* حسن التل ( الاردن )
رئيس تحرير
صحيفة اللواء الاردنية
(كَيْفَ وإنْ يَظْهَروا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فيكُم إلاًّ ولا ذمّةً يُرضونَكم بأفْواهِهموتأبى قُلوبهم وأكثرهم فاسقون)([1]) .
لقد بلغ به الغيظ حدّاً سلب كلماته القدرة على اخفاء ما يجيش به صدره من استعلاء واستصغار وأطماع ، فلم يكتف بالرسائل المكتوبة أو الهاتف الساخن، بل ضغطت عليه اعصابه إلى الحد الذي دفعه إلى قطع المحيط ، ليفجر ما في صدره على مسمع مثيله في واشنطن ، كأن واشنطن بحاجة إلى من يضغط عليها ويستثيرها ، ولكنها الصيحة التي كشفت المستور وأظهرت الامر على حقيقته عارياً من كل تورية .
فقد قذفها بكل عصبية وحدّة واستعلاء ، وكأنه يحذر من أمر جلل إذا لم تؤخذ له العدّة ويحتاط له بكل تدبير ، ويغير تضاريس الارض ويعيد ترتيب المؤثرات المختلفة ويرسم خريطة جديدة للعالم ، ليس على الارض فقط ولكن في النفوس والعقول والسلوك .
ذلك ما تضمنته كلمات وزير خارجية فرنسا إلى مثيله الاميركي وهو يحذره من الخـطر الداهم في بعـض الاقطار العـربية ، التي عجزت بها الانظمة ـ على زعمه ـ عن مغالبة الارهاب الاسلامي ، الذي استعمل كل المحرمات ومضى يعيث في الارض فساداً ، فإذا لم يضاعف الدعم لتلك الانظمة فإنّ الخطر الداهم من الاسلام القادم لن يقف عند حدّ .
يا سبحان اللّه ! كأن الفرنسيين والاميركيين وأجدادهم عمروا الارض وملؤوها عدلاً ، فلم يذيقوا الناس مرارة الجوع والخوف ، وكأن تلك الاقطار التي لم تجد ملاذاً لها إلاّ الاسلام ، بعد أن صنعت بها سياستهم وسياسة من استخلفوهم عليها ما صنعت ، فأجدبت الارض عليها وجفت الينابيع وانقطع قطر السماء ، وسيم الناس فيها ألوان الخوف والظلم ، وحرموا من أبسط الحقوق ، وبلغ المنع إلى الحد الذي حاولت فيه أن تطبق قيمك على سلوكك في اللباس والحركة ، فأنت خارج عن اطار الشرعية الغربية ، تحمل مفاهيم مختلفة وتمارس ابشع أساليب الارهاب على الشعوب الاخرى ، لانها تستعلي على غيرها على رغم كل الاقنعة والصياغات الدبلوماسية المختلفة ، وأنّ حاضرها لم يختلف عن ماضيها ، فمنذ الحروب الصليبية وموجاتُ الاقتحام العسكري تتتابع ، والاستعلاء الفكري الذي ينفي الاخر ويرفض أن يبيح له ما يبيح لنفسه، لم يألُ جهداً على مدار التاريخ في دفع الحملات الصليبية التي رفعت راية الصليب قديماً ، كما رفعت بالامس القريب راية الاعمار ، وها هي اليوم تحمل راية الديمقراطية والتقدم . وقد كانت في كل الظروف تكاد تنفجر غيظاً وحقداً علينا ، وقد أصبح هذا الحقد جزءاً من نسيج الحياة كلها ، حتى رجال المبادئ والافكار ، مثل مارتن لوثر ، لم تسلم منهم حركة التشويه التي قادها الغرب الحاقد على الاسلام ، بل تجاوز هذا اللوثر عملية التشويه العام ، وتطاول بقسوة وبشاعة على سيد الخلق الرسول المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، كما توجه الشاعر الانجليزي بيرون لقتال المسلمين في جبهات المعارك ، ليس على ارض انجلترا فقط ، بل ذهب بعيداً إلى اليونان . ولا اريد ان ازيد بضرب الامثلة في الماضي ، فإنها تحتدم في كل نقطة تماس ، ولكنني انتقل إلى الواقع واكتفي بعار العصر الذي كشف زيف هذه الحضارة ، وأماط اللثام عن احقادها وأنيابها . وهذا هو رئيس وزراء بريطانيا يحذر وزير خارجيته من خطر قيام أي وجود سياسي للاسلام في اوربا ، فأصرّ على حظر أيّ نوع للسلاح على المسلمين في البوسنة والهرسك ، وهدده بالخطر الذي قد يلتقي مع العرب الافغان الذين ساعدت اوروبا واميركا في اعدادهم ، على أمل أن تستعملهم في وجه أعدائها الشيوعيين ، ولكن اللّه أراد شيئاً آخر ، فأسقط الشيوعية ، وأُسقط بأيدي الذين اوجدوا ظاهرة العرب الافغان ، وحماقاتُهم هي التي فجرت العلاقة بين العرب الافغان وبين بعض الانظمة ، فبدلاً من استيعابهم والاستفادة من قدرتهم في المرافق التي يحسنونها ، اخذوا يصوّرونهم تصويراً يبعث على الريبة والشك فيهم ، واستعْدَت عليهم الانظمة فكان الصدام الدامي الذي جعل وزير خارجية فرنسا يبعث انذاره ، ويعلن عن خوفه من الخطر الداهم .
