قیادة الامام الصادق (ع) (3)

سید علی خامنه ای؛ مترجم: محمد علی آذرشب

نسخه متنی
نمايش فراداده

من سيرة أهل البيت (عليهم السلام)

قيادة الامام الصادق (عليه السلام) ( 3 )

ولي أمر المسلمينآيـة اللّـه السيدالخامنئي(دام ظله)

ترجمة: د. محمد عليآذرشبوالمعالم الهامة البارزة في حياة الامام الصادق(عليه السلام) وجدتها من منظار بحثنا تتلخص بما يلي:1 ـ تبيين مسألة الامامة والدعوة إليها.2 ـ بيان الاحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله).3 ـ اقامة تنظيم سري ايديولوجي ـ سياسي.وطريقة بحثنا أن ندرس كل واحد من هذه المعالم، ونضع في النهاية فهرسا لنشاطات الامام(عليه السلام)، وأن يكون ذلك قدر المستطاع باُسلوب المؤرخين لا باُسلوب المحدثين.1 ـ تبيين مسألة الامامة والدعوة اليهاهذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذ السنوات الاولى التي اعقبت رحيل النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله)، كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت(عليهم السلام)تشكل طليعة الدعوة في كل أعصار الامامة.. هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي(عليهما السلام)، ونشاهدها بعد ذلك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت مثل زيد بن علي. ودعوة الامام الصادق(عليه السلام) لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.قبل أن نستعرض وثائق هذا الموضوع، يجب علينا أن نعرف أولا مفهوم «الامامة» في الفكر الاسلامي. وما معنى الدعوة الى الامامة.كلمة «الامامة» تعني في الاصل القيادة بمعناها المطلق، وفي الفكر الاسلامي تطلق غالبا على مصداقها الخاص، وهو القيادة في الشؤون الاجتماعية، الفكرية منها والسياسية.وأينما وردت في القرآن مشتقات لكلمة الامامة (امام، أئمة)، فيراد بها هذا المعنى الخاص لقيادة الامة. ففي بعض المواضع يقصد بها القيادة الفكرية وفي مواضع اُخرى يراد بها القيادة السياسية، او الاثنتين معا.بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) وظهور الانشقاق الفكري والسياسي بين المسلمين اتخذت كلمة الامامة والامام مكانة خاصة لان مسألة القيادة السياسية شكلت المحور الاساس للاختلاف. والكلمة كان لها في البداية مدلول سياسي اكثر من أي مدلول آخر، ثم انضمت اليها بالتدريج معان أخرى، حتى أصبحت مسألة «الامامة» تشكل في القرن الثاني أهم مسائل المدارس الكلامية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح آراءها بشأن شروط الامام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الاسلامي، وهو معنى سياسي للامامة.إن الامامة في مدرسة اهل البيت ـ التي يرى أتباعها أنهم يمثلون أنقى تيار فكري اسلامي ـ لها نفس المعنى، ونظرية هذه المدرسة بشأن الامامة تتلخص فيما يلي:الامام والزعيم السياسي في المجتمع الاسلامي يجب أن يكون منصوبا من اللّه، باعلان من النبي. ويجب أن يكون قائدا فكريا ومفسرا للقرآن وعالما بكل دقائق الدين ورموزه، ويجب أن يكون معصوما مبرّأ من كل عيب خلقي وأخلاقي وسببي. ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقية إلى غير ذلك.وبذلك فان الامامة كانت في العرف الاسلامي خلال القرنين الاول والثاني تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاص بأتباع أهل البيت تعني، اضافة الى القيادة السياسية، القيادة الفكرية والاخلاقية ايضا.فالشيعة تعترف بامامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتعا بخصائص هي ـ اضافة الى قدرته على ادارة الامور الاجتماعية ـ مقدرته على التوجيه والارشاد والتعليم في الحقل الفكري والديني، والتزكية الخلقية. وإن لم تتوفر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يرقى الى مستوى «الامامة الحقة». وليس بكاف ـ في نظرهم ـ حسن الادارة السياسية والاقتدار العسكري والفتوحات وامثالها من الخصائص التي كانت معيارا كافيا لدى غيرهم.فمفهوم الامامة لدى اتباع أهل البيت ـ اذن ـ يتجه الى اعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعية والفردية. فالامام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتية. ومن هنا كان «النبي»(صلى الله عليه وآله) إماما أيضا، لانه القائد الفكري والسياسي للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبي تحتاج الامة الى امام يخلفه ويتحمل عبء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقد الشيعة أن النبي نصّ على خلافة علي بن ابي طالب(عليه السلام)، ثم تنتقل الامامة بعده الى الائمة المعصومين من ولده[1].ولا بد من الاشارة الى أن تداخل المهام الثلاث للامامة: القيادة السياسية، والتعليم الديني، والتهذيب الاخلاقي والروحي في الامامة الاسلامية، ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة في المشروع الاسلامي للحياة البشرية. فقيادة الامة يجب أن تشمل قيادتها في هذه الحقول الثلاثة أيضا. وبسبب هذه السعة وهذه الشمولية في مفهوم الامامة لدى الشيعة كان لا بد أن يعين الامام من قبل اللّه سبحانه.نستنتج مما سبق أن الامامة ليست، كما يراها اصحاب النظرة السطحية، مفهوما يقابل «الخلافة» و«الحكومة» أو منصبا منحصرا بالامور المعنوية والروحية والفكرية، بل إنها في الفكر الشيعي «قيادة الامة» في شؤون دنياها وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية (رئاسة الدولة) وايضا في شؤون التعليم والارشاد والتوجيه المعنوي والروحي وحل المشاكل الفكرية وتبيين الايديولوجية الاسلامية «القيادة الفكرية».وهذه المسألة الواضحة أضحت مع الاسف غريبة على أذهان اكثر المعتقدين بالامامة، ولذلك نرى من الضروري عرض بعض النماذج من مئات الوثائق القرآنية والحديثية في هذا المجال:في كتاب «الحجة» من «الكافي» حديث عن الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الامام ووصفه ويتضمن معاني عميقة ورائعة.من ذلك ما ورد بشأن الامامة بأنها: «هي منزلة الانبياء، وإرث الاوصياء، ان الامامة خلافة اللّه، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين(عليه السلام)وميراث الحسن والحسين(عليهما السلام)، ان الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، ان الامامة أس الاسلام النامي، وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات، وامضاء الحدود والاحكام، ومنع الثغور والاطراف»[2].وحول الامام انه:«النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الردى، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين اللّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي الى اللّه، والذاب عن حرم اللّه، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين»[3].كل ما كان يمارسه النبي(صلى الله عليه وآله) من مسؤوليات ومهام يتحملها علي(عليه السلام)والائمة من ولده[4].وفي رواية أخرى عن الامام الصادق(عليه السلام) نرى تأكيدا على إطاعة «الاوصياء» وتوضح الرواية أن الاوصياء هم نفسهم الذين عبّر عنهم القرآن بأولي الامر[5].إنّ مئات الروايات المتفرقة في الابواب المختلفة تصرح أن مفهوم الامام والامامة في الفكر الشيعي ما هو الا القيادة وادارة شؤون الامة المسلمة، وأن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)هم الاصحاب الحقيقيون للحكومة. وتدل جميعا بما لا يقبل الشك على أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في ادعائهم الامامة كانوا لا يقتصرون بالمطالبة على المستوى الفكري والمعنوي بل كانوا يطالبون بالحكومة ايضا. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل انما هي دعوة لحركة سياسية عسكرية لاستلام السلطة.هذه الحقيقة ظلت خافية على الباحثين في العصور التالية[6]، بينما كانت في فهم اصحاب الائمة والمعاصرين لهم من أوضح الحقائق، حتى إن «الكميت» في احدى قصائده الهاشميات يصف أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بأنهم ساسة يقودون الناس بطريقة تختلف تماما عن الطريقة التي يمارسها الحكام الظلمة الذين يعاملون الناس كالبهائم[7].نعود الى الموضوع الاصلي وهو أن بيت القصيد في دعوة الامام الصادق(عليه السلام)وسائر أئمة اهل البيت(عليهم السلام) كان يدور حول «الامامة». ولاثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الامام الصادق(عليه السلام)ادعاءه الامامة. وكما سنوضح فيما بعد، أن الامام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكام زمانه وأن يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي وصاحب الولاية والامامة. ومثل هذا التصدي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح. ولابد أن يكون الوعي السياسي والاجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الاستعداد محسوس بالقوة في كل مكان، وأن الارضية الايديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الافراد، وان جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد ـ أخيراً ـ قد اتخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فان اعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.المسألة الاخرى التي لا بد من التركيز عليها في هذا المجال هي أن الامام ما كان يكتفي في بعض الموارد باثبات إمامته وحسب، بل يذكر الى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه ايضا، أي إنه يطرح في الحقيقة سلسلة ائمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال.هذا الموقف يشير الى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وتواصله من الازمنة السابقة الى عصر الامام الصادق(عليه السلام). ان الامام الصادق(عليه السلام) يقرر امامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة اسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الاسلامية وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الاكرم عليه أفضل الصلاة والسلام. ولنعرض بعض نماذج دعوة الامام:أروع رواية في هذا الباب عن «عمرو بن أبي المقدام»، وفيها تصوير لواقعة عجيبة.في يوم التاسع من ذي الحجة اذ اجتمع الحجاج في عرفة لاداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصى خراسان حتى سواحل الاطلنطي.. والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الاسلامي. انضمّ الامام(عليه السلام)الى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل اليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الامام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عاليا ليبلُغ أسماع الحاضرين ولينتقل الى آذان العالمين وهو ينادي:«أيها الناس، إن رسول اللّه كان الامام ثم كان علي بن ابي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم...» فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتا[8].