )

وقد ألّف في غير واحد من الموضوعات: النقلية والعقلية، كما ألّف في أُصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيد الأمين في «أعيان الشيعة» نشير إليها:

1. النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضى.

2. غاية الوصول و إيضاح السبل في شرح مختصر منتهى الوصول لابن الحاجب.

3. «مبادئ الوصول إلى علم الأُصول» مطبوع في ذيل المعارج للمحقّق.

4. «نهاية الوصول إلى علم الأُصول» في أربعة أجزاء. (1)

5. «تهذيب الوصول في علم الأُصول» صنّفه باسم ولده فخر الدين، و هو مطبوع.

وقد كتب عليه شروح و تعاليق مذكورة في أعيان الشيعة. (2)

12. عميد الدين الأعرجي (المتوفّـى عام 754 هـ)

عبد المطلب بن أبي الفوارس بن محمد بن علي الأعرجي الحسيني ابن أُخت العلاّمة الحلّي.

وصفه الشهيد الأوّل بقوله: السيد، الإمام، فقيه أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ في زمانه، عميد الحقّ و الدين، أبو عبد اللّه عبد المطلب بن الأعرج الحسيني.

كما وصفه غيره بقوله: درّة الفخر وفريد الدهر، مولانا الإمام الرباني وهو ابن أُخت العلاّمة الحلّي رحمه اللّه وقد ألّف كتباً كثيرة في الفقه وغيره، كما ألّف في أُصول الفقه كتابه «منية اللبيب في شرح التهذيب» (3) لخاله العلاّمة الحلي و قد فرغ منه في

1. نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ في قم المقدّسة.

2. أعيان الشيعة:5/404.

3. نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ في قم المقدّسة. وربما ينسب المنية لأخيه ضياء الدين الأعرجي والنقول في تهذيب الأُصول لعميد الدين.

( 19 )

الخامس عشر من رجب سنة 740هـ. (1)

13. ضياء الدين الأعرجي

هو السيد ضياء الدين عبد اللّه بن أبي الفوارس ابن أُخت العلاّمة الحلّـي فقدشرح كتاب تهذيب الأُصول لخاله وأسماه «النقول في تهذيب الأُصول»، و قام الشهيد بالجمع بين الشرحين و أسماه «جامع البين الجامع بين شرحي الأخوين» .

14. فخر المحقّقين (682 ـ 771هـ)

هو محمد بن الحسن نجل العلاّمة الحلّـي، فقدشرح تهذيب والده و أسماه «غاية السؤول في شرح تهذيب الأُصول».

كان الأمل أن يواكب التأليفُ تقدّمَ العصر و لكن الركب توقف عن متابعة هذا التطور و أخلد إلى الركود، فلا نكاد نعثر على تصانيف أُصولية بعد شيخنا عميد الدين إلاّ ما ندر كمقدّمة المعالم للمحقّق الشيخ حسن صاحب المعالم، نجل الشهيد الثاني (المتوفّـى 1011 هـ). قد صار محور الدراسة قرابة أربعة قرون وعكف عليه العلماء بالتعليقة والشرح.

نعم انصبّت الجهود على تدوين القواعد الفقهية و تنظيمها بشكل بديع نستعرض بعضها:

1. محمد بن مكي المعروف بـ«الشهيد الأوّل» (734ـ786هـ) قد ألّف كتاب «القواعد والفوائد» و قد استعرض فيه 302 قاعدة، و مع الاعتراف بفضله وتقدّمه في التأليف، لم يفصل القواعد الفقهية عن الأُصولية أو العربية، كما لم

1. السيد الخوانساري: روضات الجنات: 261.

( 20 )

يرتِّب القواعد الفقهية على أبواب الفقه المشهورة ممّا حدا بتلميذه المقداد عبد اللّه السيوري بترتيب تلك القواعد كما سيوافيك.

2. الفقيه المتبحر و الأُصولي المتكلّم مقداد بن عبد اللّه السيوري (المتوفّـى 826هـ) من أكابر رجال العلم والتحقيق، فقد قام بترتيب كتاب القواعد لشيخه الشهيد و سمّاه بـ «نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية» و قد طبع محقّقاً عام (1404هـ).

