وصراعهما، على كل المستويات؛ وفي كل العصور.. والقضية ذات تفاصيل..
قلت لصديقنا عمر: لِمَ لم تعاتب وجيهَ البارودي، يومذاك؟..
وكان العذرُ مجتمعياً؛ ففي المدينة، يومذاك. طبقية مركبة؛. فالفقراء: طبقة تخشى الأغنياء.. والأبناء: طبقة تخشى الآباء.. والشهويون المشبعون: طبقة تقمع الخجلين الجياع.. والغواني والعذارى: رمزان لهذين المستوين، بكل مجال؛ لذلك تنحَّتِ العذارى خائفة من الغواني.. وكانت شهرةُ الغواني: ومغمورية العذارَى..
وبعد أربعين عاماً: هل تغيرت الأحوال؟ وهل تغيَّر رأي العقاد في المشهورية والمغمورية، وسمات عالم الشهرة؟!
لا أظن "عذارى" عمر موسى باشا: وحدها عانتِ الوأدَ.. بل كثيرات هن عذارى التراث اللواتي عانين الوأد، جداً أو مزحاً..
فما يستدعي الدارسون إلاَّ الغواني الرمزية؛ وذلك أنسب "للف والدوران" ولو كان "نوعاً من الهذيان" كما سمعنا من وجيه البارودي...
أضرب أمثلةً من وأد عذارى التراث العربي؛ أفلح الوائدون أم لم يفلحوا:
1- امرؤ القيس من عصر ما قبل الإسلام: استقر أحدث دارسي عصره على رأي ابن سلام الجمحي، واعتبر "شاعر التعهُّر الأكبر".. وكأنه لم يقل إلاَّ أبيات "الحبلى والمرضع" التي يؤيدون رأيهم بذكرها..
قلت لعبد الغني زيتوني، صاحب "الإنسان في الشعر الجاهلي"، عشية مناقشته 20/6/1987: أن يرى قصائد الديوان؛ مثل: 1، 2، 49، 77؛ و: 7؛ و11، 78.. ففيها لم يظهر تطور المسألة عند امرئ القيس؛ وهو لعَن أبيات التعهر، وسمَّى تلك المرحلة: السَّفاه؛ والعماية، والرَّدى؛ وأشرت إلى أبياته التي تصور قيماً منافية لتلك السقطات التي شهرت لحساب "الغواني" ووئدت منافياتها لأنها لحساب "العذارى"؛ من أقواله لاعنة التعهر:
وكنتُ امرأً في الشباب
أصيد الغواني إذا ما اشتهيت
فأصبح قد بان مني السفاه
وأبصرت أمري ثم ارعويت..
إنه اعترف بالسَّفاه وتجاوزه.. ولكن دارسيه لا يزالون بذلك يتمسكون..؟!
صار لـه صور بديعة يتحدث فيها عن الجمال مقروناً "بمنارة ممسى راهب متبتل".. ويتحدث عن الطبيعة مرتبطة "بذي العرش الواحد".. وعن طبقات المجتمع "مسرعةً لأمرِ غيب".. وعن الموت المحيط بالشهوات...
هذه القيم وئدت لحساب الغواني..
2- المتنبي عند شوقي ضيف في رسالة الدكتوراه التي أشرف عليها طه حسين.. ماذا نظن به؟..
اليقين عند صاحب الفن ومذاهبه في الشعر العربي: "أن المتنبي شاعر متصنع لا أصالة في شعره.. والشعراء في قرنه الرابع الهجري: قد هجروا كل أصالة في الشعر.. ومن الخطأ: أن نطلب إلى شاعر في هذا القرن أن يعبر تعبيراً يبدو فيه شيء من الأصالة".. (ط3/ ص241).
والمتنبي: أحْسَنَ أساليب الصوفية وفاق متصوفة القرن الرابع، حتى قلده المتصوفة، أمثال ابن الفارض.. ولا عجب، لأنَّ أبادبوبة ليس حماراً، ومع ذلك فعندما ينهق في سوق المكارين، بباب الكرخ: لا يبقى حمار إلا وينهق.. وكذلك حال المتنبي والمتصوفة.. (238- 239)..
أيحتاج المتنبي من يدافع عنه؟
لكن مثال الوأد واضح: للأصالة التي تعني الصدور عن الطبع لا عن التقليد.. وللتصوف الذي يعني التماسَّ مع الفطرة والاغتمار بها.. ويمكن لدارسٍ ذكي أن يكتب رسالة دكتوراه على "أصالة المتنبي وعرفانه".. وتكفي الأمثلة هنا..
أردت بعثَ "العذارى" بعرض هذا المقدار السَّريع من "عذارى الأصالة والطبع" في شعر المتنبي، بعدما وئدت في "الفن ومذاهبه"..
وتبقى ملاحظة مقنعة:
من الطبيعي: أن يتلاشى رونق كلّ شعرٍ في حضرة الجمالِ العذريِّ المطلق..
ولئن كانت مقابر "وأد العذارى" في دراسات الدارسين، فقد رأى محمد النويهي "جهلاً يعمُّ سائر النقاد" في "ثقافة الناقد"..
ليست وجهتنا كالنويهي: فنحن لا نظن بالتعميم صالحاً للأحكام؛ وجهل سائر النقاد: ليس حكماً عامّاً، بل حكماً ينسحب على خصوصٍ يريده صاحب "ثقافة الناقد الأدبي" (ص37)..
