( 1 )
* اعداد
قسم الارشيف
تلاحقت على ارض افغانستان مجموعة من الاحداث السياسية الخطيرة ، تخللها عدد من الانقلابات العسكرية ذهب ضحيتها الملايين من المسلمين الافغانيين قتلاً وتشريداً .
وبالرغم من خطورة الموقف والوضع في هذا البلد المسلم ، الذي يعني كل مسلمي العالم ، نلاحظ عدم الاهتمام اللازم في هذه القضية التي باتت تهدد الكيان الاسلامي ككل .
لذا نجد من الاهمية بمكان أن نتعرف على مجمل تاريخ هذا البلد المسلم قبل دخول الاسلام إليه وإلى يومنا هذا بحدود المصادر المتوافرة لدينا ، وذلك ضمن حلقتين ننشرهما تباعاً إن شاء اللّه .
«التحرير»
الموقع : تقع افغانستان في قلب قارة آسيا ، حيث تمتد على مساحة تبلغ 000/650 كم مربع . معظم اراضيها من الجبال الشاهقة التي تتجه من الغرب والشمال إلى الوسط والجنوب ، وبذلك تشكل معقلاً دفاعياً طبيعياً ، يلجأ إليها الافغاني في دفاعه عن ارضه ووطنه .
إن افغانستان تشكل القسم الشرقي من هضبة ايران ، التي يصل متوسط ارتفاعها إلى 3600 م ، ويصل بعض قممها إلى 6054 م ، وهي تشكل ايضاً مناطق الحدود بين افغانستان وطاجكستان وباكستان .
من اشهر جبالها جبال هندوكوش ـ التي تعرضت في عام 1984 إلى رابع هجوم عسكري روسي مكثف ـ وجبال سليمان ، وفيها ممرات خيبر التي يمر فيها نهر كابل .
أما السهول فتمتد في الشمال في مناطق قريبة من نهر جيحون الذي يشكل الحدود الفاصلة بين تركمانستان وافغانستان .
وكما أن افغانستان بلد زراعي ، تحتوي جباله ايضاً على ثروات معدنية كبيرة ، كالحديد ، والذهب ، والفضة ، والكبريت ، والفيروز والرصاص ، والنحاس ، والغاز الطبيعي .
أما السكان فإنه يعيش في افغانستان اكثر من 16 مليون نسمة ، تصل نسبة المسلمين فيهم إلى اكثر من 99% ، وهي من النسب العالية جداً والنادرة بالنسبة لبقية الدول الاسلامية .
تتألف نسبة السكان من قوميتين كبيرتين : احداهما الافغان أو البشتون ، حيث تؤلف 40% من عدد السكان وجميعهم من اتباع المذهب الحنفي ، والقومية الاخرى هي الهزارة التي تشكل نسبة 40% ايضاً من عدد السكان ، وجميع أبناء هذه القومية من الشيعة الاثني عشرية . أما الاقوام الاخرى كالتركمان والقزلباش والاوزبك والاتراك والبلوش والطاجيك فهم يشكلون النسبة الباقية من السكان والتي تبلغ 20% .
أما اللغة الرسمية في البلد فهناك لغتان رسميتان ، هما البوشتو (الافغانية) والداري (الفارسية الكابلية)(1) . وكلا اللغتين ترتكزان على الابجدية العربية ، ولا سيما تلك المفردات المستعملة في القرآن الكريم والحديث الشريف .
ان كلمة افغانستان تعني بلاد الافغان ، التي تعتبر مهداً للقبائل الارية التي هاجرت إليها من سهول تركمانستان الغربية ، حيث انشاؤا مدينة بلخ وجعلوها عاصمة لهم ، وعرفت هذه البلاد ايضاً باسم اريانا نسبة إلى الاريين . ويقال إن الديانة الهندوكية ظهرت في هذه البلاد ، ومنها انتقلت إلى الهند مع القبائل المهاجرة ، ويطلق ايضاً على القسم الشمالي من افغانستان اسم خراسان ، وهو ما يتكرر كثيراً في كتب التاريخ الاسلامي .