3. الشيخ الأجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد المعروف بـ«الشهيد الثاني» (911ـ966هـ)، ولد في عائلة نذرت نفسها للدين والعلم، و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات و من آثاره كتابه:«تمهيد القواعد» جمع في هذا الكتاب بين فني تخريج الفروع على الأُصول و تخريج الفروع على القواعد العربية، و هو كتاب قلّ نظيره عظيم المنزلة ، طبع مرّة مع كتاب الذكرى للشهيد الأوّل، كما طبع أخيراً محقّقاً في مشهد الإمام الرضا استعرض المؤلِّف فيه مائتي قاعدة و فرغ منها في مستهل عام 958هـ.

***

عصر النكسة والركود

ظهرت الأخبارية في أواخر القرن العاشر و بداية القرن الحادي عشر على يد الشيخ محمد أمين الاسترابادي (المتوفّـى1033 هـ) فشنَّ حملة شعواء على الأُصول و الأُصوليّين و زيّف مسلك الاجتهاد المبني على القواعد الأُصولية، و زعم انّ طريقة أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ وأصحابه تخالف ذلك المسلك، فممّـا قاله في ذم الاجتهاد:

( 21 )

وأوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة ـ عليهم السَّلام ـ واعتمد على فن الكلام، وعلى أُصول الفقه المبنيّين على الأفكار العقلية المتداولة بين العامة، محمد بن أحمد ابن الجنيد العامل بالقياس، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، و لما أظهر الشيخ المفيد حسنَ الظن بتصانيفهما بين أصحابه ـ منهم السيد الأجل المرتضى، و شيخ الطائفة ـ شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا، حتى وصلت النوبة إلى العلاّمة الحلّي، فالتزم في تصانيفه أكثرَ القواعد الأُصولية من العامة، ثمّ تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي ـ رحمهم اللّه تعالى ـ . (1)

أقول: الأخبارية منهج مبتدع، و لم يكن بين علماء الشيعة إلى زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الأُصولي و الأخباري حتى يكون لكل منهج مبادئ مستقلة يناقض أحدهما الآخر، بل كان الجميع على خطّ واحد، و كان الاختلاف في لون الخدمة و كيفية أداء الوظيفة.

يقول شيخنا البحراني: إنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المجتهدين والمحدّثين مع أنّه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف و لم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف و إن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل. (2)

والعجب انّ الشيخ الاسترابادي رحمه اللّه استدلّ على انقسام علماء الإمامية إلى أخباريّين و أُصوليّين بأمرين:

1. ما ذكره شارح المواقف، حيث قال:

كانت الإمامية أوّلاً على مذهب أئمّتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّب متأخّروهم إلى المعتزلة وإلى الأخباريين، و ما ذكره الشهرستاني في أوّل

1. الفوائد المدنيّة: 44، الطبعة الحجريّة.

2. الحدائق الناضرة: 1/167ـ170، المقدمة الثانية عشرة.

( 22 )

كتاب الملل و النحل: من أنّالإمامية كانوا في الأوّل على مذهب أئمّتهم في الأُصول ثمّاختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتى تمادى بهم الزمان، فاختارت كلّفرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية و إمّا تفضيلة، بعضها أخبارية مشبِّهة و إمّا سلفية.

2. ما ذكره العلاّمة في «نهاية الوصول إلى علم الأُصول» عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد، فقال:

أمّا الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أُصول الدين و فروعه إلاّ على أخبار الآحاد، و الأُصوليّون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى و أتباعه.

لكن كلا الشاهدين أجنبيان عمّا يرومه الأمين.