ورواية أخرى عن «ابي الصباح الكناني» أن الامام الصادق(عليه السلام)يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم «الانفال» و«صفو المال».عن ابي الصباح قال: قال لي ابو عبداللّه(عليه السلام): «يا أبا الصباح نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، لنا الانفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال اللّه في كتابه...»[9].و«صفو المال» هو من الاموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون آخر، ويكون كرامة كاذبة لاحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الاسلامي يتصرف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصا بهم غصبا. والامام يصرح بان «صفو المال» يجب أن يكون لهم وهكذا الانفال. وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكما شرعيا للمسلمين مسؤول عن استثمار هذه الاموال وفق ما يراه تحقيقا لمصلحة الامة.وفي حديث آخر يذكر الامام الصادق(عليه السلام) اسماء اسلافه من الائمة(عليهم السلام)واحدا واحدا ويشهد بإمامتهم وبوجوب طاعتهم، وحين يصل الى نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيدا أن ميراث العلم والحكم بعد الامام الباقر(عليه السلام) وصل الى الامام الصادق. وبذلك يعلن الامام(عليه السلام) حقه في قيادة الامة باسلوب يجعله مرتبطا بجدّه علي بن ابي طالب(عليه السلام)[10]. وفي ابواب كتاب الحجة من «الكافي» وكذلك في الجزء 47 من «بحار الانوار» أحاديث كثيرة من هذا القبيل تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادعاء الامامة والدعوة اليها.ولاثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الامام(عليه السلام)في جميع أرجاء العالم الاسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمرا حتميا لا مراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوثوق بحيث يمكن أن نستدل بها على موضوعنا استدلالا قاطعا، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال.نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة:1 ـ ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الائمة(عليهم السلام) واتباعهم، وكانت الاموال تُحمل من اطراف العالم الى المدينة، وكذلك الاسئلة الدينية تتقاطر عليها.2 ـ اتساع الرقعة الموالية لال البيت(عليهم السلام) خاصة في البقاع الحساسة من العالم الاسلامي.3 ـ تجمع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الامام(عليه السلام).فهل إن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟ولا بد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرة سياسية كانت جادّةً كل الجدّ في الغاء حتى اسم علي وآل علي(عليهم السلام)، بل وسبّ علي على المنابر، وتسليط انواع البطش والارهاب على أتباعهم. فكيف أمكن في مثل هذا الجوّ خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لال البيت تطوي آلاف الاميال للوصول الى الحجاز والمدينة لتتتلمذ على أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وتأخذ عنهم فكر الاسلام في الحياة الفردية والاجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، أو بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!!فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم على علم الائمة(عليهم السلام)وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الاتباع دائما عن الثورة المسلحة؟ألا يدلّ كل هذا على وجود شبكة منظمة للدعوة الى إمامة أهل البيت(عليهم السلام)بالمعنى الكامل للامامة، أي الفكرية والسياسية؟وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظمة في دعوة أهل البيت(عليهم السلام)، لماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئا عنها؟والجواب ما أشرنا اليه سابقا، يكمن في التزام أصحاب الائمة بالمبدأ الحركي الحكيم المسمى بالتقية، الذي يحول دون نفوذ أي عنصر أجنبي في تنظيم الامام. كما يكمن أيضا في عدم استطاعة الحركة الجهادية الشيعية من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.لو أن بني العباس لم يستولوا على السلطة لبقيت دون شك كل نشاطاتهم السرية وذكريات دعوتهم مرّها وحلوها حبيسة في الصدور دون أن يعلم بها أحد ودون أن يسجلها التاريخ.ومع ذلك، ليست قليلة هي الروايات التي تصرّح الى حدّ ما بوجود دعوة واسعة لامامة أهل البيت(عليهم السلام). ونكتفي برواية تقول:قدم رجل من أهل الكوفة الى خراسان، فدعا الناس الى ولاية جعفر بن محمد(عليهما السلام)، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت... ثم تقول الرواية: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبداللّه(عليه السلام)فكان المتكلم منهم، الذي ورع ووقف. فقال: أصلحك اللّه قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس الى طاعتك وولايتك، فأجاب قوم وأنكر قوم وورع قوم ووقفوا. قال الامام(عليه السلام): فمن أي الثلاث أنت؟ قال: من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا (وذكّره بسقوطه في موقف شهواني)، فارتاب الرجل[11].الداعية كما ترى من أهل الكوفة، ومنطقة الدعوة خراسان، واسم الرجل مكتوم، ودعوته الى إمامة جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) وولايته وطاعته.ثمة وثائق أخرى تبين محتوى دعوة ائمة اهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم الى الامامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الامويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور احيانا بلغة الاستدلال الكلامي والديني، واحيانا بلغة الادب الرفيع المتمثل بالشعر. وكان كل الحِجاج يقوم على أساس إثبات حق الامامة السياسية والحكم لائمة اهل البيت(عليهم السلام)، ومقارعة المتربعين ظلما وغصبا على كرسي حكومة المسلمين. ان عصر الامام الصادق(عليه السلام) ـ لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة ـ كان مفعما بهذا اللون من الحِجاج.كان شعراء بني العباس يحاولون اثبات حق الحكم لبني العباس استنادا الى نفس الادلة التي يقدمها عادة الطامعون الى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق اسلامي يقوم على أساس رفض الظلم والاجرام والخيانة بحق الامة الاسلامية.وللحِجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والافكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب «العباسيون الاوائل» دور الادب في القرنين الاول والثاني فيقول:«.. كان الادب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم الى هذه الفئة أو تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر يعبّر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزا الدليل تلو الدليل على صحة دعواه، مفنداً آراء الخصوم بكلام مؤثر وأسلوب بليغ»[12].شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في اثبات حق العباسيين في الخلافة باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الارث لا ينتقل الى أبناء البنت مع وجود الاعمام. فالخلافة بعد النبي من حقّ العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس:قال مروان بن أبي حفصة: أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الاعماموقال ابان بن عبدالحميد اللاحقي: فأبناء عباس همُ يرثونهكماالعمُلابنِ العم في الارث قد حجبومن جانب آخر انبرى الشعراء العلويون منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد على هذه الادلة، بنفس المنطق، وأحيانا بمنطق آخر للاستدلال على حق أئمة أهل البيت في الامامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري: من كنت مولاه فهذا لهمولى فلم يرضوا ولم يقنعواويرد محمد بن يحيى بن أبي مرّة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الاعمام فيقول: لِمَ لا يكون وان ذاك لكائنلبني البنات وراثة الاعمامللبنت نصف كامل من مالهوالعم متروك بغير سهامِما للطليق وللتراث وانماصلى الطليق مخافة الصمصامِويرى دعبل أن كل ما حلّ باهل البيت(عليهم السلام) من مصائب إنما هو لانهم ورثوا النبي، فتكالب على هذا الارث الطامعون واضرّوا بمن له الحق في الامامة: أضرّ بهم إرث النبي فأصبحواتساهم فيهم خِيفة ومنوندعتهم ذئاب من أمية وانتحتعليهم دراكا أزمة وسنونوعاثت بنو العباس في الدين عيثةتحكم فيها ظالم وخؤونوسَمّوا رشيدا ليس فيهم لرشدهوها ذاك مأمون وذاك أمينفما قبلت بالرشد منهم رعايةولا للولي بالامانة دينوليس من العسير على الباحث في العصر العباسي الاول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال. وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج على دعواهم. وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحورَ الذي يدور حوله النزاع، والحقَ الذي يدعيه الجانبان.هناك حق يدعيه كل جانب وهذا الحق هو وراثة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)في الحكم وفي قيادة المسلمين.ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الاخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي(صلى الله عليه وآله). ليس الخلاف في أحقية هذا أو ذاك في وراثة هذه الخصال. لان هذه الخصال لا تشكل حقا يتنازع عليه فريقان. النزاع حول «حق» يدعيه الجانبان. وقد رأينا أن الشعراء في زمن الامام الصادق(عليه السلام) يدافعون عن حق الامام في قيادة الامة المسلمة وفي حكم المجتمع الاسلامي، ويخوضون حربا ضد من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين، ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري.وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير الى لغة حِجاج أخرى هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىً شعبيا بعد انتشار مضمونها، وتأثيراً قويا على الانصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبداللّه بن الحسن ذي النفس الزكية الى المنصور العباسي. هذا العلويّ الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في ابناء علي(عليهم السلام)، يقول:«وإن أبانا عليا كان الوصيَ وكان الامامَ فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء»[13]؟!ويبدو أن هذا الاستدلال أورده العلوي رداً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لان بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الارث المزعوم، فأراد أن يسدّ عليهم الطريق ويرد عليهم بنفس منطقهم. ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركز على إمامة علي(عليه السلام) انطلاقا من فهمه لمعنى الامامة، ثم يركز على طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر.

