آراء و أفکار مع سماحة آیة الله الشیخ السبحانی

نسخه متنی -صفحه : 5/ 2
نمايش فراداده

 

آراء وأفكار مع سماحة آية الله الشيخ السبحاني

حاوره : محسن الأسدي

 

في موسم الحجّ ، وبالذات عند أداء مناسك هذه الفريضة المُباركة ، التي وصل عدد الحضور فيها ثلاثة ملايين أو يزيدون ، يتعرّض كثيرٌ من الحجّاج الكِرام إلى مشاكل كثيرة ، ومتاعب خطيرة ، دفعتنا إلى التماس حلٍّ لها في فتاوى الفقهاء وآرائهم ، فلعلّها تساهم في تخفيف معاناة الحجّاج ، وتدرأ عنهم المخاطر . . .

 

وها هو سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني ، فقيه من فقهاء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ، يتفضّل مشكوراً بالإجابة عن الأسئلة ، التي وجّهها له الأُستاذ محسن الأسدي عضو الهيئة العلمية لمجلة «ميقات الحج» .

 

* * *

 

* حدود الطواف ، وما يسبّبه ضيق المطاف من حرج ، هلاّ تفضل سماحتكم بالحديث عن هذه المسألة بشكلها الفقهي؟ علماً بأنّ هذه المسألة (الطواف بين البيت والمقام) ليس لها أثر مهمّ في دائرة الفقه السنّي لسعة دائرة المطاف عندهم ، وإنّما هي مسألة يبدو أنّها مختصّة بالفقه الشيعيّ .

 

* إنّ المطاف هو الحدّ الفاصل بين الكعبة ومقام إبراهيم وهو يقرب من نحو 12 متراً ، فعلى الطائف أن لا يخرج عن هذا الحدّ في الجوانب الأربعة للكعبة .

 

غير أنّ مبدأ هذا الحدّ في الأضلاع الثلاثة هو جدار الكعبة . وأمّا الضلع الذي يتّصل به حجر إسماعيل ، فالحدّ الفاصل يُحسب من جدار الحجر إلى نهاية 12 متراً ، لا من جدار الكعبة ، وبذلك تعالج المشكلة في كثير من الفصول وقسط كبير من أشهر الحجّ .

 

وهذا القول هو خيرة الشهيد الثاني في الروضة1 ومال إليه في المسالك2واختاره في المدارك3 ونفي الإشكال عنه في الجواهر4 ، وإن عدل عنه أخيراً كما اختاره لفيف من المعاصرين .

 

ويمكن استظهاره من رواية محمّد بن مسلم5 لكن بشرط الإمعان فيها ، ومع ملاحظة ما ورد في البابين 30 و 31 من أبواب الطواف .

 

نعم هنا مشكلة أُخرى وهي عدم كفاية هذا الحدّ الفاصل (حتّى مع حساب المسافة من جهة الحِجر) عند وفود الحجاج في أوائل شهر ذي الحجة الحرام ، فإنّ الالتزام بالطواف في هذا الحدّ يسبب الحرج الشديد الذي لا يطاق ، فلا محيص من القول بأنّ المطاف أوسع من هذا الحدّ الفاصل بالبيان التالي :

 

إنّه سبحانه يأمر جموع الحجيج الحاضرين في المسجد بالطواف بقوله {ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }6 هذا من جانب .

 

ومن جانب آخر يقول سبحانه : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}7 .

 

فمقتضى دعوة الحاضرين في المسجد إلى الطواف مع رعاية عدم تسبّب الحرج ، هو كون المطاف في هذه الظروف أوسع من الحدّ المذكور مع ملاحظة الأقرب فالأقرب .

 

وقد روى الصدوق في الفقيه بسند صحيح ، عن أبان بن عثمان ، عن محمّد بن علي الحلبي قال : قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الطواف خلف المقام ، قال : ما أحب ذلك وما أرى به بأساً ، فلا تفعله إلاّ أن لا تجد منه بداً8 .

 

وقوله : « ما أحب ذلك » ظاهر في الكراهة وهي تزول مع الضرورة .

 

على أنّ لفيفاً من الفقهاء كالصدوق في الفقيه9 والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة10 ذهبا إلى جواز الطواف خارج المقام اختياراً ، وخصّه ابن الجنيد11بصورة الضرورة .

 

* تكرّرت الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات خاصّة في السنوات الأخيرة . . . لأسباب منها سوء الإدارة والتنظيم ، أو جهل الناس بأحكامهم ، أو لعجلتهم في أداء هذا المنسك . إلاّ أنّ هناك من يلقي باللوم على الفقهاء في أنّهم عسّروا على الناس الشريعة وهي السهلة السمحاء ، بل ولم يعلّموا الناس أحكامهم .

 

فهلاّ يبيّن سماحتكم الموقف الفقهي بشكل جليّ لهذه المسألة؟ وهل هناك مجال أو حلّ شرعيّ يساهم في درء مثل هذه الحوادث أو تخفيفها على الأقل؟

 

* إنّ لتكرر الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات سبباً آخر غير مذكور في السؤال وهو ظاهرة «الافتراش» فانّ كثيراً من البدويين يسدّون طريق الحجيج من خلال افتراشهم . الأمر الذي يفرض على الحكومة السعودية أن تُجليهم عن المكان وتتخذ لهم أماكن سكن مناسبة .

