( 64 )
إنّ ألفاظ الصلاة والصوم والزكاة والحجّ كانت حقائق لغوية في الدعاء والإمساك والنمو والقصد، غير انّ المتبادر منها في عصر الصادقينعليمها السَّلام بل قبله أيضاً هو المعاني الخاصة، فيقع الكلام في كيفية كونها حقائق في هذه المعاني الثانية، فهناك أقوال أربعة:
القول الأوّل: ذهب أبو بكر الباقلاني (المتوفّى403هـ) من أكابر الأشاعرة إلى نفي موضوع البحث، وهو انّ هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغويّة وقد استعملت فيها وطُبِّقت على مصاديق، كشف عنها الشارع، فالصلاة بالهيئة المخصوصة من مصاديق الدعاء، والصوم بالنحو المعين من مصاديق الإمساك وأمّا سائر الخصوصيات فقد علمت من دوال أُخر، فهذه النظرية لا تعدّ في الحقيقة قولاً في المسألة لأنّها نافية للموضوع من أساسه.
مضافاً إلى أنّ ادّعاء بقاء الألفاظ في نفس المعاني وانّ المصاديق الفعلية من جزئياتها، من السخافة بمكان، إذ أين الدعاء من الصلاة؟ واشتمالها على الدعاء لا يجعلها من مصاديق الدعاء. ومثلها سائر الألفاظ.
القول الثاني: إنّما نقلت في لسان النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من معانيها اللغوية إلى المعاني
( 65 )
الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني فصارت حقائق في تلك المعاني في عصره.
ثمّ إنّ صيرورتها حقائق شرعية في لسانه يتصوّر لها وجوه ثلاثة:
أ: أن يقوم الشارع بوضعها لها بالوضع التعييني ويخبر الناس بها، وهو بعيد جداً.
ب: حصول الوضع التعيّني بكثرة الاستعمال في عصر الرسول، وهو أمر غير بعيد لطول زمان الرسالة.
ج: الاستعمال بداع الوضع كما إذا احتفلت الأُسرة بتسمية المولود الجديد والكل ينظرون إلى كبيرهم، فإذا هو يقول: إئتوني بولدي الحسن، فهو بنفس هذا الاستعمال يسمّيه حسناً، ولعل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ عندما قال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي، قام بنفس هذا العمل.
وبالجملة انّ القول الثاني على الوجهين الأخيرين أمر قريب لو لم يكن هناك وجه أصح.
القول الثالث: إنّها استعملت في لسان النبي في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق فيها في لسان المتشرّعة بعد رحيل الرسول، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.
يلاحظ عليه: أنّ عصر الرسالة لم يكن عصراً قصيراً، فقد كان المسلمون في المدينة المنوّرة يصلّون مع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في أوقات خمسة والمؤذِّن ينادي في كلّ نهار و ليل بقوله: (حيّ على الصلاة) فهل يمكن لنا عدّ هذه الاستعمالات مجازاً مع طول الزمان؟
فتحصّل من ذلك إنّ القول الأوّل لا يعتدّ به، والقول الثاني أي كونها حقائق شرعيه في عصره أقرب من القول الثالث، ولكنّ هناك قولاً رابعاً هو أقوى
( 66 )
الأقوال وأسدِّها بل هو المتعيّن، وإليك بيانه.
القول الرابع: إنّ هذه الألفاظ كما كانت حقائق في المعاني اللغوية كذلك كانت حقائق في هذه المعاني الشرعية أيضاً قبل بعثة النبي ونزول القرآن عليه، وذلك لأنّ هذه العبادات لم تكن من ابتكارات الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، بل كانت موجودة في الشرائع السابقة، و من البعيد جدّاً أن لا يكون في لغة العرب لفظ يعبر عن هذه المعاني وقد كان في الجاهليّة حنفاء يصلّون و يحجّون .
و يشهد على ذلك أي كون تلك الحقائق موجودة في الشرائع السابقة الآيات التالية:
قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).(1)
وقال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعلى كُلِّ ضامِر يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق) .(2)
وقال تعالى: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتاني الكِتاب وَجَعَلني نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي مُباركاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً).(3)
وقال تعالى: (وَاذْكُر فِي الكِتابِ إِسْماعِيل إِنَّهُ كانَصادِقَ الوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيّاً* وَكانَ يَأْمُرُ أَهلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً).(4)
نعم وجود تلك الماهيات قبل البعثة غير كاف إلاّ إذا انضمّ إليه أنّ العرب قبل عصر الرسالة كانت عارفة بها و كانت تعبّر عنها بهذه الألفاظ، إذ من البعيد
1. البقرة:183.
2. الحج:27.
3. مريم:30ـ31.
4. مريم:54و55.
( 67 )
أن لا يكون لها لفظ تشير به إليها.
ويؤيد ذلك انّ النبي كان يعبّر عن هذه الماهيات بهذه الألفاظ في بدء البعثة، وذلك لأنّ لفظ الصلاة ورد في السور المكية 35 مرة، و كان تشريع الصلاة ليلة المعراج في العام العاشر من البعثة وقد نزلت كثير من الآيات المشتملة على هذه الألفاظ في أوائل البعثة قبل المعراج، كقوله سبحانه في سورة القيامة: (فَلاصَدَّقَ وَلا صَلّى * وَلكن كَذَّبَ وَتَولّى)(1). وفي سورة المدثر (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين)(2)، و في سورة العلق(أَرَأَيْتَ الّذي يَنهى * عَبداً إِذا صَلّى)(3)) و في سورة الأعلى(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى) (4) ، و في سورة الكوثر:(إِنّا أَعْطَيْناكَ الكَوثَر* فَصَلِّ لَرَبِّكَ وَانْحَر) (5) إلى غير ذلك من الآيات الواردة في بدء البعثة، الشاملة للصلاة والزكاة الحاكية عن تبادر المعاني الشرعية منها منذ صدع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بالرسالة.