لقد غزا الاسكندر المقدوني هذه البلاد عام 330 ق . م ، وانشأ مدينتين قندهار وهرات ، واستمر حكم اليونان بعده ما يقرب من مئتي عام ، ولكنهم لم يتركوا أثراً دينياً أو حضارياً ، فبمجرد خروج اليونان انتشرت البوذية ، وبقيت هي السائدة إلى أن جاء الدين الاسلامي فحطم الاصنام وكل رموز الجاهلية ، ودخل سكان افغانستان في دين اللّه طائعين مختارين .
بعد فتح نهاوند عام 21 هـ ـ 643م ، تم تأليف عدة جيوش اسلامية، عهد إليها بإتمام الفتح الاسلامي في بلاد فارس وخراسان ، وكان من بين هذه الجيوش جيشان اتجها نحو المنطقة التي تسمى اليوم افغانستان .
سار الجيش الاول نحو منطقة سجستان ، وعلى رأسه عاصم بن عمرو التميمي ، وسجستان هذه منطقة كبيرة تشمل منطقتي راجستان وسيستان ، ومن اهم مدنها قندهار ، وزرنج (يقع قسم منها اليوم في الجمهورية الاسلامية الايرانية) ، وقد دخلها عاصم بن عمرو التميمي صلحاً على أن تكون مزارع سجستان حمىً لا يطؤها المسلمون ، وكان ذلك عام 23 هـ(2) .
وأما مدينة كابل فقد تم فتحها عام 80 هـ أيام حكم عبد الملك بن مروان ، وقد دخلت جيوش العباسيين هذه البلاد ايضاً ، حتى اصبحت هذه البلاد في منتصف القرن الثاني للهجرة اسلامية صرفة .
أما خراسان فيقصد بها ثلاث مناطق واسعة ، تمتد بين هضبة ايران وسفوح هندوكوش ، وتلال البلاد ما بين النهرين ، وهي اليوم تدخل في ثلاث دول : افغانستان منها بلخ وهرات ، والجمهورية الاسلامية الايرانية ، منها نيسابور ، وتركمانستان وهي التي استولى الروس على القسم الاكبر منها في العهد القيصري بعد الحرب التركمانية (1879 ـ 1880م) ، ثم اخضعوا الباقي منها لحكمهم عام 1884م ، ومن اشهر مدنها مرو التي كانت حاضرة خراسان ، ومدينة عشق آباد ، وكان لينين في بداية حكمه قد وعد باجراء استفتاء بين سكانها لتقرير مصيرهم بين البقاء تحت حكم الروس أو العودة إلى الحرية والاستقلال أو الانضمام إلى افغانستان .
ومن الجدير بالذكر أن الملاحظة الهامة والجوهرية في كل تاريخ المسلمين الافغانيين بعد الفتح الاسلامي ، هي أنه كان باستطاعتهم أن يرتدّوا عن الاسلام ، وكانت هناك فرص تاريخية متاحة لهم للعودة إلى البوذية أو الديانات الوثنية القديمة ، لا سيما بعد أن ضعفت قبضة الخلفاء في بغداد ، وأعلنت الولايات النائية عن استقلالها وعدم طاعتها لهؤلاء الحكام ، وافغانستان من تلك البلدان التي تشكلت فيها دول وامارات مستقلة في القرن الثاني للهجرة ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، بل الذي حصل هو العكس تماماً ، إذ ترسخت جذور الاسلام وانتشر انتشاراً سريعاً ، واصبح هذا الدين جزءاً من كيان وحضارة المسلم الافغاني ، مما يدل على حقيقة ناصعة هي أن الاسلام قد دخل في قلوب الافغانيين ; إذ وجد هؤلاء ، فيه صوت الحق والعدل والمساواة .
وبقي الشعب الافغاني وفياً مخلصاً للاسلام وللمسلمين ; لان الاسلام هو الذي حفظ كيانهم ورفع مكانتهم ، وهو ما شهد به أحد القادة الانجليز في معرض حديثه عن شخصية محمد زائي اثناء حربه الانجليز ، إذ يقول عنه : «إن الاسلام أفضل حليف»(3) .