 

وهناك أُسلوب آخر لحلّ الأزمة وهو استغلال اختلاف الفتاوى بالنحو التالي :

 

إنّ أصحاب المذاهب الأربعة يخصّون جواز الرمي في اليوم العاشر من ذي الحجة بما قبل الظهر ، كما أنّهم يخصونه في الحادي عشر والثاني عشر بما بعد الظهر ، فعلى الشيعة لا سيّما غير الأقوياء أن يستغلّوا هذا الظرف المُناسب من خلال الرمي في اليوم العاشر بعد الظهر وفي اليومين الأخيرين قبله .

 

على أنّ الأقوى هو جواز الرمي من فوق الجمرات عبر الجسر الجديد الذي يمتد فوقها .

 

هذا هو الحلّ العاجل ، غير أنّه لابدّ من حلّ الأزمة جذرياً دون أن تمس أصل الحكم الشرعي .

 

* غالباً ما يكون الذبح خاصّة في السنوات الأخيرة خارج منى، فما هي حدود منى؟ وهل تتّسع بكثرة الحجيج؟ وهل يصحّ الذبح خارج منى كأن يكون في بلد الحاج ، إذا لم تتوفر شروط الذبح الشرعية بشكل كامل؟

 

* منى بلدة قريبة من مكّة ، وهي أقرب المواقع الرئيسية إلى مكّة ، ثمّ المزدلفة ، ثمّ عرفة ، فإذا دخلت منى من مكّة كانت أول جمرة ، هي جمرة العقبة ، وحدّ منى هو ما بين جمرة العقبة ووادي محسِّر طولاً ، وأمّا عرضاً فهو ما بين الجبلين أو الجبال الشاهقة ، فوادي محسِّر أبعد من مكّة من منى ، وإنّما يقع بينها وبين المزدلفة .

 

وأمّا مسألة الذبح ، فيجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، فإذا أمكن الذبح في هذه المدّة بمنى فيقدم ذلك ، فإذا لم يتمكن كما هو السائد عند كثرة الحجيج ، فيجب الذبح خارج منى في وادي محسِّر مع الأخذ بنظر الاعتبار الأقرب فالأقرب ، ولا يجزي الذبح في بلد الحاج وكالةً . وقد قال سبحانه : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }12 وهو لا يتحقّق إلاّ أن يكون الذبح في الأرض المقدّسة .

 

* كيف ترون مناسك الحجّ وأداءها مستقبلاً مع عظمة القادمين لأداء هذه الشعيرة المقدّسة وكثرتهم ، واحتمال إجراء تغييرات عمرانيّة تتناسب وكثرة الحجيج ، فهل يكون للفقه الزمكاني أثر يذكر في هذه المسألة؟

 

* قد ذكرنا في رسالة مستقلة13 دور الزمان والمكان في الاستنباط ، وأشرنا إلى بعض الروايات الواردة في هذا الموضوع عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، والتي تناهز العشرين رواية ، كما ذكرنا كلمات الفقهاء من عصر الصدوق إلى يومنا هذا من الفريقين ، وذكرنا أنّ الظروف الطارئة لا تمسّ كرامة الأحكام الواقعية ، ولا تحدث أيّة خدشة فيها ، ولكن يؤثر في أساليب تنفيذ الأحكام ، فالأحكام ثابتة وأساليب تنفيذها متغيرة، ومنهاالحج، ولابدّ أن يكون كل تغيير عمراني تقتضيه كثرة الحجيج خاضعاً لهذا الإطار ، أي أن يكون الحكم الواقعي ثابتاً وأُسلوب إجرائه متغيراً .

 

وإليك نموذجاً من هذا النوع :

 

لا شكّ أنّ هناك أُموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير :

 

1 . الاستطاعة : قال سبحانه : {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}14 .

 

2 . الفقر : قال سبحانه : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ والْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}15 .

 

3 . الغنى : قال سبحانه : {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}16 .

 

4 . بذل النفقة للزوجة : قال سبحانه : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}17 .

 

5 . إمساك الزوجة بالمعروف : قال سبحانه : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}18 .

 

ومن الواضح أنّ مصاديق هذه الموضوعات تتغير حسب تغير أساليب الحياة ، فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ ، لا يعدّ مستطيعاً اليوم ، لكثرة حاجات الإنسان في الزمان الثاني دون الأوّل ، وبذلك يتّضح حال الفقر والغنى ، فربّ غني بالأمس فقير اليوم .

 

ـ كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس والمأكل والمسكن ، وأمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعدّ عمله بخساً لحقها ، وامتناعاً من بذل نفقتها .

 

* وختاماً ـ ومع شكرنا الجزيل لسماحة الشيخ ـ لابدّ لنا من العروج إلى ثمرات هذه الفريضة ، فمنافع الحجّ ، الثقافية والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة . . . كثيرة ، هذا إضافة إلى منافعه العباديّة وهي الرئيسية فيه والأهم ، فالحج يلتقي فيه البعدان الروحي والمادي ، الاخروي والدنيوي . . . ، فهلاّ يتفضّل سماحتكم بالحديث عن هذه المنافع ولو بشكل مختصر؟

 

* الإمعان والدقّة في الآيات الواردة حول الحجّ ومناسكه ، وما رويت حوله من النبي الأكرم والعترة الطاهرة من الروايات ، وما استقرت عليه سيرة المسلمين في القرون الأُولى الإسلاميّة ، يعرب عن أمرين مهمين ، يُعرّفان ماهية الحجّ وحقيقته وأهدافه وهما :

 

إنّ الحجّ عمل عبادي وفي الوقت نفسه ملتقى سياسي للمسلمين ، ويطيب لي أن أذكر كلا الأمرين بعبارات موجزة مستشهداً بآيات الذكر الحكيم ، وما أثر في ذلك المجال .