أمّا الشاهد الأوّل: فقد نقله بالمعنى، ولو نقل النصّ بلفظه لظهر للقارئ الكريم ما رامه شارح المواقف، و إليك نصه:...و تشعب متأخّروهم إلى «المعتزلة»: إمّا وعيدية أو تفضيلية (ظ.تفضلية) و إلى «أخبارية» يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة، وهؤلاء ينقسمون إلى «مشبّهة» يجرون المتشابهات على أنّ المراد بها ظواهرها، و «سلفية» يعتقدون أنّ ما أراد اللّه بها حقّبلا تشبيه كما عليه السلف و إلى ملتحقة بالفرقة الضالة».

وبالتأمل في نصّ كتاب المواقف يظهر فساد الاستنتاج، و ذلك لأنّ مسلك الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلاّ مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلاً، و لزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الاسناد، وعلاج التعارض بالحمل على التقية وغيرها ثانياً، وعدم حجّية العقل في استنباط الأحكام ثالثاً.

( 23 )

وما ذكره شارح «المواقف» و «الشهرستاني» من تقسيم الشيعة إلى أخبارية وغيرها راجع إلى المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلى ما ذكراه فالشيعة تشعّبت في تفسير الصفات الخبرية كاليد والاستواء والوجه وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار بل الآيات إلى طوائف ثلاث:مشبِّهة، و سلفية، و ملتحقة بالفرق الضالة.

والحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلى المسلك الذي ابتدعه الاسترآبادي عجيب جداً مع اختلافهما في موضوع البحث، فأين العمل بظواهر الأخبار في صفاته سبحانه، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الاسترآبادي في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، مضافاً إلى أنّمسلكه مبني على أسس و قوائم لم تكن معروفة عند غيره.

وأمّا الشاهد الثاني أعني ما ذكره العلاّمة، فهو أيضاً لا يمتُ بصلة إلى مسلك الأخبارية المبتدَع، بل هو راجع إلى مسألة خلافية بين علماء الإمامية منذ زمن بعيد، وهو هل الخبر الواحد حجّة في الأُصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدّثون و الذين سبروا غور الأخبار، ذهبوا إلى القول الأوّل، و الأُصوليون الذين حكَّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.

فالأخباري في كلام العلاّمة هو ما يمارس الخبر و يدوّنه شأن كل محدّث، لا من يسلك مسلك الأخباريّين في استنباط الأحكام الشرعية.

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب والسنّة وإجماع الأصحاب الأوائل شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين، و أضحت تلك البرهة فترة ركود الأُصول و تألق نجم الأخبارية، فترى أنّأكثر مؤلّفاتهم تعلو عليها صبغة الأخبارية، وهم بين متطرِّف كالأمين الاسترابادي، و معتدل كالشيخ يوسف البحراني (المتوفّـى 1186هـ) صاحب الحدائق الناضرة.

( 24 )

ومن سوء الحظ انّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر على نطاق المحافل العلمية، بل تسرّب إلى الأوساط العامة والمجتمعات، فأُريقت دماء طاهرة و هتكت أعراض من جرّاء ذلك، و قتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الأخباري (1178ـ1233هـ) لمّا تجاهر بذمِّ الأُصوليين قاطبة و النيل منهم، فلقي حتفه عند هجوم العامة عليه عن عمر يناهز 55 عاماً.

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأمين الاستر ابادي وأتباعه على الحركة الأُصولية، نرى أنّهناك من أخذ بزمام الحركة بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الأخبارية و تذود عن كيانها و قاموا بمحاولات:

15. الفاضل التوني (المتوفّـى 1071 هـ)

هو عبد اللّه بن محمد التوني البشروي. وصفه الحر العاملي بقوله: عالم، فاضل، ماهر، فقيه، صنّف «الوافية» في أُصول الفقه فرغ منها عام 1059 هـ، وقد طبعت وانتشرت وله حاشية على معالم الأُصول.

16. حسين الخوانساري (المتوفّـى 1098 هـ)

هو المحقّق الجليل السيد حسين بن محمد الخوانساري مؤلّف كتاب «مشارق الشموس في شرح الدروس» وكتابه هذا يشتمل على أغلب القواعد الأُصولية والضوابط الاجتهادية، طرح فيه أفكاراً أُصولية بلون فلسفي.