وأمّا الثمرة فتظهر في الألفاظ الواردة على لسان النبي بلا قرينة، كما إذا قال: إذا رأيتم الهلال فصلّوا، فعلى القول الثاني يحمل على الحقيقة المعروفة بخلافه على القول الثالث.
وأمّا على القول الرابع فالثمرة معدومة، لأنّها تحمل على الماهية الشرعية على كلّ حال وإنّما طرحنا المسألة لأجل إيقاف القارئ على سير التشريع على وجه الإجمال.
1. القيامة:31و32.
2. المدثر:43.
3. العلق:9و10.
4. الأعلى:15.
5. الكوثر:1و2.
( 68 )
موضوعة للصحيح أو للأعم؟
ويقع الكلام في مقامين: الأول في اسماء العبادات:
وقبل الخوض في المقصود، نقدم أُموراً:
الأوّل: في إمكان جريان النزاع على عامّةالآراء
إنّ عنوان البحث يعرب عن أنّ الهدف تعيين ما هو الموضوع له لأسماء العبادات عند الشارع فيصح البحث على أحد المبنيين:
أ: ثبوت الحقيقة الشرعية في لسان الشارع(القول الثاني) في المبحث السابق.
ب: ثبوت الحقيقة العرفية لهذه الألفاظ في الماهيات الشرعية قبل البعثة(القول الرابع).
وأمّا على القول باستعمالها في لسان الشارع مجازاً وصيرورتها حقائق متشرعة فلا ينطبق عليه عنوان البحث. إلاّإذا تغيّر عنوانه بأن يقال:هل لاحظ الشارع في استعماله، العلاقة بين المعاني اللغوية، والماهيات الشرعية الصحيحة أو لاحظ العلاقة بينها و بين الأعمّ من هذه الماهيات.
( 69 )
كما أنّه يجب تغيير عنوان البحث على القول ببقاء الألفاظ على معانيها اللغوية وانّ إرادة الخصوصيات حصلت عن طريق الدوال الأُخر،(كما هو خيرة الباقلاني (1)) بأن يقال: انّ القرينة التي نصبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالّة على إرادة المعنى الصحيح أو الأعمّ ويكون الأصل في الاستعمال هو المعنى الذي نُصِبت عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث تحتاج إرادة المعنى الآخر إلى القرينة.
فتلخّص من ذلك انّ عنوان البحث إنّما يصحّ على القولين الأوّلين دون الأخيرين إلاّ بتغيير عنوانه.
الثاني: في تفسير الصحّة لغة وشرعاً
قد تطلق الصحّة ويراد بها أحد المعنيين:
1. ما يقابل السقم والمرض، فيقال: صحيح ومريض. وعلى هذا فهما أمران وجوديّان، وكيفيّتان عارضتان للشيء باعتبار اتّصافه بكيفية ملائمة أو منافرة.
فالصحيح بهذا المعنى يقابله في العبادات والمعاملات الفاسد.
2. ما يقابل المعيب، فيقال: صحيح و معيب، وعلى هذا تكون الصحة أمراً وجودياً و ما يقابلها أمراً عدمياً. والصحّة بهذا المعنى يقابلها النقص لا الفساد، هذا هو تفسير الصحّة حسب اللغة.
وأمّا حسب الاصطلاح، فالصحّة تارة تقع وصفاً للعبادة أو المعاملة
1. هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف بـ«ابن الباقلاني» وليد البصرة، وساكن بغداد، متكلم على مذهب أبي الحسن الأشعري معاصر للشيخ المفيد، توفي عام 403هـ و له كتاب «اعجاز القرآن» و«التمهيد» و «الانصاف» لاحظ ترجمته في كتابنا «بحوث في الملل والنحل»:2/311ـ314.
( 70 )
المتحقّقة، فتكون نتيجة الصحّة كون العمل الخارجي مطابقاً لما اعتبره الشارع فيهما و يترتب عليه إسقاط القضاء والإعادة في العبادات، و لزوم الوفاء في المعاملات; وأُخرى تقع وصفاً للعنوان الكلّي منهما ،فيقال: ألفاظ العبادات و المعاملات وضعت للصحيح منهما فيكون مفادها في العبادات كون ألفاظها موضوعاً لما تمّت أجزاؤها وكملت شروطها، و في المعاملات ـ على القول بوضعها للأسباب ـ (العقود) كون ألفاظها موضوعة للأسباب الحاوية لتمام الأجزاء والشرائط.
وأمّا على القول بوضع ألفاظها للمعاني المسببية كالملكية والزوجية فيرجع النزاع إلى كونها موضوعة للماهية الاعتباريّة بحيث لو وجدت في الخراج لَوُصِفَت بالصحة شرعاً.(1)
الثالث:لزوم وجود جامع على القولين
يجب على كلّ من القولين تصوير جامع منطبق على الأفراد المختلفة، فعلى الصحيحي أن يصور جامعاً شاملاً لجميع أفراد الصلاة على اختلافها في الأجزاء والشرائط قلّة وكثرة.
أقول: انّ تصوير الجامع على القول بالصحيح أمر مشكل، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء القليلة هو جواز الاكتفاء بها أوّلاً، و كون الأجزاء الأُخر أمراً
1. ومن ذلك يعلم ضعف ما ربما يقال من عدم إمكان تصوير النزاع على القول بأنّ المعاملات موضوعة للمسببات، وذلك لأنّها من الأُمور البسيطة التي يدور أمرها بين الوجودوالعدم فلا يتأتى على هذا الفرض النزاع السابق، لأنّ الملكية إمّا موجودة أو غير موجودة، والزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، فلا معنى للزوجية أو الملكية الفاسدتين.