من الناحية العملية لم تستطع سلطة الخلفاء في دمشق أو بغداد (عاصمتي الخلافة) أن تسيطر على افغانستان سيطرة نهائية ، باستثناء فترة قصيرة تتمثل ببداية الفتح الاسلامي ، وبعد ذلك ظهرت دويلات وامارات اسلامية تتمتع بادارة وحكم محلي ، مع الاحتفاظ بعلاقات شكلية مع السلاطين في بغداد ، ثم بدأت تتلاشى هذه العلاقة. فظهرت الدولة الظاهرية التي اسسها طاهر بن الحسن في مرو ونيسابور ، مع بقاء خيط رفيع من الولاء للدولة العباسية وبالمأمون وبعض احفاده على وجه الخصوص ، واستمرت هذه الاسرة في الحكم حتى عام 259 هـ ، ثم اعقبتها الدولة الصفارية حتى عام 296 هـ، فالسامانية حتى عام 384 هـ ، فالدولة الغزنوية حتى عام 427 هـ ، ثم الغورية (دولة السلاجقة) والخوارزمية ، والمغول ، والاوزبك ، ثم تسلم الصفويون زمام الحكم(4) .
المرحلة الهامة في تاريخ افغانستان هي تلك التي ابتدأت بعد دخول الانجليز إلى الهند ، في أواخر القرن السادس عشر ; فبالاضافة إلى الاطماع الروسية التقليدية ، بدأت تنشط الاطماع الانجليزية الصليبية ، حيث جرت محاولات دائبة للاستيلاء على هذا البلد المسلم والتدخل في شؤونه ، وتأجيج مشاكله الداخلية ، واثارة النزاعات القبلية فيه .
وقد بدأ هذا التدخل بأخذ صيغة عملية مؤثرة مع ظهور اسرة الدورانية ، حيث كان آخر ملوك هذه الاسرة وهو شجاع الملك قد طلب المساعدة البريطانية ضد أسرة جديدة منافسة يتزعمها محمد زائي ، الامر الذي ادى إلى دخول جيوش البريطانيين إلى افغانستان ومشاركتها في القتال الدائر بين الاسرتين . وكانت اسرة الدورانية قد وصلت إلى حكم البلاد بزعامة مؤسسها أحمد خان ، وذلك أثر النزاعات الدامية ، والفوضى التي حصلت بين المغول والصفويين عام 1160 هـ ، حيث جعل أحمد خان مدينة قندهار عاصمة لحكمه ، إلاّ إن ابنه تيمور شاه نقل عاصمته إلى كابل ، التي اضحت منذ ذلك الوقت عاصمة لافغانستان .
لقد استطاع محمد زائي أن يحسم النزاع بين الاسرتين لصالحه ، وتمكن من حكم افغانستان عام 1250 هـ بعد سلسلة من المنازعات الداخلية . وفي هذه الفترة دخلت افغانستان في صراع عسكري مباشر مع الانجليز ، ففي عام 1257 هـ ـ 1842م حدثت معركة مضيق كابل الشهيرة ، وهي من المعارك التاريخية الحاسمة ; إذ إنها المرة الوحيدة التي أفني فيها جيش بريطاني بكامله ولم ينج منه إلاّ شخص واحد فقط ، استطاع الهرب إلى الهند ليروي هناك تفاصيل هزيمة بريطانية على ايدي المجاهدين الافغانيين .
خاضت بريطانيا حربين رئيستين ، وعدداً من المعارك الجانبية المتواصلة ، ولكنها في كل حروبها تلك منيت بخسائر فادحة وهزائم عسكرية كبيرة ; ففي الحرب الاولى (1839 ـ 1842م) فقدت بريطانيا جيشاً كاملاً ، إذ تمكن محمد زائي من ضرب هذا الجيش وتدميره عند حدود افغانستان مع الهند (الباكستان) ، فاضطرت بريطانيا إلى أن تعقد معه معاهدة صداقة مؤقتة ، ولكنها ما لبثت أن عادت مرة اخرى إلى احلامها الصليبية فدخلت بجيوشها مدينة قندهار عام 1855م ، ومدينة هرات عام 1863م .
في هذا الظرف التاريخي ، وخلال سنوات صراع الشعب الافغاني داخلياً ، وانشغاله بالكفاح ضد الغزو الانجليزي ، تحركت المطامع الصليبية الروسية ضد المسلمين الافغانيين ، فتمكنت من اقتطاع اجزاء من خراسان (تركمانستان) ، وذلك عام 1873م ، وقد جاء ذلك بعد أن اتفق الروس والانجليز على جعل نهر جيحون حداً فاصلاً للاحتلال الروسي ، وأن يترك لبريطانيا أن تتوسع وتبسط نفوذها في باقي افغانستان ; وهذا الامر هو الذي أدى إلى نشوب الحرب الانجليزية الافغانية الثانية بين عامي 1878 و 1880م .