17. محمد الشيرواني (المتوفّـى 1098هـ)

هو محمد بن الحسن الشيرواني.

له تعاليق على «المعالم» ومصنّفات جمة، مثل حاشية على «شرح المطالع»

( 25 )

وأُخرى على «شرح المختصر» للعضدي.

18. جمال الدين الخوانساري (المتوفّـى عام 1121 هـ أو 1125)

هو المحقق الكبير جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري، له تعليقة على شرح مختصر الأُصول للعضدي كما هو مذكور في ترجمته.

و هذه الكتب ـ المؤلفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية على المدرسة الأُصولية ـ مهّدت لظهور حركة أُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني(1118ـ 1206هـ) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الأُصول.

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى التي طواها علم الأُصول وحان استعراض المرحلة الثانية التي هي مرحلة الإبداع والابتكار.

المرحلة الثانية مرحلة الإبداع والابتكار

ابتدأت هذه المرحلة من عصر المحقّق البهبهاني وامتدت إلى يومنا هذا، مع ما لها من أدوار مختلفة، وإليك بيانها:

19. المحقق البهبهاني (1118 ـ 1206هـ)

كان للأُستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني دور فعال في إخماد نائرة الفتنة، بالرد القاطع على الأخباريين، وتزييف أفكارهم، و تربية جيل من العلماء و المفكّرين على أُسس مستقاة من الكتاب والسنّة و العقل الصريح، واتّفاق الأصحاب، و استطاع أن يشيِّدَ للأُصولِ أركاناً جديدةً، و دعامات رصينة، فنهض بالأُصول من خموله الذي دام قرنين، مذعناً بانتهاء عصر الركود وابتداء عصر التطور والابتكار.

( 26 )

وبلغت تصانيفه 103 ما بين رسائل مختصرة و كتب مفصّلة، منها: الرسائل الأُصولية، إبطال القياس; إثبات التحسين و التقبيح العقليين; الاجتهاد و التقليد، والفوائد الحائرية، و غيرها.

وبذر البذرة الأُولى لهذه المرحلة التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتى أينعت و أثمرت ثمارها على أيدي أساطين من العلماء في غضون الأدوار: وبها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الأُولى:

الدور الأوّل: (دور الانفتاح)

ابتدأ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني وفي طليعتهم:

20. جعفر كاشف الغطاء (1156ـ 1228هـ)

هو الشيخ الأكبر جعفر بن خضر بن يحيى النجفي المعروف بكاشف الغطاء، تلمّذ عند: الشيخ محمد مهدي الفتوني، و المحقّق البهبهاني.

قال عنه شيخنا الطهراني :وهو من الشخصيات العلمية النادرة المثيل، وانّ القلم لقاصر عن وصفه وتحديد مكانته و إن بلغ الغاية في التحليل، وفي شهرته وسطوع فضله غنى عن إطراء الواصفين.

ومن جملة تصانيفه «كشف الغطاء»، و «غاية المأمول في علم الأُصول».(1)

21. أبو القاسم القمي (1151ـ 1231هـ)

هو أبو القاسم محمد حسن الجيلاني القمي، تلمّذ عند: المحقّق البهبهاني، والشيخ محمد مهدي الفتوني، و محمد باقر الهزار جريبي.

1. الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة:1/248 برقم 506.

( 27 )

حطّ الرحال في قم، وعكف فيها على التدريس و التصنيف حتى أصبح من كبار المحقّقين وأعاظم الفقهاء المتبحّرين، واشتهر أمره وطار صيته ولقب بالمحقّق القمي.

من تصانيفه الأُصولية «القوانين».