وجه الضعف فإنّ المتصوّر الذهني للمسبب وإن كان أمره دائراً بين الوجود والعدم، لكن الكلام في أمر آخر، وهو:هل ذلك المعنى البسيط ـ بعد الاتيان به ـ على نحو ينطبق عليه عنوان الصحيح شرعاً، أو ينطبق عليه الأعم منه ومن الفاسد.
( 71 )
خارجاً عنها ثانياً، كما أنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة خروج المشتمل على الأجزاء القليلة عن تحت الصلاة. فلا يكون للصحيح إلاّ مصداق واحد.
وأمّا على القول بالأعم فتصوير الجامع أمر سهل جدّاً إذ في وسعه أن يقول: بانّه موضوع للأركان، وأمّا الباقي فهو اجزاء للمأمور به وليست جزءاً للمسمى.
وبذلك يعلم أنّ الصحيحي لا محيص له إلاّ عن جعل الجميع جزء المسمّى وهو أمر غير ممكن في بادئ النظر لاختلاف الصحيح حسب اختلاف حالات المكلّف من حيث الأجزاء والشرائط، وهذا بخلافه على القول بالأعم، فالأجزاء الثابتة (الأركان)على كلّ حال من أجزاء المسمّى والباقي من أجزاء المأمور به.
وقد بذل القوم جهودهم لتصوير الجامع على القول بالصحيح الذي يصدق على جميع المراتب. وذكروا تقريبات حول تصوير الجامع أوضحها ما ذكره السيد الإمام الخميني، و هذا خلاصته:
المركبات الاعتبارية على قسمين:
قسم يكون الملحوظ فيه كثرة معينة، كعدد العشرة فإنّها على وجه لو فقد منها جزء تنعدم العشرة.
وقسم يكون على نحو لم تلحظ فيه كثرة معينة في ناحية المواد ولا صورة معينة في جانب الهيئة.
أمّا في جانب المواد فيصدق اللّفظ ما دامت هيئتها وصورتها موجودة قلّت موادها أو كثرت، وهذا نظير لفظ الدار والبيت، فانّ الميزان للصدق هي هيئة الدار وصورتها، وأمّا من حيث المادة، كيفية وكمية فهي لا بشرط، ولذلك يصدق البيت على ما أخذت موادها من الطين أو الآجر أو الحجر أو الحديد أو الاسمنت .
أمّا في جانب الهيئة فلم تلحظ هيئة معيّنة فيصدق سواء بُنيت على هيئة
( 72 )
مربعة أو مثلثة، بنيت على طبقة واحدة أو طبقات، فهو موضوع لهيئة مخصوصة غير معينة، فهو لا بشرط من جانب المادة والهيئة.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لفظ الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللا بشرط، الموجودة في الفرائض والنوافل قصرها و تمامها، وما وجب على الصحيح أو المريض بأقسامها، فيكفي في صدقها، وجود هيئة بمراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقى، لعدم وجود مواد من ذكر و قرآن و سجود و ركوع.(1)
استدلّ للقول بوضع أسماء العبادات للصحيح بوجوه:
1.تبادر الصحيح.
2. صحّة السلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزاء العبادة.
3. الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات كقوله: الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن ممّا يترتب على الصحيح.
وقد نوقشت هذه الأدلّة بوجوه لا حاجة لذكرها.
والأولى أن يستدلّ عليه بأنّ الصلاة ماهية اعتبارية، اعتبرها المعتبر لأغراض خاصة وردت في الكتاب والسنّة، وتلك الأغراض إنّما تترتّب على الصحيح منها دون الأعمّ.
1. تهذيب الأُصول: 1/77ـ78.
( 73 )
وإن شئت قلت: إنّ الشارع لمّا أراد تهذيب الإنسان وتربيته، من جانب، و من جانب آخر انّ ذلك الغرض، إنّما يترتب على العبادة الصحيحة. ومن المعلوم انّ الفعل يُتحدّد من ناحية العلة الغائية فلا يكون العمل أوسع من الغرض والغاية المحرِّسكة، و المعلول ـ الوضع ـ يتضيق من ناحية علته الغائية.
وبعبارة أُخرى : انّ طبيعة الحال تقتضي أن يضع اللّفظ لما تعلق به غرضه ويفي به وهو الصحيح لا الأعم، فانّ الداعي للاعتبار هو الداعي للوضع، فوضع اللفظ للأوسع من الغرض يحتاج إلى داع آخر غير موجود.
نعم الإتيان بما يتعلق به الغرض يقتضي وجود قسم آخر وهو الفاسد، فيطلق عليه الاسم(الصلاة) عناية. ومقتضى ذلك أن يكون الموضوع له هو ما يترتّب عليه الغرض، واستعماله في الفاسد من باب العناية والمجاز.
انّ العبادات من مخترعات الشارع فيصحّ فيها البحث عن انّ ألفاظها هل هي موضوعة في الشرع للصحيح أو للأعم منها، وأمّا المعاملات فهي من مخترعات العقلاء وهم الذين وضعوا ألفاظ المعاملات في مقابل ما اعتبروه بيعاً أو نكاحاً أو إجارة وليس للشارع فيها دور سوى تحديدها بحدود وقيود فعلى ذلك فلابدّ من تخصيص النزاع في كونها موضوعة للصحيح فحسب أو الأعم عند العرف .