2 ـ بيان الاحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة آهل البيت(عليهم السلام)عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)هذا النشاط يمكن ملاحظته أيضا في حياة الامام الصادق(عليه السلام)بشكل متميّز عما نراه في حياة بقية أئمة آل البيت(عليهم السلام)، حتى سمي فقه الشيعة باسم «الفقه الجعفري». حتى الذين يغضون الطرف عن النشاط السياسي للامام الصادق(عليه السلام)يجمعون على أن الامام كان يدير أوسع حوزة فقهية أو واحدة من أوسع الحوزات الفقهية في زمانه. والذي بقي مستورا عن أعين أغلب الباحثين في حياة الامام هو المفهوم السياسي ومفهوم المواجهة لهذا اللون من نشاطات الامام وهذا ما سنتعرض له الان.لا بد أن نذكر أولا أن منصب الخلافة في الاسلام له خصائص متميزة تجعل الحاكم متميّزاً عن الحكام في أنظمة الحكم الاخرى. فالخلافة ليست جهازا سياسيا فحسب، بل هي جهاز سياسي ـ ديني. واطلاق لقب الخليفة على الحاكم الاسلامي يؤيد هذه الحقيقة، فهو خليفة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في كل ما كان يمارسه الرسول من مهام دينية ومهام قيادية سياسية في المجتمع.والخليفة في الاسلام يتحمل المسؤوليات السياسية والمسؤوليات الدينية معا. هذه الحقيقة الثابتة دفعت الخلفاء الذين جاءوا بعد الخلفاء الاولين والذين كانوا ذوي حظ قليل في علوم الدين، أو لم يكن لهم منه حظ أصلا، دفعتهم الى سد هذا النقص عن طريق رجال دين مسخرين لهم. فاستخدموا فقهاء ومفسرين ومحدثين في بلاطهم ليكون جهازهم الحاكم جامعا أيضا للجانبين الديني والسياسي.والفائدة الاخرى من وجود وعاظ السلاطين في الجهاز الحاكم هي إن الحاكم الظالم المستبد كان قادرا متى ما أراد أن يغير ويبدل أحكام الدين وفقا للمصالح. وكان هؤلاء المأجورون يقومون بهذه العملية ارضاء لاولياء نعمتهم تحت غطاء من الاستنباط والاجتهاد ينطلي على عامة الناس.الكتاب والمؤرخون المتقدمون ذكروا لنا نماذج فظيعة من اختلاق الحديث ومن التفسير بالرأي كانت يد القوة السياسية فيها واضحة، وسنشير الى جانب منها في اقسام حديثنا التالية. هذا العمل الذي اتخذ غالبا في البداية (حتى أواخر القرن الهجري الاول) شكل وضع رواية أو حديث، راح تدريجيا يأخذ طابع الفتوى. ولذلك نرى في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس ظهور فقهاء كثيرين استفادوا من أساليب رجراجة في أصول الاستنباط ليصدروا الاحكام وفق أذواقهم التي كانت في الواقع أذواق الجهاز الحاكم.هذه العملية نفسها أُنجزت أيضا في حقل تفسير القرآن. فالتفسير بالرأي اتجه غالبا الى إعطاء مفاهيم عن الاسلام لا تقوم على أساس سوى ذوق المفسر ورأيه المستمد من ذوق الجهاز الحاكم وإرادته.من هنا انقسمت العلوم الاسلامية: الفقه والحديث والتفسير منذ أقدم العصور الاسلامية الى تيارين عامين:التيار الاول: تيار مرتبط بجهاز الحكومة الظالمة الغاصبة، ويتميز بتقديم الحقيقة في موارد متعددة قربانا على مذبح «المصالح» التي هي في الواقع مصالح الجهاز الحاكم، ويتميز أيضاً بتحريف أحكام اللّه لقاء دراهم معدودات.والتيار الثاني: التيار الاصيل الامين الذي لا يرى مصلحةً أرفع وأسمى من تبيين الاحكام الالهية الصحيحة، وكان يصطدم شاء أم أبى في كل خطوة من خطواته بالجهاز الحاكم ووعاظ السلاطين، ولذلك اتجه منذ البدء اتجاها شعبيا في اطار من الحيطة والحذر.انطلاقا من هذا الفهم نعرف بوضوح أن اختلاف «الفقه الجعفري» مع الفقهاء الرسميين في زمن الامام الصادق لم يكن اختلافا فكريا عقائديا فحسب، بل كان اختلافا يستمد وجوده من محتواه الهجومي المعارض أيضاً.أهم أبعاد هذا المحتوى إثبات خواء الجهاز الحاكم وفراغه من كل مضمون ديني، وعجزه عن ادارة الشؤون الفكرية للاُمة، وبعبارة أخرى عدم صلاحيته للتصدي لمنصب «الخلافة». والبعد الاخر تشخيص موارد التحريف في الفقه الرسمي.. هذه التحريفات القائمة على أساس فكر «مصلحي» في بيان الاحكام الفقهية ومداهنة الفقهاء للجهاز الحاكم. والامام الصادق(عليه السلام) بنشاطه العلمي وتصديه لبيان أحكام الفقه والمعارف الاسلامية وتفسير القرآن بطريقة تختلف عن طريقة وعاظ السلاطين قد اتخذ عمليا موقف المعارضة تجاه الجهاز الحاكم. الامام(عليه السلام)بنشاطه هذا قد يلغي كل الجهاز الديني والفقهي الرسمي الذي يشكل أحد أضلاع حكومة الخلفاء، ويفرغ الجهاز الحاكم من محتواه الديني.ليس بأيدينا سند ثابت يبين التفات الجهاز الاموي الى هذا المحتوى المعارض لما قام به الامام الصادق(عليه السلام) من نشاط علمي فقهي. ولكن أغلب الظن أن الجهاز الحاكم العباسي وخاصة في زمن المنصور الذي كان يتمتع بحنكة وذكاء وتجربة اكتسبها من صراعه السياسي الطويل مع الحكم الاموي قبل وصوله الى السلطة، كان يعي المسائل الدقيقة في نشاطات البيت العلوي. وكان الجهاز الحاكم العباسي يفهم الدور الفاعل الذي يستطيع أن يؤديه هذا النشاط العلمي بشكل غير مباشر.والتهديدات والضغوط والمضايقات التي كانت تحيط بنشاطات الامام الصادق(عليه السلام)التعليمية والفقهية من قبل المنصور المنقولة الينا في روايات تاريخية كثيرة ناتجة من هذا الالتفات الى حساسية المسألة. وهكذا اهتمام المنصور بجمع الفقهاء المشهورين في الحجاز والعراق في مقر حكومته ـ كما تدل على ذلك النصوص التاريخية العديدة ـ فانهُ ناشئ عن هذا الالتفات أيضاً.في حديث الامام(عليه السلام) وتعاليمه لاصحابه ومقربيه كان يستند الى «خواء الخلفاء وجهلهم» ليستدل على أنهم في نظر الاسلام لا يحق لهم أن يحكموا. ونحن نشهد هذه الصيغة من الهجوم على الجهاز الحاكم بوضوح وصراحة في دروسه الفقهية.يروى عنه قوله(عليه السلام): «نحن قوم فرض اللّه طاعتنا وانتم تأتمّون بمن لا يُعذر الناس بجهالته»[14].