في تلك الحقبة الحرجة ، كان الروس قد سيطروا على تركمانستان الغربية كلها تقريباً ، وأما بريطانيا فإنها خسرت اعداداً كبيرة من قواتها في معركة فاشلة ، حيث اضطرت بعدها إلى مغادرة ارض افغانستان عسكرياً ، إلاّ إنها في نفس الوقت استطاعت أن تجعل افغانستان توقع معاهدة تقيد من حرية البلاد ، حيث أبقت للانجليز مناطق نفوذ سياسي ، خصوصاً بين الحكام المتنافسين على السلطة ، إذ استطاعوا تنصيب عبد الرحمن ملكاً مرتبطاً بهم بمعاهدة ، ثم جاء بعده ابنه حبيب اللّه عام 1901م ، وكانت البلاد في عهده مرتبطة بحكومة الهند الانجليزية ; ونتيجة لذلك قتل حبيب اللّه سنة 1916م .
إن آخر حرب وقعت بين بريطانيا وافغانستان هي التي وقعت عام 1916م ، وانتصرت فيها القوات الافغانية بقيادة محمد نادر خان ، عندما كانت بريطانيا في أوج قوتها ، وفي لحظات انتصاراتها العسكرية ، خلال الحرب العالمية الاولى ، حيث اضطرت بريطانيا مرة اخرى إلى الاعتراف بافغانستان دولة مستقلة ، واعلان ذلك بشكل صريح ، والاتفاق مع روسيا على جعلها منطقة محايدة بينهما .
في هذه الفترة اعتلى أمان اللّه عرش افغانستان ، وذلك بتاريخ 28 / شباط / 1916م ، ولقب نفسه بالملك بعد وفاة أبيه حبيب اللّه ، أو قتله بشكل غامض كما اشيع بأن له يداً في قتل أبيه ، والشكوك تشير إليه بأصابع الاتهام في هذه القضية .
من جهة اخرى تميز حكم أمان اللّه بالتخبط السياسي ، والمزاجية ، ومحاولة فرض عملية تغريب قسرية ، ومحاربة الاسلام وعلمائه ; إذ حاول فرض مجموعة تشريعات فوقية مشابهة لتلك التي نفذها أتاتورك في تركيا ، ورضا خان في ايران ، فبعد زيارة قام بها أمان اللّه إلى تركيا عمد إلى اقتفاء آثار أتاتورك ورضا خان ، فانشأ حركة افغانستان الفتاة ، واصدر مرسوماً منع بموجبه موظفي ومستخدمي الدولة من تعدد الزوجات ، وقضى فيه بخلع الحجاب الاسلامي ، كما ألزم موظفي الدولة في كابل بلبس الزي الغربي .
وفي عام 1921م أصدر أمان اللّه قانون العائلة المنافي للشريعة الاسلامية ، وحاول اصدار قوانين اخرى تحل محل الشريعة الاسلامية ، وعمل على الغاء القضاء الاسلامي . وعموماً كان أمان اللّه مقلداً ساذجاً لكل خطوات أتاتورك ، من غير أن يأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات وقناعات المجتمع الافغاني ، ففرض على هذا المجتمع الاسلامي تشريعات وعادات غريبة عن طبيعته وتراثه الاسلامي ، وهي ما رفضها هذا المجتمع رفضاً كاملاً .
وفي عام 1927 و 1928م قام أمان اللّه برحلة طويلة إلى اوربا وبعض البلدان المجاورة زار خلالها الهند ومصر وايطاليا وفرنسا وانجلترا وروسيا وتركيا وايران ، واثناء ذلك قرر المضي بتحويل افغانستان إلى بلد علماني يسير على نفس خطوات رضا خان وأتاتورك ، فاستقدم المعلمين الاجانب لتدريب الموظفين الافغان ، وشجع السفور والاختلاط ، وانشأ مدارس البنات . وفي عام 1928م خرجت زوجته الملكة ثريا امام الناس والمصورين بدون حجاب ، ودعا أمان اللّه ألفاً من رؤساء القبائل وشرح لهم ما رآه في الخارج في خطاب دام خمسة أيام ، واقترح عليهم : «أن يصلح الدستور ، وأن يبسط الخدمة الاجبارية على كل البلاد ، واصدر فيما بعد مرسوماً منع بموجبه موظفي الحكومة من تعدد الزوجات»(5) .