ومع القول بامكان وضعها للأعم عند العرف لكن الدليل السالف الذكر
( 74 )
في ألفاظ العبادات هو الدليل أيضاً على انّ ألفاظ المعاملات عند العرف موضوعة للصحيح لما عرفت من انّ الغرض يُحدِّد فعل الإنسان فلا يصدر عن الإنسان الحكيم فعل أوسع من غرضه.وبما انّ المصالح التي تدور عليها رحى الحياة قائمة بالمعاملات الصحيحة وهم أيضاً قد اعتبروها لتلك الغايات فلابدّ أن يُحدَّد عملهم (وضع الألفاظ) بما يناسب الغاية وهو الوضع للقسم الصحيح دون الأعم.
إذا عرفت أنّ اسماء العبادات والمعاملات اسماء للصحيح منها لا للأعم، يقع الكلام في ثمرات النزاع.
ثمرات النزاع
قد ذكر للنزاع أربع ثمرات نذكرها، واحدة بعد الأُخرى:
الأُولى: عدم صحّة التمسّك بالإطلاق على الصحيح
قد اشتهر انّ ثمرة البحث هو عدم صحّة التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء على القول بالوضع للصحيح، وصحّة التمسك به على القول بالأعم.
توضيحها: انّه إنّما يصحّ التمسّك بالإطلاق فيما إذا أحرز صدق الموضوع على المورد و شك في مدخلية شيء آخر وراء صدقه، كما إذا أمر المولى بعتق رقبة، و شك في اعتبار الإيمان فيها، فحينئذ يتمسّك بالإطلاق في رفع احتمال اعتبار الإيمان، إذ لو كان الإيمان دخيلاً في غرض المولى ـ وراء صدق الرقبة ـ لكان اللازم ذكره و أمّا إذا لم يكن الموضوع محرزاً وصار الشكّ في مدخلية الأمر المشكوك سبباً للشكّ في صدق الموضوع فلا يصحّ حينئذ التمسك به، كما إذا أمر المولى بالتيمّم
( 75 )
على الصعيد وشكّ في معناه وأنّه هل هو خصوص التراب، أو مطلق وجه الأرض من الحجر والجص والنورة وغيرها؟ ففي مثله لا يمكن التمسّك بالإطلاق لدفع احتمال مدخلية التراب، ولا يصحّ لنا القول بأنّه لو كان التراب دخيلاً في صحّة التيمم كان على الشارع بيانه لاحتمال انّ الشارع قد بيّن مدخلية التراب في موضوع حكمه باستخدامه لفظ الصعيد.
ويتّضح على ضوء هذين المثالين : انّه لو شكّ في اعتبار السورة في صدق الصلاة، فعلى القول بالصحيح وأنّها موضوعة للماهية الجامعة للأجزاء والشرائط، يكون المورد من قبيل المثال الثاني، حيث يشكّ المصلي في أنّ ما أتى به هل هو صلاة أو ليس بصلاة؟ لانّها موضوعة للصحيحة والشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في صدق الموضوع.
وأمّا على القول الآخر أي وضعها للأعم من الصحيح فيكون من قبيل المثال الأوّل، لأنّ الموضوع (الصلاة) محرز بحكم كونها موضوعة للأعمّ، سواء أكانت السورة دخيلة في الفريضة أم لا، فإذا لم يدلّ على وجوبها دليل يُتمسك بالإطلاق وينفى وجوبه.
فصارت الثمرة عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته للعبادة على القول بالصحيح وجوازه على القول بالأعم.
نقد الثمرة في العبادات
لكن يمكن أن يقال بصحّة التمسّك على القول بوضعها للصحيح وذلك انّ لفظة الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللا بشرط الموجودة في الفرائض والنوافل قصرها و تمامها، وفي ما وجب على الصحيح أو المريض بأقسامها فيكفي في صدقها، وجودُ هيئة الصلائيّة بإحدى مراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون
( 76 )
صلاة كصلاة الغرقاء.
كما أنّها من حيث المادة لم تؤخذ فيها كثرة معينة بل أخذت لا بشرط، ويكفي فيها التكبير والركوع والسجود والطهور وتصدق على الميسور من كلّ واحد منها، و من المعلوم انّ هذا المقدار من الموضوع محرز عند الشكّ في جزئية شيء كالسورة أو شرطيته، فلا يكون الشكّ فيهما شكّاً في صدق الموضوع بل الموضوع محرز وإنّما الكلام في وجوب الجزء الزائد على الموضوع وهكذا الشرط.
هذا كلّه في العبادات، وأمّا المعاملات فربما يقال بنفس الثمرة و انّ التمسّك بالإطلاق إنّما هو على القول بالأعم دون الصحيح.
توضيح ذلك إذا قال الشارع: (أوفوا بالعقود)(1)، فلو قلنا بأنّ الألفاظ موضوعة للأسباب التامة من حيث اجتماع الأجزاء والشرائط، و مع ذلك شكّ في جزئية شيء أو شرطيته للأسباب، كتقدّم الإيجاب على القبول وعدمه، فعلى القول بالصحيح لا يصحّ التمسّك بالإطلاق لأنّ مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في صدق الموضوع.
ومن المعلوم انّ التمسّك بالإطلاق فرع إحراز الموضوع، بخلافه على القول بالأعم فانّ الإيجاب إذا تأخّر يتحقّق البيع أو النكاح قطعاً، وإنّما يشكّ في مدخلية التقدم في صحّته لا في صدقه وكونه جزءاً للمسمّى وعندئذ يتمسك بالإطلاق وتنفى شرطية التقدّم.