أي إن الناس انحرفوا بسبب جهل حكامهم وولاة امورهم، وسلكوا سبيلا غير سبيل اللّه. وهؤلاء غير معذورين لدى اللّه. لان اطاعة هؤلاء الحكام كانت عملا انحرافيا، فلا يبرّر ما يستتبعها من وقوع في الانحرافات[15].في تعليمات الائمة(عليهم السلام) قبل الامام الصادق(عليه السلام) وبعده نرى أيضا تركيزا على ضرورة اقتران القيادة السياسية بالقيادة الفكرية والايديولوجية. ففي رواية عن الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)عن جدّه الامام محمد الباقر(عليه السلام)قال: «إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني اسرائيل، أينما دار التابوت دار الملك (تأمل بدقة المعنى الرمزي في التعبير) وأينما دار السلاح فينا دار العلم.. وفي رواية أخرى: حيثما دار السلاح فينا فثمَّ الامرُ (الحكم)»[16].ويسأل الراوي الامام: فيكون السلاح مزايلا (مفارقا) للعلم؟قال الامام: لا. أي إن قيادة المجتمع المسلم يجب أن تكون في من بيده السلاح والعلم معا.الامام(عليه السلام) إذن يرى أن علم الدين وفهم القرآن بشكل صحيح شرط من شروط الامامة، ومن جهة أخرى فهو بنشاطه العلمي، وجمع عدد غفير من مشتاقي علوم الدين حوله، وتعليمه الدين بشكل يختلف تماما عن الطريقة المعتادة لدى العلماء والمحدثين والمفسرين المرتبطين بجهاز الخلافة، يثبت عمليا أصالة المحتوى الديني لمدرسته، وزيف الظاهر الديني الذي يتقمصه جهاز الخلافة ومن لف لفه من علماء بلاطه. وعن هذا الطريق المهاجم المتواصل العميق الهادئ يضفي على جهادهِ بعداً جديداً.وكما ذكرنا من قبل، فان الحكام العباسيين الاوائل الذين قضوا سنين طوالاً قبل تسلمهم السلطة في نفس أجواء الجهاد العلوي والى جانب انصار العلويين، كانوا على علم بكثير من الخطط والمنعطفات، وكانوا متفهمين لدور الهجوم والمواجهة الذي يؤديه هذا النشاط في الفقه والحديث والتفسير أكثر من أسلافهم الامويين. وقد يكون هذا السبب هو الذي دفع المنصور العباسي في مواجهاته مع الامام الصادق(عليه السلام) أن يمنع الامام زمنا من الجلوس في حلقات التدريس وعن تردد الناس عليه. حتى إن المفضل بن عمر يقول: «ان المنصور قد كان همّ بقتل ابي عبداللّه(عليه السلام) غير مرة فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير انه منع الناس عنه ومنعهُ من القعود للناس واستقصى عليه اشد الاستقصاء، حتى انه كان يقع لاحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل وأهله، فشق ذلك على شيعته وصعب عليهم...»[17].3 ـ إقامة تنظيم سري إيديولوجي ـ سياسيمر بنا أن الامام الصادق(عليه السلام) قاد في أواخر العصر الاموي شبكة إعلامية واسعة استهدفت الدعوة الى إمامة آل علي(عليه السلام) وتبيين مسألة الامامة بشكلها الصحيح. وهذه الشبكة نهضت بدور مثمر وملحوظ في أقاصي بقاع العالم الاسلامي وخاصة في عراق العرب وخراسان لنشر مفاهيم الامامة.ونشير هنا الى جانب صغير من هذهِ المسألة. مسألة التنظيمات السرية في الحياة السياسية للامام الصادق(عليه السلام)وباقي الائمة من أهم المسائل واكثرها حساسية، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدها ابهاما. وكما ذكرنا لا يمكن أن نتوقع وجود وثائق صريحة في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقع من الامام أو أحد أصحابه أن يعترف صراحة بوجود هذه التنظيمات السياسية ـ الفكرية.فهذا مما لا يمكن الكشف عنه. الشيء المعقول هو أن الامام ينفي بشدّة وجود مثل هذا التنظيم السري، وهكذا أصحابه، ويعتبرون ذلك تهمة وسوء ظن فيما لو تعرّضوا لاستجواب جهاز السلطة. هذه هي خاصية العمل السري، والباحث في حياة الائمة(عليهم السلام) أيضاً من حقّه أن لا يقتنع بوجود مثل هذا التنظيم دون دليل مقنع. اذن فلا بد أن نبحث عن القرائن والشواهد والحوادث التي تبدو بسيطة لا تلفت نظر المطالع العادي، لنبحث عن دلالاتها في هذا المجال. بهذا اللون من التدقيق في حياة الائمة(عليهم السلام) خلال قرنين ونصف القرن من حياتهم يستطيع الباحث أن يطمئن الى وجود مثل هذه التنظيمات التي تعمل تحت قيادة الائمة(عليهم السلام).ما المقصود بالتنظيم؟ ليس المقصود به طبعا حزبا منظماً بالمفهوم المعروف اليوم، ولا يعني وجود كوادر منظمة ذات قيادات اقليمية مرتبطة ارتباطا هرميا، فلم يكن شيء من هذا موجودا ولا يمكن أن يوجد. المقصود بالتنظيم وجود جماعة بشرية ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات متنوعة تتجه نحو ذلك الهدف وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكر واحد، وتسود بين أفرادها روابط عاطفية مشتركة.هذه الجماعة كانت في زمن الامام علي(عليه السلام) (أي خلال السنوات الخمس والعشرين بين وفاة الرسول الاكرم وبيعته للخلافة) كان يجمعها الايمان بأحقية الامام علي(عليه السلام)في الخلافة، وكانت تعلن وفاءها الفكري والسياسي للامام، غير أنها كانت تحذو حذو الامام علي(عليه السلام) في عدم إثارة ما يزلزل المجتمع الاسلامي الوليد، كما كانت تنهض بما كان ينهض به الامام علي(عليه السلام) في تلك السنوات من مهام رسالية تستهدف صيانة الاسلام ونشره ومحاولة الحدّ من الانحرافات. واتخذت لولائها هذا اسم «شيعة علي»، ومن وجوههم المشهورة: سلمان وعمار وابو ذر وابي بن كعب والمقداد وحذيفة وغيرهم من الصحابة الاجلاء.ولدينا شواهد تاريخية تثبت أن هؤلاء كانوا يشيعون بين الناس فكرهم بشأن إمامة علي(عليه السلام) بشكل حكيم. وعملهم هذا كان مقدمة لالتفاف الناس حول الامام واقامة الحكم العلوي.