وليست وجهتنا كالعقاد: فليس شعراء عصرنا مصوري "عالم حمير" وحسب.. وإن كان يعني منهم الشهويين برؤوس الأخطبوط الممتص بكل حباله ورؤوسه.. فإن من الشعراء العصريين من يصور عالم الإنسان وعالم الرحمن وما بينهما من ممكنات "المرسَلات" من رياح الطبيعة وملائكة الروح...
والاحتراس من قبول أحكام النويهي في تجهيل سائر النقاد.. وأحكام العقاد في توظيف الشعراء المشاهير لتصوير ما يهم "عالم الحمير".. لا يعني أننا نقبل من مدرسة الجمحي جموحها في "وأد العذارى" الشعرية لصالح الغواني التعهرية.. ولا يعني أننا نقبل من مدرسة ماسينيون وطه حسين وشوقي ضيف ومن ذهب في سبلهم: "وأدَ عذارى" الطبع والأصالة والكشف الصوفي عند المتنبي وشعراء القرن الرَّابع.. بل نقبل وصية لقمان لابنه وما يماثلها..
إن وجهتنا: سبيل احتراس؛ لتحرس الوعي بجنود الذوق السليم وحكماء الشفاء..
وهذه التوعية الحارسة: تريد من أذكياء القراء الاعتداد "بالعذرية لا بالشهوية": أعني بطهر الأصالة لا بالنعيق مع كل ناعق؛ ومهما يكن ذلك الناعق مشهوراً، فالأصالة والعفوية أهدى للحق وأعذب إيقاعاً.. فرويد ولورنس: من المشاهير؛ ودارسو أدبنا: يكررون آراءهم؛ ففرويد: يرى العمل الأدبي تعويضاً عن نقص ما، وغالباً هذا النقص جاء من كبتٍ يذكر بعالمٍ آخذنا العقاد لاتهام الشعراء بوصفه... ولورنس: يعتقد أن الأديب يصب مرضه في عمله الأدبيّ..
قد يصح هذان الرأيان على زيد أو عمرو من المشاهير.. لكن أدب الصحة: موجود عند الأصحاء..
وجهتنا الحارسية: تأخذ باليد إلى "بعث العذارى"؛ وهي أشبه بالعيادة التربوية تفترض وجود الأمراض وتحترس منها؛ لكنها تعتقد بأصالة الصحة وعرضية المرض، على كل مستوى من مستويات الحياة.. لذلك نكوي تورم الشهوة لترشق بالطهارة.
أحياناً يخطئ الشعراء كالنقاد في المطابقة بين مشاعرهم وما يتحدثون عنه: فيكون انفجار وصعق مثل الذي يحصل من تعامل جاهل مع أسلاك الكهرباء ومفاتيحها.. وتصيب الآثار غير الشاعر..
أمثل برسالة دكتوراه ثالثة، حول "القصيدة المعاصرة المتكاملة"؛ وقد قدمها ومُيِّز بها خليل موسى.. بعد مناقشةٍ نبهته فيها إلى خطأِ شاعره خليل حاوي في قصيدته "لعازر".. لأن حاوي أنطق "لعازر" ظلماً وماهو ليهوذا الأسخريوطي..
وجعل لعازر: يلعن رحمة المسيح.. وصور المسيح بإحياء لعازر: مثل سفير أجنبيٍّ، في عصرنا، يُخرج الأبطالَ من جيبه..
كما أسقط على شخصية لعازر: ملامح امرأةٍ لا ترى من المعجزة شيئاً، بل هي تتشهَّى في السرير، خلف زوج لا يجير.. حتى ليرحم القارئ المنتبهُ العقادَ: لإحسانه تصوير هموم الشعراء بما تهتم به الحمير عادة...
أستغفر الله تعالى وأعوذ بقدوسيته، إن التعامل مع الأدب بما هو عليه كالتعامل مع الأورام الخبيثةِ أحياناً، يحتاج احتراساً ومرونة.. أو تكون النتيجة كالتي كانت ليهوذا بعد خطئِهِ مع المسيح.. ولحاوي بعد خطئِهِ مع لعازر والمسيح معاً.. فيهوذا وحاوي: انتحرا..
نريد أن ننحَر الذبائحَ نذوراً: ليخلصنا الله من الخطأ مع الحقِّ وأهله؛ مع الذوق وأهله؛ إنَّ الذوق سبيل الحق؛ وأهل الذوق أمه واحدة..
لذلك أنوي أن تكون كلماتي نذوراً وقرباناً أقرّبه لسيدة العذارى؛ فمريم أم المسيح هي ممثلة العذرية الجوهرية؛ لأنها اختيرت لإنجاب من يفوق التخييل والإعجاز..
أختم بتحيتها وردود نفوسي على تحياتِها المنبعثة من دغدغة "الكلمات المفترة عن الحضرات"... وعلى نية بعثِ النفوس العذارى، لكل مستوى: أذكر من خصوص ما قيل:
كلُّ أنثى من النساءِ
وعذراء تلقَّت من الإله اختيارا..
يلطُفُ الشعرُ كالطفولةِ ضعفاً
عند حسن مقدَّسٍ بالعذارى..
دمشق 27 محرم 1408هـ