وقد اضطر أمان اللّه سنة 1924م إلى ايقاف مشاريعه التغريبية التي كان يسميها ثورية ; وذلك تحت تهديد واحتجاجات المواطنين وثورة القبائل ، حيث لم يتمكن من تنفيذها فتراجع أمام هذه الثورة مؤقتاً ، ولكنه ما لبث أن أعاد الكرة بعد اربع سنوات عقب جولته الدولية إلى تجديد مشاريعه التي فرضها بالقوة العسكرية ، وبتشجيع الصليبية الدولية والاتحاد السوفياتي آنذاك . ولهذه الاسباب قامت ضده ثورة طالبت بالغاء القوانين المنافية للاسلام لم تلبث أن أطاحت به ، ونصبت مكانه أحد المواطنين الثائرين ملكاً لافغانستان باسم حبيب اللّه غازي ، ولكن محمد نادر خان ابن عم الملك أمان اللّه استطاع الدخول إلى افغانستان والقضاء على حبيب اللّه غازي ، بعد معارك ضارية . وفي تشرين الاول من عام 1929م سيطر محمد نادر خان على كابل ونودي به ملكاً على البلاد . أما الملك أمان اللّه فقد هرب من البلاد واستقر به المقام اخيراً في ايطاليا حيث مات هناك عام 1960م .
النكتة المهمة التي يجب أن نقف عندها هي طبيعة العلاقات الدولية الافغانية في هذه الفترة من تاريخ افغانستان ; إذ لابد من التطرق إلى علاقة النظام الملكي بالروس خصوصاً في عهد أمان اللّه ، ومن تولوا الحكم بعده من اسرته ، وذلك بسبب عاملي الجوار والصراع التقليدي من جهة ، ولعلاقة ذلك بالاحداث التي عاشها المجتمع الافغاني قبل سقوط الاتحاد السوفياتي من جهة اخرى .
لقد حدث مع بداية القرن العشرين تغيير هام في السلطة السياسية الروسية ، تمثل بوصول البلاشفة إلى الحكم عام 1917م ، وما تبع ذلك من نمو واضح في العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين ، مما شكل أرضية ممهدة للغزو العسكري الروسي لافغانستان .
لقد كانت روسيا تتطلع دائماً إلى بسط نفوذها على افغانستان ، واستطاعت في فترة تاريخية سابقة ضم تركمانستان إلى الامبراطورية الروسية ، الامر الذي أدى إلى طبع العلاقات بين البلدين بطابع الصراع السياسي والعسكري العدائي . وقد اعقب تلك الحقبة من الصراع والقتال أن كلاً من افغانستان وروسيا قد وقعتا معاهدة جانداماك سنة 1879م التي كانت بمثابة هدنة لوقف القتال ، ولتنظيم العلاقات السياسية بين البلدين . إلاّ إن أمان اللّه كان يعتقد بضرورة اعادة التفاوض حول العلاقات والقضايا المعلقة بينهما ، خصوصاً بعد وصول البلاشفة إلى السلطة ، ولذلك نقض هذه المعاهدة سنة 1919م ، ووجه رسالة إلى رئيس جمهورية روسيا العظمى لينين طلب فيها التفاوض من جديد حول العلاقات بين البلدين ، وحول الاراضي التي استولت عليها روسيا بالقوة العسكرية من افغانستان ، ودعاه إلى الاعتراف المتبادل .
أما لينين فإنه وجد في العداء التقليدي بين الانجليز والافغان ، وفي اتجاهات وسياسات أمان اللّه التغريبية ونقاط الضعف الداخلي ، عوامل قوية تستحق التشجيع لتوثيق علاقاته وتعزيز نفوذه ; فكتب رسالة جوابية إلى أمان اللّه في سنة 1919م جاء فيها : «إن افغانستان هي الدولة المسلمة الوحيدة المستقلة في العالم ، وإن القدر أوكل للشعب الافغاني بالمهمة التاريخية العظيمة التي هي تأليف كل الشعوب الاسلامية المستعبدة حوله ، وقيادتها إلى طريق الحرية والاستقلال»(6) .