أما موقف الغرب من مسلمي البوسنة فقد كسر الابريق ، وجعل نيكسون وهو على فراش الموت يقول : إن حالة مسلمي البوسنة ما كان لها أن تكون لو كانوا غير مسلمين ، وإن الاسلام هو الذي أجج الحقد العالمي عليهم ، وفعل فيهم ما فعل، فقد كان حظر السلاح واقعياً محصوراً بالبوسنة ، لان صربيا من أكثر البلدان الاوربية تصديراً للسلاح ، فالحظر لم يطل سوى المسلمين الذين كانوا يحاربون ببنادق متهرّئة ، وكذلك الحصار فقد كان مقصوراً على المسلمين ، لكونهم محصورين بين الغرب من جهة وبين حلفائهم الكروات من جهة اخرى ، فلا مصانع سلاح ولا بحار ولا شواطئ لديهم . واذن فقد تُرك المسلمون تحت رحمة الغرب . وعندما رفع الغطاء عن معسكرات الاسرى المسلمين لدى الصرب ، وظهروا على شاشات التلفزيون بهياكلهم العظمية ، وكراماتهم المستباحة ظن المسلمون ان العالم سيهرع لنجدتهم ، ولكن واقع الحال كان وما زال غير ما فكّر به المسلمون وظنّوه لان كل مخابرات العالم وأجهزة رصده كانت تعلم بوجود معسكرات الاعتقال والتعذيب والموت ، لكنها غطّت على الموضوع أملاً أن تبادر الصرب وتضرب ضربتها في تصفيتهم من الارض كلها .
ترى أين ارهاب ما يسمى بالاصولية الاسلامية إلى ما يصنع في البوسنة والهرسك ؟! بل أين ردود الافعال التي يقوم بها هؤلاء المحرومون من أبسط الحقوق الانسانية ; من حرية التعبير عن الرأي ، وممارسة قناعاته العقائدية في اطار القانون ، قياساً لما تقوم به الانظمة من وسائل وأساليب تأجيج النار ومضاعفة الفتن ، فبدلاً من ترشيد التديّن وتوجيه الاُمّة إلى التحلي بفضائله ، قلّلوا جرعاته في مناهج التعليم ، وسعوا إلى تجفيف ينابيعه في المجتمع ، الامر الذي عكس النتائج وضاعف من بؤر الاختراق ، إلى الحد الذي جعل الاسلام الحركي هاجس الغرب ، فبرز تناقضه في التعامل مع الاسلام والمسلمين ، فالجمع بين الغرب والاسلام في عنوان واحد ، كما يقول الاستاذ فهمي هويدي، يثير الكثير من المشاعر المتضاربة ، فهو الذي احتفى به في الخمسينات والستينات ، حينما دعا إلى ما سمي بالحلف الاسلامي ، وأيد الجهاد الاسلامي في افغانستان ، وقد احتفظ بعلاقات مع عدة دول اسلامية في الوقت الذي صنع فيه ما صنع مع المسلمين البوسنيين من وسائل الابادة . وهذا موقفه من الديمقراطية عندما صفق بحرارة للذين قطعوا الطريق على فوز الاسلاميين ، بالاضافة إلى ما يمارسه من مختلف الضغوط على الدول التي تحاول المضي على النهج الاسلامي . وأحسب أن موقفه من الثورة الاسلامية الايرانية ، وما حاول من وسائل ودبّر من حروب ومؤامرات، والذي ما زال يفعله من حصار وتضييق عليها وعلى السودان ، لا يكفي اللبيب فقط للتدليل على نواياه بل غيره أيضاً .