بعد أن استلم الامام علي(عليه السلام) مقاليد الامور سنة 35 هجرية كان حول الامام علي صنفان من الناس. صنف عرف الامام ومكانته وفهم معنى الامامة وآمن بها، وهم شيعته الذين تربوا على يد الامام بشكل مباشر أو غير مباشر، وعامة الناس الذين عاشوا أجواء تربية الامام ونهجه ولكنهم لم يكونوا مرتبطين فكريا وروحيا بالجماعة التي رباها الامام تربية خاصة.ولذلك نجد بين اتباع الامام صنفين من الافراد بينهما تفاوت كبير: صنف يضم عمارا ومالكا الاشتر وحجرَ بن عدي وسهلَ بن حنيف وقيسَ بن سعد وامثالهم، وصنف من مثل ابي موسى الاشعري وزياد بن أبيه ونظرائهم.بعد حادثة صلح الامام الحسن(عليه السلام) كانت الخطوة الهامة التي اتخذها الامام نشر فكر مدرسة اهل البيت ولمّ شتات الموالين لهذا الفكر، إذ اتيحت الفرصة لحركة أوسع بسبب اضطهاد السلطة الاموية. وهكذا كان دائماً، فالاضطهاد يؤدي الى انسجام القوى المضطهدة وتلاحمها وتجذرها بدل تبعثرها وتشتتها. واتجهت استراتيجية الامام الحسن(عليه السلام)الى تجميع القوى الاصيلة الموالية، وحفظها من بطش الجهاز الاموي، ونشر الفكر الاسلامي الاصيل في دائرة محدودة ولكن بشكل عميق، وكسب الافراد الى صفوف الموالين، وانتظار الفرصة المؤاتية للثورة على النظام وتفجير أركانه واحلال الحكم العلوي مكانه.. وهذه الاستراتيجية في العمل هي التي جعلت الامام الحسن(عليه السلام) أمام خيار واحد وهو الصلح.ومن هنا نرى أن جمعاً من الشيعة برئاسة المسيب بن نجبة وسليمان بن صرد الخزاعي يقدمون على الامام الحسن(عليه السلام) بعد حادثة الصلح في المدينة حيث اتخذها الامام قاعدة لعمله الفكري والسياسي بعد عودته من الكوفة، ويقترحون عليه إعادة قواهم وتنظيماتهم العسكرية والاستيلاء على الكوفة والاشتباك مع جيش الشام، والامام يستدعي هذين الاثنين من بين الجمع ويختلي بهما ويحدثهما بحديث لا نعرف فحواه، يخرجان بعده بقناعة تامة بعدم جدوى هذه الخطة. وحين يعود الاثنان الى من جاء معهما يفهمانهم باقتضاب أن الثورة المسلحة مرفوضة ولا بد من العودة الى الكوفة لاستئناف نشاط جديد فيها[18].هذه حادثة مهمة لها دلالات كبيرة حدت ببعض المؤرخين المعاصرين الى اعتبار ذلك المجلس الحجر الاساس في إقامة التنظيم الشيعي.والواقع أن الخطوة الاولى لاقامة التنظيم الشيعي لو كانت حقا قد اتخذت في ذلك اللقاء بين الامام الحسن(عليه السلام) والرجلين القادمين من العراق، فان مثل هذه الخطوة قد أوصى بها الامام علي(عليه السلام) من قبل حين أوصى المقربين من اصحابه بقوله: «لو قد فقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنّى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والاثَرَة والاستخفاف بحق اللّه والخوف على نفسه، فاذا كان ذلك: فاعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا.. وعليكم بالصبر والصلاة. والتقية.واعلموا أن اللّه عزّوجل يبغض من عباده (التلوّن) لا تزولوا عن (الحق وأهله) فان من استبدل بنا هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها آثما»[19].هذا النص الذي يرسم بوضوح الوضع المأساوي في العصر الاموي، ويوجه المؤمنين الى التلاحم والتعاضد والتنسيق والانسجام يعتبر أروع وثيقة من وثائق الجهاز التنظيمي في حركة آل البيت(عليهم السلام). وهذا المشروع التنظيمي يتبلور في شكله العملي في اللقاء بين الامام الحسن(عليه السلام) واثنين من الشيعة الخلّص. ومما لا شك فيه أن أتباع أهل البيت لم يكونوا جميعا مطلعين على هذا المشروع الدقيق. ولعل هذا يبرر ما كان يصدر من بعض صحابة الامام الحسن(عليه السلام) من اعتراض وانتقاد. وكان المعترضون يواجهون قول الامام الذي مضمونه: «... من يدري، لعله اختبار لكم ونفعٌ زائلٌ لاعدائكم...».وفي هذه الاجابة إشارة خفية الى سياسة الامام وتدبيره[20].خلال الاعوام العشرين من حكومة معاوية بكل ما احاط فيها البيت العلوي من إعلام مكثف مضاد بلغ درجة لعن الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) على منابر المسلمين، وبكل ما شهدتها من انسحاب الامامين الحسن والحسين(عليهما السلام) من ساحة النشاط العلني المشهود، لا نرى سببا في انتشار فكر أهل البيت واتساع القاعدة الشيعية في الحجاز والعراق سوى وجود هذا التنظيم. ولنلقِ نظرة على الساحة الفكرية في هذه المناطق بعد عشرين عاما من صلح الامام الحسن(عليه السلام).في الكوفة نرى رجال الشيعة من ابرز الوجوه وأشهرها. وفي مكة والمدينة بل وفي المناطق النائية نرى أتباع أهل البيت مثل حلقات مترابطة يعرف بعضها ما يلم بالبعض الاخر.حين يستشهد بعد اعوام أحد رجال الشيعة وهو «حجر بن عدي» ترتفع أصوات الاعتراض في مناطق عديدة من البلاد الاسلامية رغم الارهاب المفروض على كل مكان، ويبلغ الحزن والاسى بشخصية معروفة في خراسان أن يموت كمدا بعد إعلان الاعتراض الغاضب[21].وبعد موت معاوية ترد على الامام الحسين(عليه السلام) آلاف الرسائل تدعوه أن يأتي الى الكوفة لقيادة الثورة. وبعد استشهاد الامام يلتحق عشرات الالاف بمجموعة «التوابين»، أو ينخرطون في جيش المختار وابراهيم بن مالك ضد الحكم الاموي.ومن حق الباحث في التاريخ الاسلامي أن يسأل عن العوامل الكامنة وراء شيوع هذا الفكر والتحرك الموالي لال البيت(عليهم السلام). هل يمكن أن يتم دون وجود نشاط مكثف محسوب منظم متحد في الخطة والهدف؟!الجواب: لا طبعا. فالاعلام الهائل الذي وجهته السلطة الاموية عن طريق مئات القضاة والولاة والخطباء لا يمكن احباطه وإفشاله دون إعلام مضاد مخطط مرسوم ينهض به تنظيم منسجم موحَّد غير مكشوف. وقبيل وفاة معاوية تزايد نشاط هذا الجهاز العلوي المنظّم وتصاعدت سرعة عمله. حتى إن والي المدينة يكتب الى معاوية ما مضمونه: «اما بعد فان عمر بن عثمان (عيْن والي المدينة على الحسين(عليه السلام)) اخبرنا بان رجالاً من العراق وبعض شخصيات الحجاز يترددون على الحسين بن علي وتدور بينهم احاديث حول رفع راية التمرد والعصيان... فاكتبوا لنا ماذا ترون»[22].