وواضح ما في هذه الرسالة من مبالغات حول المهمة التاريخية وحول شخصية أمان اللّه ، وهي بمثابة تشجيع لتوريط أمان اللّه في مشاريع ثورية زائفة ، تثير الاضطرابات عليه داخلياً وخارجياً . وهو ما حصل فعلاً حيث ثارت عليه البلاد واضطر إلى الهرب خارج البلاد ، وفي نفس الوقت نلاحظ رسالة لينين قد اغفلت ذكر المسألة الاساسية التي طالب بها الافغانيين هي عقد اتفاقية جديدة ، وحل مسألة تركمانستان وكذلك الاراضي الافغانية المتنازع عليها .
كان المفروض أن يوقع الروس والافغان معاهدة لتنظيم العلاقة بين البلدين لتسوية المشاكل التاريخية المعلّقة ، ولكن ذلك تأخر إلى شباط 1921م ، وبعد أن وقع الروس معاهدة مشابهة مع كل من تركيا وايران ; كانت المعاهدة مع افغانستان ذات اهمية خاصة ، لانها الزمت كلا الطرفين بتحرير شعوب الشرق ، ودعت السوفيت بتقديم المساعدة التقنية والاقتصادية ، كما تعهدوا بأن يردوا لافغانستان بعد الاستفتاء الاراضي التي اخذتها روسيا . ولكن لم يتم الاستفتاء ، ولم تسترجع الاراضي ، بل وتأزمت العلاقات بين البلدين بعد وصول القائد التركي انور باشا إلى تركمانستان . حيث نزل في بخارى ، وعمت الثورة على الروس في كل ارجاء تركمانستان ، ولكنها انتهت في آب سنة 1922م ، بعد أن دامت أحد عشر شهراً ، وقد اعقب ذلك مباشرة اتفاق روسي ـ انجليزي نص على جعل افغانستان منطقة محايدة بينهما .
لقد استفاد الروس كثيراً من هذه السياسة الانجليزية ، إذ تحولت افغانستان تدريجياً إلى بلد يعتمد بصورة كبيرة في تجارته ، ونقل صادراته ، وتنمية مشاريعه وتسليحه على روسيا ، الامر الذي اتاح لها فرصة النفوذ والتغلغل .
لقد سار التغلغل الروسي في افغانستان ضمن مراحل تاريخية متدرجة ، مستفيداً من مجموعة عوامل داخلية ودولية ، كالوفاق الانجليزي ـ الروسي حول تحييد افغانستان ، والعداء التاريخي للانجليز ، اضافة إلى مجموعة اخرى من القضايا الداخلية والاقليمية كمسألة بوشتونستان والصراع حول السلطة داخل الاسرة الملكية ، وحاجة افغانستان للمعونات الاقتصادية والعسكرية ، أو حاجتها إلى طريق تجاري للاستيراد والتصدير ، اضافة إلى عوامل الجوار الجغرافي .
يمكن اجمال العوامل التي ساعدت الاتحاد السوفياتي سابقاً في تغلغله واحتلاله لافغانستان بالنقاط الرئيسية التالية :
1 ـ استغلال ضعف علاقة الاسرة الملكية بالشعب الافغاني ، والتسلل عبر صفقات سياسية وعسكرية إلى اجهزة السلطة ومرافق الدولة ، خصوصاً المؤسسة العسكرية والادارية ، تحت شعارات المساعدة الفنية والعسكرية والاقتصادية ، أو مساعدة السلطة الملكية في مجابهة مشاكلها الداخلية ، إلى درجة أن الشعب الافغاني كان يطلق على تنظيمات خلق وبارشام اسم الحزب الشيوعي الملكي ; لان ابرز كوادر هذه التنظيمات الماركسية كانت في خدمة الاسرة الملكية ، أو مع داود خان ، امثال الجنرال عبد القادر ، وبابرك كارمل ، وغيرهم من ابناء المؤسسة الارستقراطية العسكرية الذين تسلموا مقاعد وزارية هامة خلال فترات متعاقبة من تاريخ افغانستان المعاصر .
2 ـ الاستفادة من قضية بوشتونستان القبلية ، والعمل على تأجيج هذه المسألة ، وتغذية استمراريتها من اجل تضعيف النظام السياسي الافغاني وعزله ومحاصرته ، لان هذه القضية تمس الاوضاع الامنية لباكستان ، وعندئذ تضطر افغانستان لطلب المساعدات العسكرية الروسية لان باكستان حليفة اميركا ، وهذه لن تترك حليفتها وحيدة في صراعها مع افغانستان .