فالغرب لا يريد للمسلمين أن يكونوا أصحاب قرار ، ولا يريد لهم أن ينهجوا الطريق الطبيعي في حركة الحياة ، بل إنه يفرض عليهم التبعية بالقوة ليبقوا حيث هم أدوات بين أصابعه ; لا يتحركون إلاّ بالمقدار الذي يحدده لهم ، يتحكم بنفطهم ومواردهم الاُخرى ، بل إنه يراقب مسارهم العام ويسعى لاجهاض كل محاولة للتقدم بهم إلى الامام ، ليبقوا هم وما تحت أيديهم في اطار مشروعه السياسي المهيمن ، الذي لا يرى إلاّ مصالحه وعوائده ونفوذه ; فهو مع الاسلام الذي يرضى بتطلعاته ونفوذه ، ولكنه إذا تمرد على نفوذه ومسّ مصالحه ورفض هيمنته ، فهي الحرب المدمرة التي تبيح كل الوسائل .
ومن هنا جاءت هذه التجزئة للاسلام ، وهذا الاختلاف بالنظرة والتعامل ، فإن كان الاسلام هو اسلام الخائفين المستسلمين القابلين بما يملى عليهم ، فالغرب قد يكظم غيظه ويخفي حقده وإن كان يغيظه في حقيقة الامر بناء مسجد في الصحراء، لان المسجد يحتاج إلى مؤذن والاذان يجمع المصلين ، واجتماع المسلمين في المسجد وبين أيديهم القرآن يذكّره بقول (جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا سابقاً : « ما دام هذا القرآن بأيدي المسلمين فلن تقوم للاستعمار قائمة في الشرق » فكيف إذا ظهرت على امتداد الساحات الاسلامية حركات اسلامية قادرة على فهم سياسة ملمة بوسائل العصر ، مدركة لاهداف القرآن بالوحدة والحرية والاستقلال ؟! إن في ذلك الخطر الذي لا يفقد التوازن فحسب ، بل إنه يفقد الوعي ، فعلى رغم الدعاوى العريضة للديمقراطية وحقوق الانسان ، وغيرهما من شعارات ، حُرّم على الاسلاميين في معظم أقطارهم أن يقيموا أحزاباً وتجمعات سياسية تحت شعارات اسلامية ، وأن يتحركوا كذلك في اطار المضامين الغربية في السياسة والثقافة ، إذا تجاوزت الحدود المرسومة لها . وفي الجزائر والسودان شاهد على ذلك ، بل إن الازمة التي افتعلتها بريطانيا مع ماليزيا ، وما ترتب عليها من عقوبات لانها حاولت أن تحترم نفسها في تعاملها مع الاسياد ، غطى عليها الاعلام الغربي فبقيت نسبة المطلعين عليها محدودة .
أما نتيجة الانتخابات البلدية في تركيا فقد كانت زلزالاً قلب الموازين والمعادلات السياسية ; فتوحدت الاحزاب في وجه هذا الزلزال وتشكلت المليشيات ، والتهديد بتحرك الجيش متوقع . كل ذلك لان حزب الرفاه أحسن مخاطبة الوجدان التركي ، وذكّره تاريخه ودينه، فوجد فيه ضالته ليتخلص من هذا الضياع الذي أعقب سقوط الخلافة ، فاستجاب لدعوته وقدمه إلى الصفوف الاولى ، فضاعت جهود العلمنة وفشلت عملية التتريك ، وعاد الشعب التركي إلى ذاته واستحضر وعيه ، كما حدث مع الشيوعية بالنسبة للمسلمين بعد أن انهارت الشيوعية ، سواء أكان ذلك في الاتحاد السوفياتي أم في الاتحاد اليوغسلافي .