22. السيد علي الطباطبائي (1161ـ1231هـ)

هو السيد علي بن محمد بن علي الطباطبائي، يعرفه الرجالي الحائري بقوله: ثقة، عالم، جليل القدر، وحيد العصر، ومن تآليفه في الأُصول: «رسالة في الإجماع والاستصحاب»، وتعليقة على معالم الدين، وتعليقة على مبادئ الوصول إلى علم الأُصول.(1)

الدور الثاني: (دور النضوج)

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خرّيجي مدرسة البهبهاني، فقاموا بوضع صياغة جديدة للأُسس الأُصولية من منظار جديد وعلى رأسهم:

23. محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني (المتوفّى 1248هـ)

هو محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني عالم جليل، محقّق، له: «شرح الوافية»، و «شرح طهارة الوافي» من تقرير أُستاذه بحر العلوم، و «حاشية على المعالم».(2)

24. شريف العلماء (المتوفّـى 1245 هـ)

هو الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء،

1. راجع ترجمته في مقدّمة كتاب «رياض المسائل» الذي طبع عام 1412هـ.

2. أعيان الشيعة:9/198.

( 28 )

و كفى به فخراً انّ الشيخ مرتضى الأنصاري ذلك النجم اللامع في سماء الأُصول، ممّن استسقى من فيّاض علمه، و قد بقيت من آثاره العلمية رسالة «جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء الشرط».

25. محمد حسين بن عبد الرحيم الاصفهاني (المتوفّى 1261هـ)

الفقيه الأُصولي الشهير، أخذ عن أخيه الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، وعن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، قطن كربلاء فرحل إليه الطلاب.

له مؤلفات في الأُصول، منها: «الفصول» وهو من كتب القراءة في هذا الفن، أورد فيه مطالب القوانين وحلّها واعترض عليها، وهو مشهور.(1)

الدور الثالث: (دور التكامل)

بلغ فيه علم الأُصول الذروةَ في التحقيق والتعميق و البحث و تطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق، و يُعتبر الشيخ مرتضى الأنصاري هو البطل المِقْدام في هذا الحقل حيث استطاع بعقليّته الفذّة أن يشيّد أركاناًجديدة لعلم الأُصول بلغ بها قمةَ التطور و التكامل.

وأنت إذا قارنت المؤلفات الأُصولية في هذه البرهة مع ما ألّف في المرحلة الأُولى وحتى مستهلّالمرحلة الثانية تجد بينهما بوناً شاسعاً يُتراءى في بادئ النظر كعلمين، وما هذا إلاّ بفضل التطور والتكامل الذي طرأ على بِنْية الأُصول بيد هذا العبقري الفذّ ولم يزل ينبوعه فيّاضاً إلى يومنا هذا.

1. أعيان الشيعة:9/233.

( 29 )

26. مرتضى الأنصاري (1214ـ 1281هـ)

هو مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري، مؤسس النهضة الأُصولية المعاصرة، قرأ أوائل عمره على عمّه الشيخ حسين من وجوه علماء دزفول، ثمّمكث في كربلاء و تلمّذ عند السيد محمد المجاهد و شريف العلماء، ثمّ عزم على الطواف في البلاد للقاء علمائها، فخرج إلى خراسان مارّاً بكاشان حيث فاز بلقاء النراقي صاحب المناهج وتلمذ عنده نحو ثلاث سنين، ثمّ إلى إصفهان، ثمّ إلى دزفول، ومنها إلى النجف، فحط الرحال فيها، وقد انتهت الرئاسة العلمية فيها آنذاك إلى الشيخ علي بن الشيخ جعفر وصاحب الجواهر، فتلمذ عندهما إلى أن انتهت إليه الرئاسة الإمامية العامة بعد وفاتهما، وكان مجلس درسه يغص بالفقهاء، وقد تخرّج به أكثر الفحول من بعده، مثل: الميرزا الشيرازي، والميرزا الرشتي، والسيد حسين الكوهكمري، والمامقاني، والخراساني. وقد ذاع صيته و انتشرت آثاره في الآفاق.

أمّا مصنّفاته الأُصولية فيعد كتابه «فرائد الأُصول» من أهم الكتب الأُصولية التي عوّل عليها قاطبة الأُصوليين من الإمامية في كلّ زمان و مكان، وهذا الكتاب يضم في طياته خمس رسائل أُصولية هي:

1. أحكام القطع.

2.رسالة حجّية الظنّ.