3 ـ التركيز الروسي المكثف في بناء الكوادر العسكرية الافغانية ، من ضباط وطيارين وفنيين ، وتسليح الجيش الافغاني ، والتغلغل في اوساط الارستقراطية العسكرية الافغانية عن طريق الاعداد الهائلة من الخبراء العسكريين الروسيين ، والذين بلغو الالاف قبل وصول الشيوعيين إلى السلطة .
أما بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه حزب الشعب الديمقراطي (خلق) ، فقد ارتكز التغلغل السوفياتي على قاعدة اساسية وحيدة هي القوة العسكرية ، والغزو المباشر ، والعنف في حل المسائل الداخلية ، أو مجابهة الثورة الاسلامية الافغانية .
فبعد طرد الملك أمان اللّه من الحكم ، واستلام محمد نادر خان السلطة مدة قصيرة ; إذ اغتيل عام 1933م ، انتقل الحكم إلى ابنه محمد ظاهر شاه ، وهذا كان حينذاك شاباً صغيراً ، فقام بعض اعمامه بمساعدته على ادارة شؤون السلطة ، وقد بقي ملكاً لافغانستان إلى أن أطيح به إثر انقلاب عسكري في 17 تموز 1973م ، قاده ابن عمه السردار محمد خان بمساعدة عدد من الضباط في تنظيم خلق وبارشام الماركسيين ، منهم الجنرال عبد القادر ، وبابرك كارمل الذي قيل إنه هو الذي كتب بيانات الانقلاب العسكري ، وغيرهم من الضباط الذين تلقوا تعليمهم العسكري في روسيا ، أو الذين انخرطوا في تنظيم خلق الماركسي .
محمد خان هو ابن عم الملك ظاهر شاه ، وزوج اخته ، واحد افراد الاسرة الملكية الحاكمة ، وقد تسلم منصب رئيس الوزراء من عام 1953م إلى عام 1963م . إلاّ إن الملك ظاهر شاه عزله إثر خلاف بينهما ، لكون محمد خان يعتمد بشكل كلي على الاتحاد السوفياتي ، وكذلك تقريبه للضباط الشيوعيين من جهة ، وتصلبه في مسألة البوشتونستان من جهة أخرى ، وكذلك سوء ادارته وتردي الاوضاع الاقتصادية ، حيث اصبحت افغانستان في عهده تعيش في عزلة نتيجة ازمتها المستحكمة مع الباكستان ، وكذلك اعتمادها المتزايد على المساعدات والقروض الروسية والاميركية .
وقد اتسع في عهد محمد خان نفوذ الاتحاد السوفياتي وهيمن على الجانب الاقتصادي والعسكري ، فالتسليح كاد أن يكون كلياً من الاتحاد السوفياتي ; وفي فترة حكمه تشكل تنظيم حزب الشعب الديمقراطي (خلق) الماركسي ، وفي تلك الحقبة وقّع الاتحاد السوفياتي على صفقة عسكرية ومساعدات فنية لتدريب الجيش ، وكذلك استغلال حقول الغاز الطبيعي والحديد .
بعد انقلاب 1973م اعطي تنظيم بارشام اربعة مناصب وزارية هامة ، منها وزارة الداخلية ووزارة الحدود ، مع سلطات كبيرة داخل الجيش والادارة ، وفي هذه الفترة استطاع الروس تدريب عشرات الضباط والطيارين الذين شكلوا تنظيمات ماركسية بإشراف الخبراء الروسيين ، وهؤلاء هم الذين عاونوا محمد خان في الاستيلاء على السلطة وخلع الملك محمد ظاهر شاه ، واعلان النظام الجمهوري .
ومع مرور الوقت بدأ محمد خان يستشعر الخطر من نفوذ هؤلاء الضباط ومن تنظيمي خلق وبارشام ، مما جعله يحدد ويقلص نفوذهم ، وكان يخطط للتخلص من الهيمنة العسكرية الروسية كلها ; لكن هؤلاء عاجلوه بانقلاب عسكري بتاريخ 27 نيسان 1978م ، حيث قتل محمد خان مع 27 شخصاً من اسرته ، وتم الاعلان عن حكومة نور محمد تراقي ، وانتقلت افغانستان إلى نظام سياسي اكثر وضوحاً وقرباً من الاتحاد السوفياتي ، وتشكلت حكومة ماركسية فتحت حدود افغانستان لاول تدفق عسكري روسي مباشر .