لقد كان من المفروض على الغرب أن يدرس المتغيرات التي افرزتها حركة التاريخ ، ليعرف كيف يتعامل مع الواقع الاسلامي من خلال المستجدات ، ويرسم سياسته ويكيّف تحركه ويقيّم تعامله مع المسلمين ، حتى يحافظ على ما يستطيع من مكتسباته ، وليس على أساس عقدة التاريخ التي قامت على الصراع .
إن العقل والمنطق والمصلحة تفرض على الغرب ، إن كان في مستوى المرحلة الحضارية التاريخية ، أن يستفيد من معطيات المعرفة والعلم التي وصلت اليها الانسانية التي يمتلك ناصيتها ويسخّر انجازاتها ، فإنه إن يفعل ذلك يكن قد سار على الطريق الاسلم ، لان التكيّف مع الاحداث هو سمة العاقل القادر على مواصلة مشواره مع حركة الحياة .
أما إن بقي محكوماً بعقدة الصراع ونفسية الاستعلاء ومفهوم الحضارة الاسبارطية ، فإن نظرية الصراع تؤكد حتمية التغير . ومن هنا يبدو الفرق بارزاً بين التعاطي الياباني مع الصحوة الاسلامية ، والتصرف المحكوم بالهوى الذي يحدد السلوك الغربي معها .
لقد تحركت مجموعات عديدة من الخبراء ورجال الاعمال والمشتغلين بالدراسات الفكرية والسياسية ، وقامت بزيارات واتصالات مباشرة على ارضية الواقع ، لفهم الظاهرة الاسلامية والتحولات المؤثرة في المنطقة ، لتقيم تواصله بالعالم الاسلامي الذي هو سوق منتجاتهم ، ومصدر لتوفير احتياجاتهم .
إن حركة الاستشراق الياباني تنشط نشاطاً واسعاً في الوطن العربي والعالم الاسلامي ، لتقيم علاقاتها المختلفة على اساس من المعرفة ، التي تحقق لهم حسن التعامل والتعرف الذي يحقق لهم المصلحة ، ويرشدهم إلى الواجب الذي عليهم أن يقدموه للابقاء على استمرار هذه المصلحة ، وتطوير الاسباب التي تنمو في اطارها العلاقات بإيجابيات مشتركة .
لقد استحكم الحقد والغرور على الغرب فلم يستطع أن يخفي أطماعه ، فكشر عن انيابه وفرض رغبته دون أن يلتزم بأدب مع ما تفرضه الاخلاق والواجب ، بل لقد أعمته مصلحته عن ادراك المتغيرات التي طرأت على حركة التاريخ ، ونسي وهو خاضع لتأثير مصلحته انكشاف المخبوء من مخزون احقاده ، حتى لدى الذين ائتمنهم على هذه المصلحة في ديار الاسلام ، فاستشعر الجميع خطر هذا الجنون ، وأخذوا يضيقون به ذرعاً لمعرفتهم بالنتيجة التي ينتهي اليها الجنون في كل زمان ومكان .
وليست صيحة وزير خارجية فرنسا في واشنطن إلاّ مظهراً من مظاهر هذا الجنون . فماذا يريد لنا الغرب بعد هذا الانهيار الذي انتهت اليه مرحلة كاملة من تعاملنا معه ، نهايةً أفقدتنا كل اسباب المناعة ؟!
إن الامر الطبيعي لكل اُمّة آلت اوضاعها إلى ما آلت اليه احوالنا ، هو أن تعود إلى دينها تتحصن به وتقيم استراتيجيتها الجديدة على تعاليمه ، لتعيد تكوين استقلال شخصيتها وبناء ذاتها .
ولقد أدرك العرب والمسلمون ، من خلال تعاملهم كل هذه المدة الطويلة مع الغرب ، أن الاسلام وحده هو القادر على أن يعيد لهم ذاتهم ويرمم وجودهم ، وإلاّ فإن الفناء مآلهم .
وإن كان هذا الغرب قد أنساه غروره أنه ليس هو الوحيد في هذا الكون ، يتصرف به كما يوحي إليه هواه وتزينه له شياطينه ، فهو مخطئ مغرور ، فقد عرفت حركة التاريخ نماذج بشرية كثيرة أصابها ما أصابه ، اجتالتها الايام وطواها التاريخ ، لان لهذا الكون ربّاً بيده كل المقاليد التي تقلب الايام والاحداث .
وصدق اللّه العظيم حيث قال : (قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلاّ ما شاء اللّه لكل أُمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون)([2]) .