3. أصل البراءة والاشتغال.

4. الاستصحاب.

5. التعادل والترجيح.

وقد طبعت مراراً، وعلق عليها مشاهير العلماء بعده، أخص منهم بالذكر:

( 30 )

موسى التبريزي، والشيخ حسناً الآشتياني، و الشيخ محمدحسن المامقاني، والشيخ محمد كاظم الخراساني، والشيخ محمد رضا الهمداني.(1)

إنّ عصر الشيخ الأنصاري كوّن منعطفاً رائعاً في تاريخ علم الأُصول، وقد تخرّج في مدرسته مئات المحقّقين، وأُلّفت عشرات الكتب في الأُصول التي تحمل في طياتها الفكر الأُصولي الذي صاغه الأنصاري، وهذه الكتب بين تأليف مستقل أو تعليقة أو تحشية على فرائد الشيخ الأنصاري، أو على كفاية الأُصول لتلميذه المحقّق الخراساني، أو بين تقرير يمليه الأُستاذ ويكتبه التلميذ أثناء الدرس أو خارجه.

وبما انّ الإفاضة في هذا المجال على ما هو حقّه تورث الإطناب، فلنقتصر على سرد أسماء المشاهير من الأُصوليين في هذا العصر اعتماداً على ما فصلنا ترجمتهم وترجمة تلاميذهم إلى نهاية القرن الرابع عشر في آخر موسوعة طبقات الفقهاء.

و خرج من مدرسته العديد من الفطاحل و العباقرة، و أخص بالذكر منهم:

27. السيد المجدّد الشيرازي (1224ـ 1312هـ)

هو السيد محمد حسن بن محمود بن إسماعيل الحسيني الشيرازي، كان فقيهاً، عالماً، ماهراً، محقّقاً، مدقّقاً، ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في عصره، وطار صيته واشتهر ذكره ووصلت رسائله التقليدية وفتاواه إلى جميع الأصقاع.

من مؤلّفاته الأُصولية : رسالة في اجتماع الأمر والنهي، وتلخيص إفادات

1. أعيان الشيعة:10/117ـ 118.

( 31 )

أُستاذه الأنصاري، ورسالة في المشتق.(1)

28. محمد كاظم الخراساني (1255 ـ 1329هـ)

هو المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني الهروي، مؤلّف كتاب «كفاية الأُصول» و يُعدّ كتابه هذا محور البحوث الأُصولية في الحوزات العلمية إلى يومنا هذا.

وقد تخرّج على يديه، نخبة من رجال الفكر والعلماء البارعين في علم الأُصول .

29. الميرزا حسين النائيني (1274ـ1355هـ)

المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني له محاضرات قيّمة في الأُصول وقد دوّن آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي (1309ـ 1365هـ) و قد نشرت باسم «فوائد الأُصول»، كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيد أبوالقاسم الخوئي ونشرت باسم «أجود التقريرات».

30. عبد الكريم الحائري (1274 ـ 1355هـ)

هو الشيخ الكبير عبد الكريم بن محمد جعفر الحائري اليزدي مؤسس الحوزة العلمية في قم المحمية، وشيخنا هذا ضمّ إلى عمله وفقهه الجمّ حصافة في العقل ودراية في الحياة، مؤلّف كتاب «درر الفوائد» و كان محوراً لمحاضراته التي كان يلقيها على طلاب الحوزة العلمية، و تخرج على يديه نخبة من الفطاحل وجيل من الأعاظم لو قام باحث بتدوين أسمائهم وسيرتهم لخرج بكتاب مفرد كبير.

1. أعيان الشيعة:5/304.

( 32 )

31.ضياء الدين العراقي (1278ـ1361هـ)

الأُستاذ الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي صاحب كتاب «المقالات في علم الأُصول» وقد دون أفكاره العلاّمة الحجّة الشيخ محمد تقي البروجردي و نشرها تحت عنوان «نهاية الأفكار» طبعت في ثلاثة أجزاء، والعالم البارع الشيخ هاشم الآملي (1322ـ1412هـ) في كتاب «بدائع الأفكار».