نقد الثمرة في المعاملات
ويمكن أن يقال بصحّة التمسّك بالإطلاقات حتى على القول بوضعها
1. المائدة:1.
( 77 )
للصحيح ويكفي في صحّة التمسّك إحراز الموضوع عرفاً، وذلك لأنّ المعاملات مخترعات عرفية، و قد أمضاها الشارع بما لها من المعنى العرفي، غير انّه أضاف شروطاً أو اعتبر موانع من الصحّة، فعلى ذلك فيمكن استكشاف ما هو المؤثر عند الشارع من خلال ما هو المؤثر عند العرف (إلاّ إذا دلّ الدليل على عدم التطابق). إذ لو كان المؤثر عنده غير ما هو المؤثر عند العرف لزمه البيان لئلاّ يلزم نقض الغرض ولغوية الأدلّة الإمضائيّة.
وبعبارة أُخرى: انّ أسماء المعاملات التي وقعت مورد الإمضاء سواء أكانت اسماً للسبب كما في قوله: (أوفوا بالعقود) أم كانت اسماً للمسبب أي العلقة الحاصلة من الايجاب والقبول كما في قوله سبحانه : (أحلّ اللّه البيع)(1) وقوله: «الصلح جائز بين المسلمين»(2) ألفاظ واضحة المعاني عند العرف غير انّ الشارع تصرّف فيها بإضافة قيد أو شرط أو غير ذلك، فإذا كان كذلك يكون الفهم العرفي في هذه الألفاظ طريقاً شرعياً إلى ما هو المعتبر عند الشارع إلاّما خرج وذلك أخذاً بمقتضى الإطلاق، إذ لو كان ما هو السبب المؤثر عنده غير ما هو المرتكز في أذهان العرف كما في بيع المنابذة(3)، أو كان المسبب المعتبر عنده غير المعتبر عند العرف كما في نكاح الشغار.(4)كان عليه البيان و إلاّ تلزم لغوية هذه الإمضاءات التي تصبح مجملات.
1. البقرة:275.
2. الوسائل: الجزء 13، الباب 3 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 2.
3. وهو بيع القاء الحجر أو بيع الحصاة فيحضر الرجل قطيع الغنم فينبذ الحصاة ويقول لصاحب الغنم انّما أصاب الحجر فهو لي بكذا.
4. نكاح الشغار: أن يزوج الرجل ابنته أو أُخته ويتزوج ابنة المتزوج أو أُخته ولا يكون بينهما مهر غير التزويجين لاحظ الوسائل: الجزء 14، الباب 27 من أبواب عقد النكاح الحديث2.
( 78 )
وإلى هذا الوجه يشير الشيخ الأنصاري في آخر تعريف البيع حيث يقول:
«وأمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلّة البيع ونحوه، فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف فيستدل بإطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء، على كونه مؤثراً في نظر الشارع.(1)
الثانية:عدم صحّة التمسّك بالبراءة على الصحيح
انّ الثمرة الثانية للبحث هي انّ الفقيه إذا شكّ في شرطية شيء أو جزئيّته للمسمّى، فعلى القول بالوضع للصحيح يكون الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته ملازماً للشكّ في صدق المسمّى، ومعه يجب الاحتياط حتى يعلم أنّه أتى بالمسمّى. بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعمّ فإنّ الفاقد للمشكوك يكون مصداقاً للمسمّى ويعود الشكّ إلى الشكّ في شرطية شيء زائد على المسمى أو جزئيته، فيكون الشكّ من قبيل الشكّ في تكليف أمر زائد. ويقع مجرى للبراءة،وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للصحيح.
يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا كان الموضوع له أمراً بسيطاً حاصلاً من الأجزاء والشرائط كعنوان «الناهي عن الفحشاء» فعندئذ يرجع الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته إلى صدق الناهي عن الفحشاء وعدمه، وأمّا إذا كان الموضوع له أمراً مركباً ذا أجزاء وشرائط وذا مراتب ـ كما مرّ ـ فيصدق الجامع على الفاقد من الجزء المشكوك و يكون الشكّ في وجوب أمر زائد والمرجع عندئذ البراءة.
والحاصل انّه إذا كان الجامع ذا أبعاض وكان تعلّق التكليف بالمقدار المتيقن معلوماً وبغيره مشكوكاً ، يكون المرجع هو البراءة لانحلال العلم الإجمالي.
1. المتاجر: آخر تعريف البيع.
( 79 )
الثالثة: صدق الوفاء بالنذر على الأعم
إذا نذر الرجل أن يعطي درهماً للمصلّي فعلى القول بوضعها للصحيح لا يُجزى ولا تبرء ذمّته إلاّ باعطائه لمن صلّـى صلاة صحيحة، بخلافه على القول بالأعم فيجزى مطلقاً، كانت صلاته صحيحة أم فاسدة.
يلاحظ عليه:انّ الاجزاء وبراءة الذمة تابع لكيفية النذر، لا للوضع فلو نذر أن يعطى لمن صلّى صلاة صحيحة فلا يجزى الدفع لغيره وإن كان الوضع للأعم، ولو نذر أن يعطى الأعم ممّن صلّى صلاة صحيحة، يجزى وإن كان الوضع للصحيح.
الرابعة: صحّة صلاة الرجل عند المحاذاة مع المرأة
ربما يقال: انّه تظهر الثمرة فيما إذا ورد النهي عن محاذاة المرأة للرجل في حال الصلاة وعلمنا بفساد صلاة المرأة، فعلى القول بوضعها للصحيح، تصحّ صلاة الرجل ولا يشملها النهي، بخلاف ما إذا قلنا بأنّها للأعم، فيشملها النهي.(1) ومثلها إقامة صلاتي جمعة في أقلّ من فرسخ مع بطلان إحداهما.
يلاحظ عليه:ـ مضافاً إلى أنّ النهي في هذه المقامات منصرف إلى الصلاة الصحيحة، سواء كان لفظ الصلاة موضوعاً للصحيح منها أو للأعمّ ـ أنّه ليس ثمرة للمسألة الأُصولية إذ غاية ذلك هو البحث عن إمكان تطبيق الحكم الكلّي، على هذا المورد و ليس ذلك ثمرة لها.
ومنه تظهر حال الثمرة الثالثة أيضاً فلاحظ.
1. المحاضرات:1/193.
( 80 )
اختلفت كلمة الأُصوليّين في أنّ المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ أو الأعم منه و ما انقضى عنه المبدأ، مثلاً:
مثلاً إذا قيل لا تتوضأ بالماء المسخَّن بالشمس، فهل يختص بالموصوف بالمبدأ بالفعل، أو يعمّ ما زال عنه المبدأ وبَرَدَ الماء؟
ويرجع النزاع إلى بيان تحديد مفهوم المشتق من حيث السعة والضيق وانّ الموضوع له، هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدأ أو الأعمّ من تلك الذات المنقضي عنها المبدأ؟ فعلى القول بالأخص، يكون مصداقه منحصراً في الذات المتلبّسة، ويختص النهي بالمسخّن بالفعل وعلى القول بالأعمّ يكون مصداقه أعمّ من هذه وممّا انقضى عنها المبدأ. ويعمّ النهي المسخنّ بالفعل وغيره.
وبعبارة ثانية: انّ العقل يرى جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدأ، ولا يرى ذاك الجامع الحقيقي للأعمّ منها و ممّا انقضى عنها المبدأ وإنّما يرى بينها جامعاً انتزاعياً. فالنزاع في أنّ الموضوع له هو ذاك الجامع الحقيقي أو جامع انتزاعي آخر.
فعلى القول بالأخصّ فالموضوع في قولك: صلّ خلف كلّعالم عادل، مَنْ
( 81 )
متلبّساً بالمبدأ الذي بين مصاديقه جامع حقيقي دون من كان متلبّساً وزال عنه المبدأ، الذي ليس بين مصاديقه إلاّ جامع انتزاعي.
وهذا بخلاف القول بالأعم فالموضوع هو الأعم منه و ما انقضى عنه المبدأ. و يكفي وجود نسبة ما بين الذات و المبدأ.
دليل القول بوضع المشتق للمتلبّس
وقد استدلّ على القول بوضعه للمتلبّس بوجوه، ذكرنا بعضها في الموجز(1) غير انّأمتن الأدلّة هي ما يلي:
انّ مفهوم المشتق ليس هو تلوُّن الذات (زيد) بأنحاء النسب حتى يكون الركن الوطيد هو الذات سواء أبقي المبدأ أم انقضى، بل مفهومه هو تلوّن المبدأ بأنحاء النسب و انّالمشتقات عامة منتزعة عن المبدأ باعتبار الوان النسب الحاصلة بينه و بين الذات ، فتارة يلاحظ المبدأ بما انّه منتسب إلى الذات بالصدور عنها(كاسم الفاعل)، و أُخرى بالوقوع عليها (كاسم المفعول)، وثالثة بالثبوت فيها كما في الصفة المشبهة، ورابعة بكونها واقعاً فيها له زماناً و مكاناً، وعلى ذلك فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسبة خاصة ومضاف إليها نحو إضافة، وما هذا شأنه يكون هو المحور، لا الذات، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ عند الإضافة إلى الذات.
وإن شئت قلت: إنّ واقع الصيغ المختلفة عبارة عن جعل المبدأ في قوالب مختلفة، فكأنّ المعاني تتوارد على المبدأ، وهو الذي يتجلّى بصور أشكال مختلفة وليس واقعُ الصيغ جعلَ الذات في أشكال مختلفة، فإذا كان هذا هو واقع الصيغ
1. الموجز:28، 29.
( 82 )
فكيف يمكن أن تصدق الصيغة مع عدم المبدأ؟
ويدلّ على ذلك انّ علماء الصرف والاشتقاق يحولون المبدأ(المصدر) إلى صور لا الذات إلى صيغ.
وعلى ذلك فلا مناص من التحفظ على المبدأ في صدق الصيغة.
نعم لما كان المبنى عند المشهور هو تلوّن الذات وتلبسها بأنواع النسب أخذوا يستدلّون عليها بالتبادر وصحّة السلب عمّن انقضى عنه المبدأ. والأولى إقامة البرهان حسب ماعرفت .
استدلّ القائل بالأعم بوجوه ثلاثة:
الأوّل التبادر
المتبادر من المشتق مطلق من تلبس بالمبدأ سواء أكان باقياً أم لا.
يلاحظ عليه :أنّ المتبادر هو المتلبّس لا الأعم، فإذا قيل لا تصلِّ خلف الفاسق، يتبادر المتلبس به حين الاقتداء لا من كان متلبّساً وانقضى عنه المبدأ قبل الاقتداء.
الثاني: صحّة الحمل
نرى بالوجدان انّه يصحّ حمل المقتول والمضروب على من قتل وضرب وانقضى عنه المبدأ ثانياً.
يلاحظ عليه: بأنّ هذه الصفات تحمل على الذات باعتبار اتحادها مع المبدأ في ظرف من الظروف.
وبتعبير آخر انّ الحمل بلحاظ حال التلبّس والجري خصوصاً في المقتول، فإنّ عدم كونه قابلاً للتكرار قرينة على أنّ الإطلاق بلحاظ حال التلبّس والجري،
( 83 )
ومثله السارق والزاني فانّ عدم كونهما قابلين للاستمرار قرينة على أنّ الإطلاق بهذا اللحاظ.
الثالث: استدلال الإمام ـ عليه السَّلام ـ
استدل الإمام بقوله سبحانه: (لا ينالُ عَهدِي الظّالِمين)(1) على عدم صلاحية من عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين للخلافة والإمامة وإن أسلم بعد ذلك. وقال ـ عليه السَّلام ـ : الظلم وضع الشيء في غير موضعه وأعظم الظلم الشرك باللّه، قال اللّه تعالى: (إِنَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيم) (2)».(3)
ثمّ إنّ الاستدلال مبني على صغرى مسلّمة وكبرى قرآنية.
أمّا الصغرى : هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي.
وأمّا الكبرى: والظالمون لا تنالهم الإمامة.
فينتج : هؤلاء لا تنالهم الإمامة.
وإنّما تصحّ الصغرى إذا قلنا بوضع المشتق للأعمّ، حتّى يصحّ عدّهم من الظالمين حين التصدّي للخلافة وإلاّتبقى الكبرى بلا صغرى.
يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال على عدم الصلاحية للإمامة يصحّ على كلا القولين.
أمّا على الأعم فواضح، لأنّهم على هذا القول ظالمون عند التصدّي حقيقة.
وأمّا على القول الثاني، فوجه الاستدلال ليس مبنيّاً على كونهم من مصاديق الظالمين حين التصدّي، بل على أساس آخر وهو انّ الإمامة منصب إلهي خطير،
1. البقرة:124.
2. لقمان:13.
3. البرهان في تفسير القرآن:1/149.
( 84 )
لأنّ صاحبها يتصرّف في النفوس والأعراض والأموال، فالمتصدّي لهذا المنصب يجب أن يبتعد عن ألوان الشرك وقبائح الأعمال طيلة عمره، لأنّ الناس يتنفّرون من مقترفي هذه الأعمال وإن طابوا و طهروا.
فالاستدلال ليس مبنياً على الظهور الوضعي بل مبني ـ بقرينة المقام وعظمة المنصب ـ على أنّالممنوع هو المتلبّس بالظلم آناً ما سواء أبَقي عليه أم لا.
ثمّإنّ هناك تحليلاً دقيقاً لبعض أساطين العلم و حاصله: انّ الناس بحسب التقسيم العقلي على أربعة أقسام:
من كان ظالماً في جميع عمره، و من لم يكن ظالماً في جميع عمره، و من هو ظالم في أوّل عمره دون آخره،و من هو بالعكس.
هذا و إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيته، فيبقى القسمان الآخران، و قد نفى اللّه أحدهما، وهو الذي يكون ظالماً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.
تطبيقات
إنّالبحث عن كون المشتق موضوعاً للمتلبّس أو للأعم ليس عديم الثمرة، وإليك بعض ما يترتب عليه.
1. قال أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ : «لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا، والأعرابي لا يؤم المهاجرين».(1)
2. عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسّلها، قال:
1. الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
( 85 )
«يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلى المرافق».(1) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي يجوز للزوج المطلق لها، التغسيل عند فقد المماثل.
وربما يمثل ـ كما مرّ في صدر البحث ـ بالماء المشمَّس أو المسخّن،ولكن الوارد في لسان الأدلّة، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق، فقد ورد عن رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّؤوا به،ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به، فإنّه يورث البرص».(2)
***
هذه أُمور تسعة بحث فيها علماء الأُصول في مقدّمة كتبهم، وبما انّها كانت ذات فوائد حجة، تعرضت لها بمزيد من التفصيل.
وأمّا البحث في المجاز والاشتراك والترادف أو البحث في بساطة مفهوم المشتق وتركّبه، فقد ضربنا عنها صفحاً، لما تقدّم بعضها في الموجز، وعدم مساس بعض آخر كالأخير بفن الاستنباط. فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا.(3)
1. الوسائل: 2، الباب 24 من أبواب غسل الميت، الحديث 8.
2. الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
3. راجع المحصول: الجزء الأوّل.
( 86 )
( 87 )
التشريع الإسلامي في الكتاب والسنّة يدور حول الأوامر والنواهي، وقد أولى الأُصوليون لهما أهمية خاصة وعقدوا لكلّمنهما مقصداً خاصاً، وبما انّا قد استوفينا البحث في بعض ما يرجع إليهما في الموجز، نأتي في المقام ما أوجزناه فيه أو لم نتعرض له ويأتي كلّ ذلك في ضمن فصول:
الفصل الأوّل: في دلالة صيغة الأمر على الوجوب
الفصل الثاني: دلالة الجملة الخبرية على الوجوب
الفصل الثالث: أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر
الفصل الرابع: في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين
الفصل الخامس: الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء
الفصل السادس: في المقدّمة، أقسامها وأحكامها
الفصل السابع: في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري
الفصل الثامن: في تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط
الفصل التاسع: في تقسيم الواجب المطلق إلى منجَّز ومعلَّق
الفصل العاشر: في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه
الفصل الحادي عشر: متعلّق الأوامر
الفصل الثاني عشر: التخيير بين الأقلّ والأكثر
( 88 )
( 89 )
من البحوث المهمة هي تحقيق مفاد صيغة الأمر وانّها هل هي موضوعة للوجوب أو للأعم منه و من الندب؟ و المشهور عند الأُصوليّين دلالتها على الوجوب على نحو يأتي، ولتحقيق ذلك نقدّم بحثاً في تبيين حقيقة الوجوب والندب والآراء المطروحة في هذا الصدد.
لا شكّ انّ الوجوب والندب من أقسام البعث الإنشائي ، وإنّما الكلام فيما يحصل به امتياز أحدهما عن الآخر، فقيل فيه وجوه:
أ: الوجوب هو البعث الإنشائي مع المنع من الترك، والندب هو البعث الإنشائي لا مع المنع من الترك.
يلاحظ عليه: أنّ المتبادر من الوجوب والندب هو الحتمية وعدمها، وما ذكره تحليل عقلي لهذين المعنيين البسيطين وليسا بموضوع له لهذين اللفظين.
ب: الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عند مخالفته، و الاستحباب هو الطلب غير الموجب له.
يلاحظ عليه: أنّ الاستحقاق وعدمه من آثارهما بعد تحقّقهما، والكلام في المقام في مقوّماتها، والمقوّم يجب أن يكون مقارناً لا متأخّراً.
( 90 )
ج: الوجوب هوالبعث المسبوق بالإرادة الشديدة، والندب هو البعث المسبوق بإرادة غير شديدة، وذلك انّ البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس فلابدّ في تحقّقه من سبق إرادة تكوينية، فهي تختلف شدّة وقوّة حسب اختلاف الغايات والأغراض والمصالح في لزوم إحرازها وعدمه. فالذي يميّز الوجوب عن الندب المشتركين في البعث، إنّما هو نشوء البعث عن الإرادة الشديدة أو الضعيفة، وهذا هو المختار.
هذا كلّه في امتيازهما حسب الثبوت، وأمّا امتيازهما حسب الإثبات فإنّما يحصل بالمقارنات، فإذا كان إنشاء البعث مقروناً بصوت عال وحركات خاصة تدلّ على عدم رضا المولى بتركه فينتزع منه الوجوب، وإذا كان مقارناً بما يفيد عكس ذلك ينتزع منه الندب.
إلى هنا تبيّن مفاد الوجوب والندب ثبوتاً وإثباتاً وانّ التفاوت بينهما ثبوتاً يرجع إلى شدّة الإرادة وضعفها، وإثباتاً إلى المقارنات الحاكية عن أحدهما.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى صلب الموضوع، أي دلالة الصيغة على الوجوب، فنقول:
إذا تبيّن أحد الأمرين من خلال المقارنات في مقام الإثبات فيُتبع، إنّما الكلام فيما إذا لم يتبيّن أحد الأمرين، و كان الكلام مجرّداً عن المقارنات فالمعروف هو تبادر الوجوب، واختلفت كلمتهم في سبب التبادر.
1. ذهب بعضهم إلى أنّ الصيغة تدلّ على الوجوب دلالة لفظية.
( 91 )
يلاحظ عليه: أنّ الهيئة وضعت لإنشاء البعث وهو مشترك بين الوجوب والندب، فكيف تدلّ على الوجوب دلالة لفظية.
2. انصراف صيغة الأمر إلى الوجوب
يلاحظ عليه: أنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود أو لكثرة الاستعمال، وكلا الأمرين موجودان في جانب الندب أيضاً.
3. كون الصيغة كاشفة عند العقلاء عن الإرادة الحتمية.
يلاحظ عليه: أنّالكشف لا يمكن أن يكون إلاّ بملاك، و الملاك إمّا كونه موضوعاً للوجوب، أو الانصراف، أو كونه مقتضى مقدّمات الحكمة; والأوّلان غير تامّين كما عرفت، والثالث يعود إلى الوجه الرابع الذي نتلوه عليك.
4. انّ مقتضى مقدّمات الحكمة هو حمل الصيغة على الوجوب وحاصله: انّ الإرادة الوجوبية تفترق عن الإرادة الندبية بالشدة، فانّها ليست شيئاً سوى الإرادة، وأمّا الإرادة الندبية فهي تفترق عن الوجوبية بالضعف وهو غير الإرادة، فالإرادة الوجوبية إرادة خالصة، بخلاف الإرادة الندبية فإنّها محدودة بحدّ خاص (الضعف) فتكون الإرادة الندبية أمراً ممزوجاً منها و من غيرها، و على هذا فإطلاق الكلام كاف في مقام الدلالة على الإرادة الوجوبية إذ لا حدّلها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلى بيان ذلك الحدّ، بخلاف الإرادة الندبية فانّ الحدّ ليس من سنخ المحدود فيفتقر إلى تقييد الكلام به.(1)
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره غفلة عن حقيقة التشكيك، فهي عبارة عمّا يكون ما به التفاوت نفس ما به الاشتراك، وعلى ذلك فالضعف أيضاً مثل الشدة من سنخ المحدود (الإرادة) وليس الضعف أمراً وجوديّاً منضمّاً إلى النور كما أنّ
1. بدايع الأفكار:1/214.
( 92 )
الشدّة كذلك، بل النور الضعيف مثل النور القوي، نور، لا انّه نور وضعف، كما أنّ القوي ليس نوراً وقوة، فصار القيدان على منوال واحد في لزوم البيان إذا كان المتكلّم في مقامه.
5. كون مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الإطاعة عند العقل، واستحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الطلب ندبياً. وهذا معنى كون الأمر ظاهراً في الوجوب.
وبعبارة أُخرى: وظيفة المولى هي إنشاء البعث وإصدار الأمر، وأمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه. بل على العبد السعي، فإن تبيّن له أحدهما عمل على طبق ما تبيّن، وإلاّعمل على مقتضى حكم العقل وهو أنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب، وهذا هو المختار في وجه حمل الأمر على الوجوب.