* مصطفى حسن
( العراق )
تَستأنسُ جُدرانُ الغارِ بهَمَساتِ المُتألّهِ السّابح في غِمارِ العُبوديّةِ للواحدِ الحقِّ ، فيلتحفُ سكونُه الباردُ بحرارة أنفاسِهِ الوادعةِ المطمئنّةِ ، وتَنسابُ أحرفُ النّورِ في ثَنايا أحجارِه ، لتَخترقَ في سَيرِها إلى وَجهِ المعشوقِ الفَرْدِ كلَّ حواجِزِ المكانِ والزّمانِ ، مصبوغةً بطَراوةِ الدَّمعِ الشَّغوفِ برُويةِ الملكوتِ ، وتجلّياتِ اليقينِ ، وتَزاحَمُ نَبَضاتُ القلبِ المفعَمِ بتوحيدِ الواجبِ على أعتابِ الشّهودِ ، لتَرقى في مَعارجِ القُربِ الصَّمَديِّ ، وتَجوبَ عَوالمَ القُدسِ ، والسَكينةِ ، والكمال.
ـ « يا محمدُ ، أنتَ رسولُ اللّهِ » .
كلماتٌ مُضيئةٌ زلزلَتْ أبعادَ حِراءَ ، وامتلاَ بها سَمعُ ذلكَ المتحنِّثِ الوالهِ ، فتَغلغلَتْ في أعماقِ روحِهِ المُتسربلةِ بالخُشوعِ ، وألبَستْ وُجودَهُ المستكينَ للّهِ هِزّةَ المُنعطَفِ المقدَّسِ .
ـ « يا محمدُ ، أنا جَبريلُ ، وأنتَ رسول اللّهِ » .
تَنجلي رَوعةُ المُفاجأةِ ـ في مرّة أُخرى ـ عَن ملامحِ الوَعْدِ الالهيّ المُرتقَبِ ، وتنسَلُّ مِنْ بَينِ رُكامِها خُيوطُ الحقيقةِ الكُبرى ، لتنسِجَ في وَجْهِ الزَّمَنِ العاريْ تقاسيمَهُ الحيَّةَ ، وتُعيدَ إلى عُروقِهِ القاحلةِ دَفقَها ودَفاءَها .
ـ « اقرأْ » .
ـ « ما أَقرأُ ؟! » .
لم يكُنْ خَلَدُه ليتَمثَّلَ أنَّها بِدايةُ رِحلةِ السَّماءِ في أحضانِ هذِهِ الاَرضِ ، وباكورةُ السُّرى الواعدِ بالرُّشدِ في مهاويْ ذلكَ التِّيةِ النَافذِ في عُمقِ الاوداجِ .
ـ (اقرأْ باسمِ ربِّكَ الّذي خَلقَ) .
إنّها جَذوةُ البَدْءِ بمُناجزةِ الخَواءِ في بقايا الفِطرةِ ، عانقَتْها شَفتاه المُلتهِبتانِ بالرَّفضِ لخَدَرِ الطِّينِ السّاربِ في أوردتِها ، ناثرةً في غَبَشِ المَدى رُؤىً يافعةً ، وصاهرةً ضَبابَ الموتِ المركومَ في هشَيمِ الاحداقِ .
حِراءُ ، ماكان الزَّمنُ ليحتضِنَكَ بينَ أضلاعهِ لولا أنّك قَبّلتَ تلكَ الخُطى الهابطةَ مِن رَحمِ السّماءِ ، ولم يكُنْ لحديثِكَ صَدىً في أغوار النّفوسِ إلاّ أنهُ امتزجَ بهديرِ ذلكَ اللحنِ المُخضلِّ بعبيرِ هُداها .