بعد واقعة كربلاء وشهادة الامام الحسين(عليه السلام) تضاعف النشاط التنظيمي لشيعة العراق على أثر الصدمة النفسية التي أُصيبوا بها في مقتل الامام الحسين(عليه السلام)، حيث بوغتوا بهذه الجريمة التي سلبتهم قدرة الالتحاق بركب الحسين وأهل بيته في كربلاء. وكان هذا التحرك مؤطراً بالالم والحسرة والاسف.يقول الطبري: فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها الى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم والثغر بعد الثغر، فلم يزالوا كذلك حتى مات يزيد بن معاوية[23].وحقا ما تقوله مؤلفة جهاد الشيعة إذ تعلق على قول الطبري بالقول:وظهرت جماعة الشيعة بعد مقتل الامام الحسين(عليه السلام) كجماعة منظمة، تربطها روابط سياسية وآراء دينية، لها اجتماعاتها وزعماؤها ثم لها قواتها العسكرية، وكانت جماعة «التوابين» اول مظهر لذلك كله[24].ويبدو من دراسة أحداث التاريخ ورأي المؤرخين في تلك البرهة الزمنية أن الشيعة كانوا يتولون مسؤولية القيادة والتخطيط، أما القاعدة العريضة الساخطة على بني امية فكانت أوسع من المجموعة الشيعية المنظمة، وكانت هذه القاعدة تنضمُ الى كل حركة ذات صبغة شيعية.من هنا فان المتحركين ضد بني امية، وإن رفعوا شعارات شيعية، لا ينبغي أن نتصورهم جميعا بأنهم في عداد الشيعة، أي في عداد الجهاز التنظيمي لائمة أهل البيت(عليهم السلام).انطلاقا مما سبق أود التأكيد على أن اسم الشيعة بعد شهادة الامام الحسين(عليه السلام)اُطلق فقط على المجموعة التي كانت لها علاقة وثيقة بالامام الحق تماما كما كان الحال في زمن امير المؤمنين(عليه السلام).هذه المجموعة هي التي عمدت بعد صلح الامام الحسن(عليه السلام) الى تأسيس التنظيم الشيعي بأمر الامام، وهي التي نشطت في كسب الافراد الى التنظيم ودفع أفراد اكثر، لم يرتفعوا في الفكر والنضج العملي الى مستوى الانخراط في التنظيم، نحو التيار العام للحركة الشيعية.والرواية التي اوردناها عن الامام الصادق(عليه السلام) في بداية هذا الحديث والتي تذكر أن عدد المؤمنين بعد حادثة عاشوراء لم يتجاوز الثلاثة أو الخمسة إنما تقصد أفراد هذه المجموعة الخاصة.. أي هؤلاء الذين كان لهم الدور الرائد الواعي في مسيرة حركة التكامل الثورية العلوية.وعلى اثر النشاط المتستر الهادئ الذي قام به الامام السجاد(عليه السلام)توسعت قاعدة هذه المجموعة، والى هذا يشير الامام الصادق(عليه السلام) في الرواية المذكورة: «ثم لحق الناس وكثروا». وسنرى أن عصر الامام السجاد والامام الباقر والامام الصادق(عليهم السلام)شهد تحرك هذا الجمع تحركا اثار الرعب والفزع في قلوب الحكام الظالمين، ودفع هؤلاء الحكام الى ردود فعل قاسية.وبعبارة موجزة فان اسم الشيعة في القرنين الاول والثاني الهجريين وفي زمن الائمة(عليهم السلام)ما كان يُطلق على الذين يحبون آل بيت النبي(عليهم السلام) أو المؤمنين بحقهم وبصدق دعوتهم فقط من دون اشتراك في مسيرتهم الحركية. بل إن الشيعة كانوا يتميزون بشرط أساسي وحتمي وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالامام والاشتراك في النشاط الفكري والسياسي، بل والعسكري الذي يقوده لاعادة الحق الى نصابه واقامة النظام العلوي الاسلامي. هذا الارتباط هو نفسه الذي يطلق عليه في قاموس التشيع اسم «الولاية».جماعة الشيعة كانت تطلق في الواقع على أعضاء حزب الامامة.. هذا الحزب الذي كان يتحرك بقيادة الامام(عليه السلام)، وكان يتخذ من الاستتار والتقية خندقا له مثل كل الاحزاب والتنظيمات المضطهدة التي تعيش في جو الارهاب. هذه خلاصة النظرة الواقعية لحياة الائمة(عليهم السلام)، وخاصةً الامام الصادق(عليه السلام). وكما ذكرنا من قبل لا يمكن أن يكون لمثل هذه المسألة دلائل صريحة، إذ لا يمكن أن نتوقع من بيت سرّي أن يحمل لافتة تقول: «هذا بيت سرّي»! وكذلك لا يمكن أن نطمئن الى النتيجة دون قرائن حاسمة.من هنا ينبغي أن نتَتبّع القرائن والشواهد والاشارات.من العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقق في الروايات المرتبطة بحياة الائمة(عليهم السلام)، أو في كلام مؤلفي القرون الاسلامية الاولى، عبارة «باب» و«وكيل» و«صاحب السر» وهي عبارات تطلق على بعض اصحاب الائمة. فمثلاً، يقول ابن شهرآشوب المحدث الشيعي الشهير في سيرة الامام السجاد(عليه السلام): «وكان بابه يحيى بن ام الطويل» وفي سيرة الامام الباقر(عليه السلام) يقول: «وكان بابه جابر بن يزيد الجعفي»، وفي ترجمة الامام الصادق(عليه السلام)يقول: «وكان بابه محمد بن سنان». وفي «رجال الكشي» ترد حول زرارة وبريد و محمد بن مسلم وابي بصير عبارة: «مستودع سرّي». وفي كتب الحديث تروى عن الامام الصادق(عليه السلام)عبارة «وكيل» بشأن المعلى بن خنيس. وكل واحد من هذه التعبيرات، إن لم تكن صادرة عن الامام، فانها دون شك حصيلة دراسة موسعة في حياة الائمة نهض بها المؤلفون الشيعة القدامى. واختيار هذه التعبيرات العميقة على أي حال ينطلق من معالم بارزة في حياة أئمة اهل البيت(عليهم السلام). ولو تأملنا في هذه التعبيرات لالفينا أن كل واحد منها يدل على وجود جهاز فعّال مستتر وراء النشاط الظاهري للائمة(عليهم السلام).مستودع السرإذا لم يكن لاحد «سرّ» فليس له مستودع سر. فما هو هذا السر في حياة الائمة؟ ما هذا الذي لا يتحمله أصحاب الائمة عامة، بل ثمة نفر معدود له لياقة وصلاحية تحمّله، وبذلك نال شَرفَ اسم «مستودع السر»؟!ولقد راحت الذهنية المتأخرة البعيدة عن واقع الاحداث وتمحيصها تفسر هذا السر بأنه «سر الامامة». كما راحت تفسر سرّ الامامة بأنه الاسرار الغيبية والقدرة على الخوارق والمعاجز.