32. محمد حسين الاصفهاني (1296ـ1361هـ)

المحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين الإصفهاني من أعاظم تلاميذ المحقّق الخراساني، وقد تخرّج عليه طليعة من العلماء، منهم: المحقّق العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (1321ـ1401هـ) والسيد المحقّق محمد هادي الميلاني (1313ـ1395هـ) ومن مصنفاته كتاب «نهاية الدراية في التعليقة على الكفاية» طبعت في أجزاء ثلاثة.

33. السيّد محمد الحجّة الكوهكمري(1301ـ 1372هـ)

أُستاذنا الكبير والفقيه البارع السيد محمّد الحجّة الكوهكمري تخرج على أعلام عصره في النجف الأشرف كالسيد الطباطبائي اليزدي وشيخ الشريعة الاصفهاني والمحقّق النائيني. لعب دوراً كبيراً في تنشيط حوزتي النجف وقم وتخرّج على يده العديد من الفقهاء والمجتهدين. ودوّن غير واحد من تلاميذه آراءه و أفكاره وأخصّ بالذكر سماحة آية اللّه الحاج علي الصافي الكلبايكاني فقد نشر ما تلقى عنه تحت عنوان «المحجة في تقريرات الحجّة»

( 33 )

34. السيد حسين البروجردي (1392ـ 1380هـ)

هو السيد حسين البروجردي الطباطبائي سيد مشايخنا العظام تخرج على أعلام عصره في النجف الأشرف وتردد كثيراً إلى أندية دروس المحقّق الخراساني ونال منه إجازة الاجتهاد (عام 1328هـ) ، و للسيّد البروجردي دور كبير في تنقيح مباني الاجتهاد وأُصول الفقه والرجال، وقد حضرنا درسه سنين طوالاً وكتبنا شيئاً من تقريراته وله تعليقة على كفاية الأُصول في جزأين لم تر النور.

35. السيّد روح اللّه الموسوي الخميني(1320ـ 1409هـ)

المجاهد الكبير قائد الثورة الإسلامية المباركة والذاب عن حياض الإسلام بقلمه ولسانه وما أُوتي من حول وقوة السيّد روح اللّه بن السيد مصطفى الخميني فقد ربى جيلاًكبيراً في الجامعة الإسلامية ودرّس الأُصول دورة بعد دورة. وقد برز بقلمه الشريف «مناهج الوصول إلى علم الأُصول» في المباحث اللفظية ، و «الرسائل» في المباحث العقلية، إلى غير ذلك و قد قمنا بتدوين محاضراته الأُصولية ونشرناها تحت عنوان «تهذيب الأُصول» عام 1375ـ 1383.وله على الإسلام والمسلمين أياد بيضاء تشكر.

36. السيدأبو القاسم الخوئي(1317ـ 1411هـ)

هوالسيّد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي أحد المراجع العظام و زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف.تخرج على يديه جيل كبير من الفضلاء والمحقّقين، وقد ألقى محاضرات في الأُصول سنين عديدة حتى تجاوزت دوراته عن الخمس. ودوّنت آراؤه عن طريق تلامذته وانتشرت بعنوانات مختلفة، وقد تألّق نجمه في علم الأُصول منذ شبابه إلى أوان رحيله.

( 34 )

هذه إلماعة عابرة إلى تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية وقد اقتصرنا في ذلك على أعلام العصر في كلّ قرن، ولو قمنا بترجمة كلّ من له دور في تنشيط هذا العلم لأحوج الأمر إلى تأليف مفرد.

وفي الختام أرفع أسمى آيات الاعتذار إلى المشايخ الّذين لعبوا دوراً فعالاً في تصعيد نشاط الحركة الأُصولية ولم أُوفق لذكر أسمائهم وتقدير جهودهم والعذر عند كرام الناس مقبول.

***

ثمّ إنّ كتابنا هذا يشتمل على مقدمة ومقاصد، والمقدّمة على أُمور ،وإليك الخوض فيها واحداً تلو الآخر: