( 123 )
لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يستوجب العقاب، لأنّه تمرّد وطغيان على المولى، وخروج عن رسم العبوديّة وزيّ الرقية، وهو قبيح عقلاً وشرعاً، فيستوجب اللوم والعقاب.
كما لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري بما هوهو لا يستوجب العقاب، غير أنّه لمّا كان تركه ملازماً لترك الواجب النفسي، فالعقاب إنّما هو على ترك النفسي لا على مقدّمته.
كما لا إشكال في أمر ثالث، وهو ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد القربة وأتى به للّه سبحانه.
إنّما الكلام في أمر رابع وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري إذا أتى به بقصد التوصّل، و عدم ترتّبه عليه، و قبل الخوض في المقصود، نشير إلى مسألة كلامية، وهي:
هل ترتّب الثواب على امتثال التكليف على وجه الاستحقاق أو على وجه التفضّل؟ قولان: ذهب إلى الأوّل المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد وتبعه العلاّمة الحلّي في كشف المراد ومال إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، وذهب إلى الثاني الشيخ المفيد على ما نقل عنه.
( 124 )
أقول: أمّا الأوّل فالظاهر عدم ثبوته بل ثبوت خلافه، وذلك لأنّ من عرف ربّه وعظمته، وعرف فقر نفسه، وأنّ ما يملكه من حول وقوة، وجارحة وجانحة، وما يصرفه في طريق الطاعة، كلّه مفاض منه تعالى إليه، وليس ملكاً للعبد، بل ملك له سبحانه، صدّق القول بعدم الاستحقاق، لأنّ القائل بالاستحقاق ذهب إلى أنّه يجب عليه سبحانه القيام به، وعَدّ تركه ظلماً منه للعباد، وهو لا يجتمع مع القول بأنّ المالك هو اللّه سبحانه على الإطلاق، لا غير، وأنّ جميع شؤون العبد وحوله وقوّته وإرادته وفعله ملك للّه تعالى، فما أتى به العبد ليس سوى ما أعطاه إيّاه تعالى.
وإن شئت قلت: إنّ مثَل المخلوق إلى خالقه، مثَل المعنى الحرفي إلى الاسمي فلا يملك المعنى الحرفي لنفسه شيئاً سوى كونه موجوداً غير مستقل في ذاته وفعله، وعند ذلك كيف يستحقّ شيئاً في ذمة المولى، بحيث لو لم يؤدّه يكون ظالماً في حقّه؟! وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (يأَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد) .(1)
وأمّا التّعبير في بعض الآيات «بالأجر» الظاهر في الاستحقاق كقوله سبحانه: (وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبيرِ ).(2)
وقوله سبحانه :(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) (3) إلى غير ذلك من الآيات، فإنّما هو من باب المشاكلة نظير التعبير بالاستقراض في قوله سبحانه: (مَنْ ذَا الّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَريم) .(4)
1. فاطر:15.
2. فاطر:7.
3. هود:115.
4. الحديد: 11.
( 125 )
وأمّا على القول الثاني أي كون الثواب تفضّلاً من اللّه سبحانه فيكون الثواب والعقاب بالجعل والمواضعة فله أن يتفضّل على العباد بالوعد كما أنّ له أن لا يتفضّل عليهم به.
نعم بعد ما وعد يمتنع عليه التخلّف لاستلزامه الكذب الذي هو قبيح على الحكيم.
وعلى ضوء ذلك يظهر حكم المسألة أي ترتّب الثواب على الواجب الغيري، فلو قلنا بأنّ الثواب على نحو الاستحقاق يكون المدار هو إطاعة أمر المولى، سواء أكان المأمور به نفسياً أم غيرياً خصوصاً إذا أتى العبد بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الواجب فيعد مطيعاً والمطيع مستحق للثواب من غير فرق بين إطاعة أمر دون أمر ولا بين كون الواجب محبوباً بالذات أو لا، لأنّ ملاك الاستحقاق هو أن يكون فعل العبد لأجل امتثال أمره سبحانه من دون أن ينبعث عن أهواء نفسية وكون المتعلّق غير محبوب بالذّات كما في الواجب الغيري لا يؤثر في صدق الطاعة وكون الفعل للمولى المستتبع للثواب .
وأمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالجعل والمواضعة فيتبع مقدار الجعل وحدوده، والظاهر من الكتاب هو الأعم وانّ الثواب يترتب على مقدّمة الواجب أيضاً كما في قوله سبحانه: (مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدينَةِ وَمَنْ حَولَهُمْ مِنَ الأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَنَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤونَ مَوطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ وَلاَ يَنالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنينَ)(1) فقد قدّر لطيّالأرض والسفر إلى أرض المعركة، وما يصيبهم في أثناء ذلك من ظمأ وتعب
1. التوبة:120.
( 126 )
ومشقة، أجراً، مع أنّها واجبات مقدمية غيرية ، ومثل ذلك ما ورد من ترتّب الثواب على كلّ خطوة يخطوها المؤمن المتوجّه لزيارة الإمام الطاهر الحسينبنعليعليمها السَّلام .(1)
1. لاحظ كامل الزيارات: 133.
( 127 )
في تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط(1)
إذا كان وجوب الشيء مشروطاً بوجود شيء، سواء أكان أمراً خارجاً عن الاختيار كدلوك الشمس بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر، أم داخلاً في الاختيار كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ، يطلق عليه الواجب المشروط.
وأمّا إذا كان وجوب الشيء غير مشروط بوجود الشيء بل يجب، سواء أكان هذا الشيء موجوداً أو لا، يطلق عليه الواجب المطلق، وذلك كوجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء، فإنّ وجوبها ليست مشروطة بالوضوء على نحو لو لم يتوضأ لم تجب عليه الصلاة، بل الوجوب مطلق غاية الأمر انّ الوضوء شرط الصحة.
وبذلك يعلم أنّ الإطلاق والتقييد من الأُمور الإضافية كالأُبوّة والبنوّة ولا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة ويجتمعان فيه من جهتين، مثلاً وجوب الصلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس وجوب مشروط وهو بالنسبة إلى الوضوء وجوب مطلق، وتظهر ثمرة كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً في خصوص المقدّمات الاختيارية، فإن كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلى أمر مثلاً كالوضوء لزم تحصيل
1. عقدنا الفصلين: الثامن والتاسع بعد فصل مقدمة الواجب لوجود صلة بينهما باعتبار انّ الشرط والمعلق عليه يعدان من المقدمات.
( 128 )
الوضوء وبذل المال لشراء ماء الوضوء، وأمّا إذا كان وجوبه مشروطاً به، فالوجوب لا يتحقّق إلاّ بعد وجود الشرط فلا وجه لوجوب تحصيله.
ومنه يعلم أنّ المقسم هو تقسيم الوجوب إلى المطلق والمشروط ووصف الواجب بهما من قبيل الوصف بحال المتعلّق.
نظرية الشيخ الأنصاري في الواجب المشروط
ذهب المشهور إلى أنّ الوجوب في الواجب المشروط مقيّد بالقيود المأخوذة في لسان الدليل، فالوجوب غير حاصل ما لم تحصل هذه القيود. وأمّا المادّة التي تلبّست بها الهيئة، فهي باقية على إطلاقها. ومعنى قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاة لِدُلُوكِ الشَّمْس إِلى غَسَقِ اللَّيل) هو تجب عند دلوك الشمس الصلاة، فالوجوب مقيّد بدلوكها وإن كانت المادة ـ أعني: نفس الصلاة ـ باقية على إطلاقها. فالقيد راجع إلى الهيئة.
وخالف في ذلك الشيخ الأعظم في تقريراته(1) فاختار انّ القيود كلّها من خصوصيات المادة و أمّا الهئية فهي باقية على إطلاقها. وعليه يصير معنى الآية المذكورة: تجب الصلاة المقيدة بالدلوك، كما أنّه يصير محصل قولك: «أكرم زيداً إن جاء» أنّه يجب الإكرام المقيد بالمجيء.
وعند ذلك تختلف النتيجة، فعلى المشهور، لا وجوب ما لم يتحقّق القيد أي الدلوك. وعلى قول الشيخ الوجوب حاليّ، وإن كان ظرف العمل استقبالياً.
يلاحظ على نظرية الشيخ بأنّ القيود بحسب اللب والواقع على قسمين، ولا معنى لجعلهما قسماً واحداً.
فإنّ قسماً منها يرجع إلى مادة الواجب كما إذا ترتبت المصلحة على الصلاة
1. مطارح الأنظار:45ـ46.
( 129 )
في المسجد والطواف حول البيت لا على نفس الصلاة والطواف المطلق. فلا شكّ انّ القيد «في المسجد»، «حول البيت» من قيود الصلاة فلأجل ذلك يجب عليه تحصيل المسجد لإقامة الصلاة فيه وشدّ الرحال إلى مكة المكرّمة للطواف.
وأنّ قسما منها يكون مؤثراً في ظهور الإرادة وبعث المولى بحيث لولا الشرط لما كان هناك بعث ولا طلب فلا شكّ انّه من قيود الهيئة، فإذا قال: إن أفطرت فكفِّر وإن ظاهرت فأعتق، فانّ تعلّق إرادة المولى بالتكفير بصورة الإيجاب، رهن صدور عمل محرم من العبد كالإفطار في شهر رمضان والظهار بحيث لولاهما لما صدر منه بعث إلى التكفير ولا أمر بالعتق فيكون «الافطار» في قوله: «إن أفطرت فكفِّر» قيداً للبعث الحاكي عن الإرادة.
ولنمثِّل مثالاً آخر: انّ حجّالمتسكع ذو مصلحة، كما أنّ أداء الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يخلو من مصلحة غير انّ إرادة المولى أو بعثه مشروطة بالاستطاعة وبلوغ الغلة حدّ النصاب، وما ذلك إلاّ للزوم الحرج والضيق على المكلّفين لو لم يقيد الوجوب بالاستطاعة وبلوغ النصاب.
فإذا كانت ماهية الشروط على قسمين مختلفين فلا وجه لجعلها قسماً واحداً كما عليه المحقّق الأنصاري.
( 130 )
إنّ صاحب الفصول قد قسّم الواجب المطلق إلى قسمين: منجز ومعلّق، فقال:
إذا تعلّق الوجوب بالمكلّف به كمعرفة اللّه ولم يتوقّف حصول الواجب على أمر غير مقدور يسمّى منجزاً، وإن تعلّق به وتوقّف حصول الواجب في الخارج على أمر غير مقدور كالوقت في الحج يسمى معلّقاً فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلف من أوّل زمان الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور.(1)
وحاصله: أنّه إذا لم يكن وجوب الواجب، ولا امتثال نفس الواجب، متوقفين على حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المنجز كالمعرفة.
وإن كان وجوبه غير متوقف على شيء لكن كان امتثال الواجب متوقفاً على حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المعلّق، أي عُلِّق الإتيان به على مجيء زمنه، كما هو الحال في المستطيع عند وجود جميع المقدّمات قبل حلول أيّام الحجّ.
فالوجوب في كلتا الصورتين فعليّ، غير انّ الواجب في الأوّل(المعرفة) فعلي دون الثاني، فانّ الواجب فيه استقبالي.
1. الفصول: 81 بتلخيص.
( 131 )
ثمرة التقسيم إلى المنجز والمعلّق
ثمّ إنّ الداعى إلى هذا التقسيم هو دفع الإشكال عن المقدّمات المفوِّتة حيث إنّ المشهور هو انّ فعلية وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها، ومع ذلك نرى في الشريعة الإسلامية موارد توهم خلاف ذلك حيث وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها وذلك في الموارد التالية:
أ: وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.
ب: وجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر للجنب والمستحاضة.
ج: وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية ـ بعد الاستطاعة ـ قبل فوت الحجّ.
د: وجوب تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت الوجوب إذا ترتّب على ترك التعلّم فوت الواجب في ظرفه.
ففي هذه الموارد تنهدم القاعدة المعروفة من «انّ فعليّة وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها» لوجوب المقدّمة فيها قبل وجوب ذيها.
هذا هو الإشكال وقد تخلّص منه صاحب الفصول بتقسيم الواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق، والقول بأنّ الواجب في هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق، فالوجوب فعلي قبل الوقت وإن كان الواجب استقبالياً، فلا يلزم انهدام القاعدة.لأنّ وجوب المقدّمة المفوّتة في هذه الموارد لأجل فعلية وجوب ذيها ولا تنافي استقبالية الواجب لوجوب المقدّمة بالفعل.
ثمّ إنّ من أنكر تقسيم الواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق، تخلص من الإشكال في هذه الموارد بوجوه أُخرى مذكورة في دراسات عليا.
( 132 )
اختلفت كلمة الأُصوليّين في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه، والضدّ على قسمين:
أحدهما: الضدّ العام وهو بمعنى النقيض، فلو أمر بالصّلاة يكون تركها محرماً.
ثانيهما: الضدّالخاص وهو الفعل الوجودي الذي لا يجتمع مع الفعل الواجب، كما إذا أمر بإزالة النجس عن المسجد فوراً وقد دخل وقت الصلاة، فلو قلنا بالاقتضاء يكون الأمر بالإزالة نهياً عن الصلاة.
في حكم الضدّ العام
أمّا الضدّالعام فلا يخلو إمّا أن يكون الاقتضاء بالدلالة المطابقية بأن يكون الأمر بالشيء عين النّهي عن تركه، أو بالدلالة التضمنية بأن يكون الأمر بالشيء بمعنى طلب ذلك الشيء والمنع عن تركه، فالوجهان لا يرجعان إلى شيء لما عرفت من أنّ مفاد الأمر هو البعث إلى الشيء و ليس فيه أيّ دلالة على حكم الترك فضلاً عن كون النّهي عنه على نحو العينية أو الجزئية، وأمّا الدّلالة على النّهي بنحو الدلالة الالتزامية فهي تتصور على نحوين:
الأوّل: الالتزام بنحو اللّزوم البين بالمعنى الأخص بأن يكون نفس تصوّر
( 133 )
الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك.
الثاني: الالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأعم بأن يكون تصوّر الطرفين (الأمر بالشيء والنهي عن الضدّالعام) والنسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء.
أمّا الأوّل فواضح الانتفاء، إذ كيف يصحّ ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو، مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بشيء و هو غافل عن الترك فضلاً عن النّهيعنه؟
وأمّا الثّاني: ففيه انّ هذا النحو من النهي يدور أمره بين عدم الحاجة واللغوية ، وذلك لأنّ الأمر بالشيء إذا كان باعثاً نحو المطلوب يكون النّهي عن الترك غير محتاج إليه إلاّ إذا كان تأكيداً للأمر ولكنّه خارج عن محط البحث، و إذا لم يكن باعثاً نحو المطلوب، يكون النهي عن الترك لغواً لعدم ترتّب الفائدة عليه.
هذا كلّه حول الضد العام.
أمّا الضدّ الخاص، فقد استدلّ عليه بوجهين:
أحدهما : مسلك المقدمية.
الثاني: مسلك الملازمة.
أمّا الأوّل فهو مبني على تسليم أُمور ثلاثة:
1. انّ ترك الضدّ كالصلاة مقدّمة للمأمور به كالإزالة.
2. انّ مقدّمة الواجب واجبة فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.
3. انّ الأمر بالشيء (وهو في المقام قوله: اترك الصلاة) يقتضي النهي عن ضدّه العام، أعني: نقيض المأمور به وهو هنا نفس الصلاة.
وأنت خبير بعدم صحّة واحد من هذه الأُمور.
أمّا الأمر الأوّل أي كون ترك الضد مقدّمة للمأمور به فغير صحيح، إذ لا
( 134 )
مقدّمية لترك أحد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر، فلا ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ولا ترك الإزالة مقدّمة للصّلاة، بل غاية الأمر انّ بينهما منافرة ومعاندة لا يجتمعان في زمان واحد. وأمّا كون أحد التَرْكين مقدّمة للآخر فلا، لأنّ السبب الحقيقي لتحقّق كلّ واحد من الضدّين، هو إرادة المكلّف واختياره، فإذا وقع امام الضدين ورأى انّ الجمع بينهما أمر غير ممكن، يختار واحداً منهما ، ويترك الآخر، حسب اقتضاء غرضه، من دون أن يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر.
ويمكن إبطاله أيضاً بوجه آخر وهو انّ جعل العدم موقوفاً عليه غفلة عن حقيقة العدم، فإنّ العدم أمر ذهني لا وجود له في الخارج كما هو واضح، وما هو هذا شأنه لا يكون مؤثّراً ولا متأثّراً ولا موقوفاً ولا موقوفاً عليه.
وأمّا الأمر الثاني، أي وجوب المقدّمة التي هي «ترك الصلاة» فقد عرفت ضعفه لما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة دائر بين ما لا حاجة إليه أو كونه لغواً.
وأمّا الأمر الثالث أي كون الأمر بالشيء حتّى الأمر المقدّمي مثل «اترك الصلاة»، يقتضي النهي عن ضدّه العام ونقيضه أي الصلاة ففيه انّ هذا النهي (لا تصلّ) امّا غير محتاج إليه إذا كان الأمر بالترك باعثاً، أو لغو إذا كان الأمر بالترك غير باعث.
إلى هنا تمّ الكلام في اقتضاء وجوب الشيء حرمة ضدّه سواء أُريد منه الضدّ العام أو الخاص من باب المقدمية.
وأمّا المسلك الثاني، أي مسلك الملازمة فقد أوضحنا حاله في الموجز(1) فلا نطيل فلاحظ.
1. الموجز:56ـ57.
( 135 )
تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء، فإذا كان الضدّ عبادة كالصلاة، وقلنا بتعلقّ النهي بها بأحد المسلكين السابقين تقع فاسدة، لأنّ النهي يقتضي الفساد، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة، أو اشتغل بها، حين طلب الدائن دينه.
ثمّ إنّ شيخنا بهاء الدين العاملي أنكر الثمرة، وقال: إنّ الصلاة باطلة سواء أقلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أم لم نقل.
أمّا على الصورة الأُولى فلأجل النهي، وأمّا على الصورة الثانية فلأجل سقوط الأمر بالصلاة، لأنّ الأمر بالشيء وإن لم يستلزم النهي عن الضدّ ولكن يستلزم سقوط الأمر بالضدّ في ظرف الأمر بالإزالة لئلا يلزم الأمر بالضدين في وقت واحد، فنفس عدم الأمر كاف في البطلان وان لم يتعلّق بها النهي.
فالمسألة فاقدة للثمرة على كلّ حال، لأنّ الصلاة باطلة إمّا لكونها محرّمة على القول بالاقتضاء، أو غير واجبة على القول بإنكار الاقتضاء، ومعنى عدم وجوبها، عدم تعلّق الأمر بها وهو يلازم البطلان.
ثمّ إنّ المتأخّرين من الأُصوليّين حاولوا إثبات صحّة الصلاة مع سقوط أمره من طريقين:
الأوّل: صحّة الصلاة لأجل وجود الملاك في الضدّ المبتلى به.
الثاني: الأمر بالضدّ على نحو الترتّب، أي بشرط عصيان الأمر بالأهم، كأن يقول: أزل النجاسة وإن عصيت فصلِّ.
أمّا الوجه الأوّل، فقد اختاره المحقّق الخراساني، وذلك لأنّ تعلّق النهي يلازم فساد العبادة لا عدم تعلّق الأمر، والمقام من قبيل الثاني لا الأوّل. فإذا
( 136 )
كانت العبادة غير منهية عنها يكون محكوماً بالصحّة وإن لم يكن هناك أمر وذلك لكفاية الملاك والرجحان الذاتي فيها، إذ الفرد المزاحِم للعبادة وغير المزاحِم سيان في الملاك والمحبوبية الذاتية، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره وأمّا ملاكه فهو بعدُ باق عليه.
هذا هو حال الوجه الأوّل، وأمّا حال الوجه الثاني فهو المعروف بمسألة الترتّب يطلب من دراسات عليا.
( 137 )
هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟ فنقول: المراد من الطبيعة: هو المفهوم الكلي من غير فرق بين أن يكون من الماهيات الحقيقية، كالأكل والشرب; أو الماهيات المخترعة، كالصلاة والصوم.
والمراد من الأفراد: هي الطبيعة مع اللوازم التي لا تنفك عنها لدى وجودها ولا يمكن إيجادها في الخارج منفكة عنها، فوقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر هل هو نفس الطبيعة الصرفة بحيث لو قدر المكلّف على الإتيان بها مجرّدة عن المشخصات الفردية لكان ممتثلاً لأوامر المولى، أو أنّ متعلّقه هو الطبيعة مع اللوازم الفردية ؟
وعلى ذلك، فالمراد من الطبيعة هو ذات الشيء بلا ضم المشخّصات، كما أنّ المراد من الفرد ذاك الطبيعي منضماً إلى المشخّصات الفردية الكلية، مثلاً:
إذا قال: المولى أكرم العالم، فهل متعلّق الأمر هو نفس ذلك المفهوم الكلي ـ أي إكرام العالم ـ أو هو مع المشخّصات الملازمة للمأُمور به، كالإكرام في زمان معين، أو مكان معين، وكون الإكرام بالضيافة، أو بإهداء الهدية إلى غير ذلك من العوارض.
( 138 )
إذا وقفت على معنى الطبيعة والأفراد في عنوان البحث، فنقول:
الحق أنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة دون الفرد، لأنّ البعث والطلب لا يتعلّقان إلاّ بما هو دخيل في الغرض ويقوم هو به، ولا يتعلّقان بما هو أوسع ممّا يقوم به الغرض ولا بما هو أضيق منه، وليس هو إلاّ ذات الطبيعة دون مشخّصاتها، بحيث لو أمكن للمكلّف الإتيان بذات الطبيعة بدونها لكان ممتثلاً.
وعلى هذا فالطبيعة بما هي هي متعلّقة للطلب والبعث.
وبذلك يعلم أنّ متعلّق الزجر في النهي هو نفس متعلّق الأمر أي الطبيعة.
والحاصل: أنّ محصّل الغرض هو المحدِّد لموضوع الأمر، وقد عرفت أنّ المحصّل هو نفس الطبيعة لا المشخّصات، كالزمان والمكان وسائر عوارض الطبيعة.
ثمرة المسألة
تظهر الثمرة في باب الضمائم، كما إذا توضأ في الصيف بماء بارد وقصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع لكفى وجود القربة في أصل الوضوء بالماء وإن لم يقصد القربة في الضمائم، وأمّا لو قلنا بتعلّقه مضافاً إلى الطبيعة بالأفراد ـ أي اللوازم ـ لبطل الوضوء لعدم قصد القربة فيها بل لأجل التبريد مثلاً.
تفسير خاطئ للفرد في المقام
نعم ربّما يفسر الفرد، بالفرد الخارجي أو المصداق من الطبيعة ويقال: هل الأمر يتعلّق بالمفهوم الكلي كالصلاة، أو يتعلّق بالفرد الخارجي الذي يمتثل به المكلّف؟
( 139 )
لكنّه تفسير خاطئ، لأنّ الفرد بهذا المعنى لا يتحقّق إلاّ في الخارج وهو ظرف سقوط التكليف، وليس ظرفاً لعروضه، والبحث إنّما هو في معروض التكليف لا فيما يسقط به، بل المراد من الفرد في المقام هوالطبيعة مع العوارض والمشخّصات كما مثلنا، و هما كالطبيعة من الأُمور الكليّة.
نعم، المراد من الفرد في مبحث اجتماع الأمر والنهي عند القائل بالامتناع هو الفرد الخارجي، والمصداق المعين من الطبيعة، فاحفظ ذلك لئلاّ يختلط الاصطلاحان في المقامين عليك.
( 140 )
لا إشكال في التخيير بين المتباينين كما هو الحال في خصال الكفّارة إنّما الإشكال في جوازه بين الأقلّ والأكثر، كتخيير المصلّي بين تسبيحة واحدة أو ثلاث تسبيحات، وذلك لأنّ الأقل يحصل دائماً قبل الأكثر فيسقط به الأمر، ولا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر، ولأجل ذلك حمل الزائد على التسبيحة الواحدة على اجتماع الواجب مع المستحب.
وقد قام بعض المحقّقين بتصحيح التخيير بينهما بالبيان التالي وهو:
إذا كان الأثر مترتباً على الفرد التام من الأقل والفرد التام في الأكثر يصحّ التخيير بين الفرد الأقل والفرد الأكثر، وذلك لأنّ الأقلّ الموجود في ضمن الأكثر لا يكون مصداقاً للواجب الأقلّ وإنّما يكون مصداقاً له إذا وجد بحده وبصورة فرد مستقل وهو لا يتحقّق إلاّ بفصله عن الزائد، وأمّا إذا وجد متصلاً معه فلا يكون فرداً للأقل المأمور به وإن كان مصداقاً لذات الأقل.
نعم لو كان الأثر مترتباً على مطلق الأقل الأعم من أن يكون مستقلاً أو موجوداً في ضمن الأكثر فلا يصحّ التخيير إذ لا تصل النوبة في مقام الامتثال إلى الامتثال بالأكثر، لأنّ المأتي به لا يخلو إمّا أن يكون فرداً مستقلاً للأقل فيسقط الأمر به، أو يكون في ضمن الأكثر فيتحقّق قبل تحقّق الأكثر.
( 141 )
وبعبارة أُخرى يصحّ التخيير بين الفرد بشرط لا، والفرد بشرط شيء ولا يصحّ التخيير بين الفرد اللا بشرط والبشرط شيء، لأنّ الأقل يتحقّق دائماً قبل الأكثر.
يلاحظ عليه: أنّالتخيير بين الفرد «بشرط لا» والفرد «بشرط شيء» ليس من قبيل التخيير بين الأقل والأكثر بل من قبيل التخيير بين المتباينين. وذلك لأنّ الأقل الموجود بحده وبصورة «بشرط لا» لا يعدُّ أقلّ بالنسبة إلى الأكثر، بل هو فرد مباين للأكثر، فعندئذيصبح التخيير بين المتباينين وهو خارج عن الفرض.
وأمّا التخيير بين ذات الأقل اللا بشرط والأكثر فهو ـ كما أفاده ـ أمر غير صحيح لوجود الأقلّفي ضمن الأكثر فيسقط الأمر بالإتيان بالأقل من دون حاجة إلى الأكثر، وعلى ضوء هذا فالخط القصير المحدود بحد، والطويل المحدود بحد، وإن كان يصحّ التخيير بينهما، لكنّهما ليسا من قبيل الأقلّ والأكثر بل من قبيل المتباينين.
وأمّا ذات الخط القصير الأعمّ من المحدود، والموجود في ضمن الأكثر، فهو وإن كان بالنسبة إلى الأكثر من قبيل الأقل والأكثر، لكنّه لا يصحّ التخيير بينهما لسقوط الأمر مطلقاً بالأقل الأعم من المحدود، أو الموجود في ضمن الأكثر.
ومثله التسبيحات الأربع، فانّ الغرض إذا كان مترتباً على التسبيحة الواحدة المقيّدة بالوحدة بحيث تخرج عن قابلية لحوق الزائد عليها بها، وإن صحّ التخيير لكنّه تخيير بين المتباينين . أمّا التخيير بين ذات الأقل والأكثر فقد عرفت لغوية الأمر بهذا النحو.
قد تمّ الكلام في الأوامر ضمن
اثني عشر فصلاً ويليه البحث في النواهي
( 142 )
( 143 )
الكلام في النّواهي على غراره في الأوامر، فيبحث فيها تارة عن مفاد مادة النّهي، وأُخرى عن مفاد هيئته، وثالثة عن دلالتها على المرة أو التكرار، إلى غير ذلك ممّا يمتُّ إليها بصلة. وبما انّا أشبعنا الكلام في هذه المقامات في «الموجز» عند البحث في الأوامر فلا نرى حاجة إلى التكرار في المقام. فلنعطف عنان الكلام إلى تبسيط ما أوجزناه أو ما لم نتعرض له فيه. ويتم الكلام في هذين الأمرين ضمن فصول:
الفصل الأوّل: في اجتماع الأمر والنّهي
الفصل الثاني: في اقتضاء النهي في العبادات للفساد
الفصل الثالث: في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد
( 144 )
( 145 )
وقبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
1. في عنوان البحث
هل يجوز اجتماع الأمر والنّهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا؟ كما إذا أمر بالصّلاة على وجه الإطلاق ونهى عن الغصب كذلك فتصادقا في الصلاة في الدارالمغصوبة، فيقع الكلام في أنّه هل يمكن الأخذ بإطلاق الدليلين في مورد التصادق أو لا ؟
لا شكّ انّه يجب الأخذ بكلّ من الأمر والنهي في موردي الافتراق إنّما الكلام في إمكان الأخذ بكلا الإطلاقين في مورد التصادق بأن يكون للمولى فيه أمر ونهي، بعث وزجر، أو لا. فيه قولان: قول بجواز الاجتماع، وقول بامتناعه.
فالقائل بجواز الاجتماع يأخذ بإطلاق كلا الدليلين ويُعدُّ المصلّي في الدار المغصوبة، ممتثلاً من جهة، وعاصياً من جهة أُخرى والقائل بالامتناع يقول بلزوم الأخذ بأحد الإطلاقين ورفض الإطلاق الآخر في مورده.
وبما ذكرنا ظهر انّ متعلّق التكليف هو الطبيعتان المختلفتان باسم الصلاة والغصب، وأمّا الواحد فهو ما يتصادق عليه المتعلّقان ويتمَّثلان فيه. فيرجع روح
( 146 )
النزاع إلى إمكان حفظ الإطلاقين في ذلك المورد وعدم حفظه، فالقائل بالاجتماع يحتفظ بهما دون القائل بالامتناع فيأخذ بأحدهما إمّا الأمر وإمّا النهي.
كما ظهر انّ النزاع كبروي وهو جواز الأخذ بالإطلاقين في مورد التصادق وعدمه.
2. الفرق بين المسألتين
قد ذكرنا في الموجز(1) انّ الفرق بين هذه المسألة وما سيأتي من دلالة النهي في العبادات والمعاملات على الفساد واضح جدّاً، لأنّ المسألتين تفترقان موضوعاً ومحمولاً، وما كان كذلك يكون غنيّاً عن بيان الفرق، فأين هذه المسألة (هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أولاً) من قولنا: «هل النهي في العبادات أو المعاملات يدل على الفساد أو لا؟» فليس بينهما وجه اشتراك حتى نبحث عن وجه الامتياز.
3. الفرق بين المقام و ما يأتي في باب التعارض
ربما يتبادر إلى الذهن أنّ البحث في المقام يُشبه البحث في حكم العامين من وجه في باب التعادل والترجيح، توضيحه:
إذا تعلّق الأمر بعنوان، والنهي بعنوان آخر وكان بين العنوانين عموم وخصوص من وجه كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فتصادقا في العالم الفاسق، فقد عدّ الأُصوليّون المسألة في مورد الاجتماع من أقسام التعارض مع أنّ هذاالمقام يماثله إلى حدّ كبير، حيث إنّ الأمر تعلّق بالصلاة والنهي بالغصب وبين العنوانين عموم وخصوص من وجه وتصادقا في مورد واحد، فيقع
1. الموجز:72.
( 147 )
الكلام فيما هو الفرق بين المقام و المذكور في باب التعادل والترجيح حيث جعلوا الثاني من قبيل المتعارضين، دون الأوّل.
والجواب وجود الفرق بين المسألتين وهو: انّه إذا كان لكلّمن العنوانين مناط وملاك في مورد التصادق فهو من هذا الباب كما في المثال المعروف حيث إنّ الصلاة في الدار المغصوبة ذات مصلحة كما أنّها ذات مفسدة، ولذلك يعبر عنه بالمتزاحمين كانقاذ الغريقين، وهذا بخلاف ما ورد في باب التعادل والترجيح حيث لم يحرز المناط إلاّ لأحد العنوانين دون الآخر، فالعالم الفاسق أمّا ذو مصلحة بلا مفسدة أو على العكس ولذلك يعبر عنهما بالمتعارضين، بل يحتمل أن لا يكون لواحد منهما ملاك لاحتمال كذب كلا الخبرين واقعاً، وإن كانا حجّتين في الظاهر.(1)
إذا عرفت هذه الأُمور فلنرجع إلى ذكر أدلّة الطرفين، ولنقدم دليل القائل بالجواز ثمّ نردفه بذكر دليل القائل بالامتناع.
دليل القائل بجواز الاجتماع
قد استدلّ للقول بالجواز بوجوه ستة (2) نذكر وجهاً واحداً وهو أمتنها:
لو كان متعلّق الأمر والنهي شيئاً واحداً كان للامتناع وجه، كما إذا أمر بانجاز أمر في زمان خاص ثمّ نهى عنه في نفس ذلك الزمان ،فمن المعلوم انّه
1. ما ذكرناه هو خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية، وقد بسط الكلام فيه تحت عنوان الأمر الثامن والتاسع بتفصيل لا يخلو من تعقيد.
2. من أراد الوقوف على تلك الوجوه فعليه الرجوع إلى محاضراتنا: المحصول في علم الأُصول: 2/208 ـ 235، وما ذكرناه في المتن هو عصارة ما ذكره سيد مشايخنا البروجردي وشيَّد أركانه السيد الإمام الخميني (قدس سرهما) لكن بتوضيح وتحقيق منّا.
( 148 )
محال، لأنّه تكليف بالمحال بل يمكن أن يقال انّه تكليف محال.(1)
وأمّا إذا كان مختلفاً كالصلاة والغصب فلا مانع من تعلّق الأمر بحيثية و النهي بحيثية أُخرى وإن تصادق المتعلّقان في مقام الامتثال في شيء واحد شخصي، لأنّ الحيثية التي تجعله مصداقاً للمأمور به غير الحيثية التي تجعله مصداقاً للمنهي عنه. هذا هو إجمال الدليل .
توضيحه: انّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو المحبوب دون الخصوصيات التي لا دخل لها فيه، سواء أكانت ملازمة أو مفارقة، وهكذا النهي لا يتعلق إلاّ بما هو المبغوض وفيه الملاك دون اللوازم والخصوصيات، وعلى ذلك فما هو المأمور به هو الحيثية الصلائية وإن قارنت الغصب في مقام الإيجاد، وما هو المنهي عنه هو الحيثية الغصبية وإن قارنت الصلاة في الوجود الخارجي، فالخصوصيات الملازمة (كاستدبار الجدي عند الصلاة إلى القبلة) أو المفارقة (كالغصب بالنسبة إلى الصلاة في المقام) كلّها خارجة عن حريم الأمر والنهي ولو تعلّق الأمر أو النهي بها لكان من قبيل تعلّق الارادة بشيء لا ملاك فيه وليس دخيلاً في الغرض وهو محال على الحكيم.
وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية فكما أنّالثانية لا تتعلّق حسَب اللبّ إلاّ بما هو الدخيل في الغرض، المحصِّل له. ولا تسري إلى ما لا مدخلية له فيه فهكذا الإرادة التشريعية لا تتعلّق إلاّبما هو المحصِّل لغرض المريد دون ما لا دخل له فيه، فالمتعلّق في كليهما واحد. وقد عرفت أنّ المحقِّق للغرض هو الحيثية الصلائية في الأمر، و مثل الارادة الشتريعة، الزجر التشريعي فانّه يتعلّق بالحيثية الغصبية لانّها المبغوضة من دون أن يتجاوز الزجر من الحيثية الغصبية إلى الحيثية الصلائيّة.
1. الفرق بينهما واضح، ففي الأوّل الموصوف بالمحال هو المكلّف به، وفي الثاني نفس التكليف وظهور إرادتين مختلفين في ذهن الآمر.
( 149 )
نعم فرق بين الخصوصية المتلازمة والخصوصية المفارقة، فانّ الأُولى كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة لا يمكن أن يكون حكمها(لكونها خصوصية ملازمة) مضاداً للملزوم، فلو أمر بإيجاد الأربعة يمتنع عليه أن ينهى عن الزوجية. وهذا بخلاف ما إذا كانت الخصوصية (كالغصب بالنسبة إلى الصلاة في الدار المغصوبة) مفارقة فيمكن أن يكون الخصوصية محرّمة ونفس الفعل واجباً كما في المقام. ولا يلزم أي محذور فيه كالتكليف بالمحال إذ في وسع المكلّف امتثال المأمور به في غير المكان المغصوب، لكنّه إذا أتى به في المكان المغصوب فقد جاء بالواجب منضماً إلى الحرام الذي له فيه مندوحة. ولكلّحكمه، فلو كان الواجب توصلياً برأت ذمة المكلّف ولو كان تعبدياً كما في المقام يتوقف الامتثال على تمشّي قصد القربة كما في الجاهل.
فقد خرجنا بالنتيجة التالية : انّه لا مانع من حفظ إطلاق كلا الدليلين: «صلّ ولا تغصب» في مورد التصادق الذي جمع المكلف بين المأمور به والمنهي عنه في مصداق واحد بسوء اختياره، فالوجوب سائد غير ساقط كما أنّ النهي كذلك وأنّ البعث والنهي في زمان واحد لا يستلزم الأمر بالمحال لماعرفت من أنّ الخصوصية، مفارقة لا ملازمة، ولا يشترط في المفارق عدم التضاد في الحكم وإنّما يشترط في الخصوصية الملازمة.
ولك أن تقرر هذا الدليل بوجه آخر، وهو انّ محذور الامتناع أحد أُمور ثلاثة:
أ: أن يكون هناك تضاد في مقام الجعل والتشريع.
ب: أن يكون هناك تضاد في مبادئ الأحكام.
ج: أن يكون تضاد في ملاكات الأحكام.
د: أن يكون تضاد في مقام الامتثال.
ومن حسن الحظ انّه ليس هناك أيُّ تضاد في واحد من هذه المقامات.
( 150 )
أمّا مقام الجعل والتشريع فقد عرفت أنّالحكم يتعلّق بما هو دخيل في تحصيل الغرض ولا يسري إلى الخصوصيات الملازمة أو المقارنة، فالوجوب يتعلّق بالصلاة بما هي هي، والحرمة بالغصب بما هوهو، وأمّا الأمر الخارج عن تينك الطبيعتين فلا يكون متعلقاً للأمر ولا للنهي.
وأمّا مبادئ الأحكام الّتي يراد بها الحب والبغض والمصلحة والمفسدة فيجتمعان بلا تضاد فيها.حيث إنّ الحب يتعلّق بالصلاة بما هي هي والكراهة بالغصب بما هوهو، فالمحبوب هو الحيثية الصلائية كما أنّالمبغوض هو الحيثية الغصبية.
وأمّا ملاكات الأحكام فالمصلحة قائمة بالصلاة، والمفسدة قائمة بالغصب، والعمل بما هو صلاة، ذو مصلحة وبما هو غصب ذو مفسدة، وبما انّ العمل ليس أمراً بسيطاً، فلا مانع من أن يكون ذا مصلحة ومفسدة لحيثيتين مختلفتين، نظير إطعام اليتيم في الدار المغصوبة فلا تضاد في ملاكات الأحكام.
وأمّا عدم لزوم المحذور (التكليف بغير المقدور) في مقام الامتثال فتوضيحه يتم ببيان أمرين:
1. إنّ تعلّق الوجوب بالحيثية الصلائية، وتعلّق الحرمة بالحيثية الغصبية وتصادقهما في الصلاة في الدار المغصوبة، لا يوجد مشكلاً أبداً، ولا يدفعنا إلى الأخذ بأحد الإطلاقين ورفع اليد عن الإطلاق الآخر وذلك لانّها لو كانت الحيثية الثانية من اللوازم غير المنفكة، كان لتوهم «التكليف بغير المقدور» مجال، إذ كيف يمكن أن يأمر بالصلاة وهي لا تنفك دائماً عن الغصب المبغوض، وأمّا إذا كانت الحيثية الثانية من الأُمور المقارنة، التي كثيراً ما تنفك عن الأُخرى فلا يلزم المحال في مقام الامتثال إذ في وسع المكلّف امتثال الواجب في مكان مباح.
2. انّ تصادق العنوانين على الحركة الواحدة لا يستلزم اجتماع حكمين
( 151 )
متضادين في أمر واحد لما عرفت من انّ الأحكام لا تتعلق بالخارج بل تتعلّق بالعناوين الكلية، فالواجب والحرام هما عنوانا الصلاة والغصب الكليين، ومعنى اجتماع الوجوب والحرمة في الصلاة في الدار المغصوبة هو بقاء الحكمين الكليين على عنوانيهما في نفس المورد من دون إخراج المورد عن تحت أحدهما وإدخاله تحت الآخر.
وأمّا الحركة في الدار فمع انّها ليست متعلّقة للأحكام لكنّها بما انّها مصداق للعنوان الواجب يتحقّق بها الطاعة وبما انّها مصداق للعنوان المحرم يتحقّق به العصيان، فكونها محقّقة للطاعة والعصيان ليس بمعنى كونها محلاً لتوارد الوجوب والحرمة عليها لما عرفت انّهما يتواردان على العنوانات الكلية.
دليل القائل بالامتناع
استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات نذكر المهم منها:
أ: تضاد الأحكام بعضها مع بعض.
ب: انّمتعلق الأحكام هي الأفعال الخارجية.
أمّا المقدّمة الأُولى: فتوضيحها: انّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث إلى شيء في زمان، والزجر عنه في نفس ذلك الزمان، فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في زمان واحد من قبيل التكليف المحال، أي يمتنع ظهور إرادتين جدّيتين مختلفتين في ذهن الآمر.
وأمّا المقدّمة الثانية: فتوضيحها: انّمتعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه وعنوانه، وإنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام للإشارة إلى مصاديقها وأفرادها الحقيقية.
( 152 )
ثمّ استنتج وقال: إنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاًيكون تعلّق الأمر و النهي به محالاً، وإن كان التعلّق به بعنوانين لأنّ الموضوع الواقعي للتكليف هو فعل المكلف بحقيقته وواقعيته لا عنواناته وأسمائه.
وعلى ذلك فليس للقائل بالامتناع إلاّالأخذ بأحد الحكمين وأقواهما ملاكاً، وهو إمّا النّهي ـ كما هو المعروف ـ أو الأمر .
يلاحظ على المقدّمة الأُولى: بأنّالضدّين أمران وجوديان حقيقيان كالسواد والبياض، والأحكام الإنشائية من الأُمور الاعتبارية التي لا محل لها إلاّفي عالم الاعتبار بحسب المواضعة فلا توصف بالتضاد مادام الحال كذلك.
وإن أُريد من تضاد الأحكام تضاد مبادئها في نفس الأمر من الحبّ في الأمر والبغض في النهي فقد عرفت أنّ الحبّ يتعلّق بالصلاة المجردة، عن كلّ قيد والبغض بالغصب كذلك فمتعلّق كلّغير الآخر، وهكذا الأمر في المصلحة والمفسدة.
وإن أُريد من التضاد، التضاد في مقام الامتثال فقد عرفت عدم المطاردة في ذلك المقام إذ بإمكان المكلف الجمع بين الفعل والترك.
هذا كلّه حول المقدّمة الأُولى.
وأمّا المقدّمة الثانية فهي مبنيّة على تعلّق الأحكام بالأفراد أوّلاً، وتفسيره في قولهم (هل الأمر متعلّق بالطبائع أو الافراد) بالفرد الخارجي(1) ثانياً، وقد عرفت أنّالخارج ظرف الثبوت لا العروض فكيف يمكن أن يتعلّق التكليف به.
وإن شئت قلت: إن أريد من تعلّق الأحكام بالفرد الخارجي هو تعلّقه به
1. تقدّم في ص 134 انّ مصطلح المحقّق الخراساني في الفرد هو المصداق الخارجي خلافاً لما هو المعروف بين المشايخ في تفسير الفرد.
( 153 )
قبل وجوده أو حين وجوده، فهذا نفس القول بتعلّق التكليف بالعنوانات وإن أُريد بتعلّقه به بعد الوجود فقد عرفت أنّه ظرف السقوط.
نعم بقي هنا سؤال، وهو انّه ربما يتبادر إلى الأذهان انّالعنوانات والماهيات بما أنّها ليست إلاّ هي، لا تسمن ولا تغني من جوع، فكيف يمكن أن تقع متعلّقة للأمر والنهي؟
والجواب عنه واضح لأنّمتعلق الأمر هي الطبيعة المعرّاة من كلّعارض ولاحق، المنسلخة عن كلّشيء لكن لغاية إيجادها، والإيجاد غاية للبعث وليس متعلّقاً له.
فالقوة المقننة إنما تنظر إلى واقع الحياة، عن طريق المفاهيم والعنوانات الكلية، ويبعث إليها، لغاية الإيجاد أو الترك، فيكون متعلّق كلّ في الأمر والنهي، مفهوماً فاقداً لكلّ شيء، إلاّ نفسه، لكن يبعث إليه لغاية الإيجاد، وكون الإيجاد غاية، غير كونه متعلّقاً للحكم، وعلى ذلك لا يكون عندئذ أيُّ مطاردة في مقام العمل، لأنّه بوجوده الواحد، مصداق للامتثال، ومصداق للعصيان لكن كلاّ بحيثية خاصة.
إلى هنا تبيّن ما هو الحقّ في المسألة، وبذلك استغنينا عن ذكر سائر الأدلّة للطرفين.
ثمرة المسألة
أ: حصول الامتثال مطلقاًعلى القول بالاجتماع.
إنّ القائل بجواز الاجتماع يحكم بحصول الامتثال في المقام عبادياً كان العمل أو توصلياً، إذ لا مانع من أن يتقرب المكلَّف بالمأتي به من حيثية دون حيثية، وإن كان المحبوب والمبغوض موجودين بوجود واحد، كما إذا مسح رأس
( 154 )
اليتيم في الدار المغصوبة، أو أطعمه فيها لأجل رضاه سبحانه، فيكون متقرّباً من جهة وعاصياً من جهة أُخرى، وهكذا الأمر في المقام .
ومع ذلك فالحكم بصحّة العبادة أمر مشكل وذلك لعدم إمكان التقرب بعمل يعدّ تمرّداً على المولى، وطغياناً عليه، وتغاير الحيثية الصلائية للحيثية الغصبية إنّما يصحح إمكان اجتماع الأمر والنهي،والحفظ بالإطلاقين ـ كما مرّ ـ ولا يبرر التقرب إلى اللّه سبحانه بعمل يبغضه المولى.
ولذلك كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي قائلاً ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة مع القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.
ب. حصول الامتثال على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر:
قد عرفت أنّه ليس على القول بالاجتماع إلاّ صورة واحدة، وأمّا على القول بالامتناع فله صور مختلفة، فتارة يُقدَّم الأمر على النهي ويقال: بأنّ الحكم الفعلي هو الوجوب، فيحكم بالصحة لأنّها مأمور بها وليست بمنهيّ عنها ، وأُخرى يقدّم النهي على الوجوب وهو الذي سيأتيك بيانه في الفقرات التالية.
ج. حصول الامتثال على القول بالامتناع، وتقديم جانب النهي مع الجهل القصوري:
إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي على الأمر، و كان المكلّف جاهلاً بالحكم أو الموضوع جهلاً عن قصور فيحكم بالصحة، لعدم فعلية الحرمة لأجل الجهل بها فلا يكون العمل مصداقاً للتمرّد والطغيان، والأمر وإن كان مرفوعاً حسب الفرض (تقديم الحرمة على الأمر) لكن يكفي في صحّة العبادة، التقرب بالملاك وهو كون العمل في هذه الحالة محبوباً للمولى .
د. بطلان العمل على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي مع الجهل التقصيري:
( 155 )
إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي وكان الفاعل جاهلاً بالحرمة أو الموضوع عن تقصير فالحكم هو البطلان; وذلك لأنّ الصحة معلول أحد شيئين: إمّا الأمر وهو مفروض الانتفاء لتقديم جانب النهي على الأمر وفعليته، و إمّا الملاك، وهو غير معلوم الوجود للفرق بين العمل الصادر عن جهل قصوري للفاعل، والعمل الصادر عن جهل تقصيري له وإحرازه فرع الأمر والمفروض عدمه.
ومنه يعلم حال الناسي المقصِّـر، فلا يحكم بصحة صلاته إذا نسي الحكم أو الموضوع عن تقصير.
هـ .بطلان العمل على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي مع العلم بالحرمة:
إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي وكان الفاعل عالماً بالحرمة لا جاهلاً ولا ناسياً فالحكم هو البطلان، لأنّ الصحّة رهن أحد شيئين: إمّا الأمر وهو مفروض الانتفاء، وإمّا الملاك وهو غير معلوم، لما مرّ من انّ احرازه فرع الأمر و هو منتف .
هذا تمام الكلام في جواز الاجتماع وعدمه.