أنا أؤمن بقدرة هذه الصفوة المقدسة من أهل البيت الذين اختارهم اللّه لمواصلة مهمة حمل الرسالة وتبليغها بعد رسول اللّه أن يحملوا مثل هذه القدرة ومثل هذه العلوم، كما أؤمن بأن تحليهم بهذه القوى والعلوم لا يتنافى أصلا مع نظرة الاسلام الى الانسان والنواميس الطبيعية وسنن الكون. ولكن هذه القوى والعلوم ليست هي «سر الامام». فمثل هذه القوى والعلوم أوضح دليل على الامامة وعلى صدق دعوى الامام. لماذا يكتم الامام هذه الامور ويوصي اصحابه بكتمانها في روايات كثيرة تضافرت حتى أصبحت الكتب الحديثية الشيعية تتضمن بابا يحمل عنوان: «باب الكتمان»؟[25] لا بد أن يكون هذا السرّ مما لو شاع لشكل خطرا كبيرا على الامام وأصحابه، وهذا شيء غير الغيبيات والخوارق.هل السرّ هو معارف أهل البيت؟ هل هو رؤية مدرسة أهل البيت للاسلام وفقهها وأحكامها؟ لا ننكر أن معارف مدرسة أهل البيت كانت تنشر في عصر الاضطهاد الاموي والعباسي وفق منهج الحكمة والتدبير لكي لا يخوض فيها كلّ من هبّ ودبّ، ولكن هذه المعارف لا يمكن أن تكون هي سرّ الامام. فمع كل ما أحاط بهذه المعارف من اختصاص كانت تدرس في مئات الحوزات الفقهية والحديثية في عدد من كبريات مدن الصقع الاسلامي آنذاك. كان الشيعة يتناقلون هذه المعارف ويشرحونها ويتداولونها، بعبارة أخرى كانت هذه المعارف خاصة لا سريّة.واختصاصها يعني أن رواجها كان محدودا بالدائرة الشيعية، لكنها كانت تصل الى غير الشيعة أيضاً في ظروف خاصة. لم تكن أبداً محدودة بأفراد معدودين من أصحاب الائمة وخافية على غيرهم.الحق أن الاسرار هي ما يتعلق بالمعلومات المرتبطة بالجهاز التنظيمي للامام.. بالجهاز الذي يخوض معتركا سياسيا باتجاه هدف ثوري.. بالتكتيك الذي ينتهجه الجهاز... بالعمليات التي ينفذها.. باسماء ومهام اعضاء الجهاز.. بمصادر التمويل.. بالاخبار والتقارير المتعلقة بالاحداث الهامة.. هذه وأمثالها من الاسرار التي لا يجوز أن يطلع عليها سوى القائد والكوادر المسؤولة. ربما تحين الظروف المناسبة عاجلا أم آجلا لاعلان هذه الاسرار وكشفها، ولكن قبل أن تحين تلك الظروف لا يمكن أن يطلع على هذه الاسرار سوى من يرتبط عمله مباشرة بها وهم «مستودع السر». وكل تسريب لهذه المعلومات الى أوساط الشيعة فانه يفتح ثغرة تسربها الى الاعداء، وهو خطأ كبير لا يغتفر، خطأ قد يؤدي الى انهدام الجهود والاعمال والمجموعة المنتظمة. ومن هنا نفهم ما يعنيه الامام(عليه السلام) إذ يقول: «ليس الناصب لنا حرباً بأعظم مؤنة علينا من المذيع علينا سرّنا. فمن اذاع سرّنا الى غير اهله لم يفارق الدنيا حتى يعضهُ السلاح»[26].الباب والوكيلفي الارتباطات السرية بين الامام(عليه السلام) والشيعة قد يتطلب الامر ايصال بعض المعلومات الى الشيعة عن طريق «واسطة» وهذا تدبير معقول وطبيعي. العيون المتلصصة على كشف ارتباطات الامام(عليه السلام) تترصّد التقاءاته بأتباعه في موسم الحج في مكة والمدينة حين تؤمها القوافل من أقاصي العالم، وقد يؤدي رصد هذه اللقاءات الى اكتشاف خيوط الجهاز المركزي لتنظيم الامام، لذلك نرى أن الامام(عليه السلام) كان يُبعد عنه بعض الافراد بلهجة لينة أحيانا ومعاتبة تارة أخرى. يقول لسفيان الثوري مثلا: «أنت رجلٌ مطلوب وللسطان علينا عيون فاخرج عنا غير مطرود»[27].ويترحّم الامام(عليه السلام) على شخص صادفه في الطريق وأعرض بوجهه عنه، ويذم شخصا آخر رآه في ظروف مشابهة فسلم عليه باحترام واجلال[28].مثل هذه الظروف تستلزم وجود فرد يكون واسطة بين الامام(عليه السلام) وبين من يحتاج الى معلومات تصل اليه من الامام، وهذا الواسطة هو «الباب»، ويجب أن يكون من أخلص أتباع الامام، وأقربهم اليه، وأغناهم بالمعلومات والخطط. يجب أن يكون مثل «نحلة» إذا عرفت الحشرات المضرّة ما تحملهُ من عسل قَطّعتها وأغارت على شهدها[29]. وليس صدفة أن نرى تعرض هؤلاء «الابواب» غالبا للمطاردة وأقسى ألوان البطش والتنكيل.إن يحيى بن ام الطويل «باب» الامام السجاد(عليه السلام) يُقتل بشكل شنيع[30]. وجابر بن يزيد الجعفي باب الامام الباقر(عليه السلام) يتظاهر بالجنون ويشيع عنه ذلك فينجّيه من القتل الذي صدر الامر به من الخليفة قبل أيام من اشتهار جنونه. ومحمد بن سنان، باب الامام الصادق(عليه السلام)، يتعرض لطرد ظاهري من الامام رغم أن الامام أبدى رضاه عنه في مواضع أخرى وأثنى عليه، وما ذلك إلاّ لتعرض محمّد بن سنان لمثل هذه الاخطار. كما أن إعلان الامام براءته من راو معروف مشهور حظي بإعلان رضا الامام(عليه السلام) مرارا يعود على الاقوى الى تكتيك تنظيمي.مثل هذا المصير يواجهه «الوكيل» أيضا. مسؤول جمع الاموال المرتبطة بالامام وتوزيعها، يملك أيضا كثيرا من الاسرار وأقلها اسماء الدافعين والقابضين، وليست هذه المعلومات بالتي يستهين بها أعداء الامام، وأفضل دليل على ذلك مصير المعلى بن خنيس وكيل الامام الصادق(عليه السلام)في المدينة، وتعبيرات الامام القائمة على أساس التقية بشأن المفضل بن عمر وكيل الامام في الكوفة.هذه العناوين الثلاثة (الباب، الوكيل، صاحب السر) التي نجد مصاديقها في وجوه بارزة من رجال الشيعة تلقي ظلالا على واقع الشيعة وارتباطهم بالامام والحركة التنظيمية الشيعية.يمكننا بهذه النظرة أن نفهم الشيعة بأنهم مجموعة من العناصر المنسجمة الهادفة النشطة المتمركزة حول محور مقدس يشعّ بتعاليمه وأوامره على القاعدة، والقاعدة ترتبط به وتنقل اليه المعلومات وتضبط مشاعرها وتسيطر على عواطفها بتوصياته الحكيمة، وتلتزم التزاما دينياً بأساليب العمل السرّي، مثل حفظ الاسرار، وقلة الكلام، والابتعاد عن الاضواء والتعاون الجماعي والزهد الثوري.


([1]) راجع تفاصيل ادلة هذه المسألة في مظانها.

([2]) اصول الكافي1 : 200.

([3]) نفس المصدر «عبارات متفرقة مختارة من النص».

([4]) جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد(صلى الله عليه وآله) (... ولقد حملت على مثل حمولته...) وكذلك يجري لائمة الهدى واحدا بعد واحد.. الكافي، ج1: 196.

([5]) الكافي، 1: 187 ، ح7 و1: 189، ح 16.

([6]) في العقود الاخيرة صدرت عن المستشرقين والعلماء المسلمين الشيعة والسنة كتابات تصور الدور السلبي للائمة تجاه مسألة الحكم، او الدور المحايد، او المداهن بل الدور البعيد كل البعد عن السياسة. راجع مثلا: نظرية الامامة لدى الشيعة، والتشيع والتصوف، والامام الصادق والمذاهب الاربعة، والعباسيون الاوائل.

([7]) الغدير 2: 187 ـ 212.

([8]) البحار، 47: 58، ح 107.

([9]) البحار، 23: 199، ح32. كذلك راجع الرواية 20 من نفس الباب.

([10]) الكافي 1: 186.

([11]) البحار، 47: 72 عن بصائر الدرجات 5: 66.

([12]) د. فاروق عمر، العباسيون الاوائل: 104.

([13]) تاريخ الطبري 6: 195.

([14]) الكافي 1: 186، ح3.

([15]) القرآن الكريم يدين أيضاً بأساليب متعددة هذا اللون من الاتّباع المؤدي الى الضلال، ويردّ كل عذر يتوسل به التابعون في انحرافهم. راجع سورة البقرة: 167، الشعراء: 91 ـ 102، سبأ: 31 ـ 33، النساء: 97 .

([16]) الكافي، 1: 238.

([17]) المناقب، ابن شهرآشوب 4: 238 ط: بيروت.

([18]) نفس المعنى جاء في كتاب الشيخ راضي آل ياسين، صلح الامام الحسن(عليه السلام):31 ـ 32 ط : بيروت.

([19]) تحف العقول: 115. ط2.

([20]) هذا الوضع يمكن مقارنته وتشبيهه الى حد ما بوضع المجتمعات المعاصرة التي تحكمها الانظمة الحزبية.

([21]) مات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وذكر ذلك ابن الاثير في الكامل 3: 195، وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي... وذكر ذلك في الاستيعاب. واسد الغابة والدرجات الرفيعة وغيرها. صلح الحسن(عليه السلام): 338.

([22]) ثورة الحسين: 118، نقلاً عن اعيان الشيعة والاخبار الطوال.

([23]) الطبري 7: 46، نقلا عن د. سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة: 28.

([24]) د. سميرة الليثي، جهاد الشيعة: 27.

([25]) رجال الكشي: 380 ط مصطفوي.

([26]) رجال الكشي: 380، ط مصطفوي.

([27]) مناقب ابن شهرآشوب 4: 248.

([28]) الكافي 2: 219.

([29]) هذا التعبير مقتبس من أحد نصوص الامام(عليه السلام).

([30]) قطعت رجله وهو حي ثم قتل. للتعرف على هذه الشخصية الكبيرة راجع: رجال الكشي وسائر كتب الرجال.