هذه المسألة هي إحدى الفتن القبلية التي اصطنعها الانجليز ، واستفاد منها الاستكبار العالمي لتغذية روح الكراهية والبغضاء بين الشعوب الاسلامية ، وهي تتعلق بوضع ستة ملايين من قبائل البشتون الساكنين في باكستان ; فبعد انسحاب الانجليز من الهند نُظّم لهؤلاء استفتاء في سنة 1947م وضع لهم أحد خيارين ، إما الالتحاق بالهند ، أو الالتحاق بباكستان ، وهو الاستفتاء الذي قسمت بمقتضاه القارة الهندية إلى الهند كلها بشكلها الحالي وباكستان ، ولكن هذا الاستفتاء لم يعط شعب البشتون حرية الاختيار في الانضمام إلى افغانستان ، التي يرتبطون معها بعلاقات قبلية ولغوية ، وهو ما اعترضت عليه افغانستان وبقيت تثيره بشكل متواصل ، مشيرة إلى مطاليبها تلك منذ معاهدة راولبندي سنة 1919م . ونتيجة لذلك اغلقت الباكستان حدودها مع افغانستان عام 1950م ، بعد صدامات مع قبائل البشتون الساكنة على حدود البلدين المسلمين ، حيث اعتبرت الباكستان ذلك بتشجيع من افغانستان .
لقد تكررت هذه المنازعات بين البلدين المسلمين في عام 1955 وبين عامين 1960 و 1963م ، الامر الذي جعل العلاقات بينهما متوترة بشكل دائم .
أما الروس فكانوا يشجعون هذه الخلافات ، وذلك بإغراء الحكومة الافغانية باستمرار تورطها في هذه القضية بالمطالبة بضم اراضي بشتونستان ، وبإثارة النزاعات القبلية والقومية ; لان ذلك يضطر افغانستان إلى استخدام الاراضي الروسية لنقل صادراتها ووارداتها، ويزيد من اعتمادها على القروض الروسية ، اضافة الى الاعتماد الكلي في تسليح وتدريب الجيش الافغاني على روسيا . واثناء اشتداد النزاع بين افغانستان وباكستان زار كل من خروشيف وبولكانين مدينة كابل سنة 1955م ، وعبرا عن تعاطفهما مع سياسة افغانستان الخاصة بمشكلة بوشتونستان ، ووقعا اتفاقاً لقرض بمئة مليون دولار ، يحوَّل جزء منه للمشتريات العسكرية .
وبعد ذلك وقع البلدان في سنة 1956م اتفافاً لشراء السلاح الروسي بلغت قيمته 25 مليون دولار ، وقد اتاح هذا الوضع أن يتمكن الروس من إعداد وتدريب عدد كبير من الضباط الافغان ، وأن يختاروا قسماً منهم للعمل في المخابرات الروسية ، وهم الذين نفذوا الانقلابات العسكرية فيما بعد ، سواء مع محمد خان أو مع تراقي أو مع بابرك كارمل ، وهم الذين فتحوا ابواب بلادهم لجيوش الاتحاد السوفياتي .
وصل الشيوعيون إلى السلطة بعد الانقلاب العسكري بتاريخ 27 نيسان 1978م ، الذي نفذه حزب خلق ، حيث تسلم نور محمد تراقي رئاسة الدولة والوزارة معاً ، يسانده تنظيم بارشام اليساري بعد اندماجه مع حزب خلق ; لان هذه التنظيمات هي الحركات الاكثر تنظيماً والاوسع نشاطاً في مؤسسة الجيش ، وفي الادارات العامة.
ونور محمد تراقي رئيس حزب الشعب الديمقراطي (خلق) صحفي وكاتب كان ينشر بعض كتاباته في احدى الصحف اليسارية في الهند، وقد عمل مترجماً في السفارة الاميركية ; وبعد الانقلاب العسكري حاول بكل الطرق اخفاء هويته الشيوعية ، خوفاً من ردود الفعل الشعبية ; لذا تراه يقول : «نحن نرفض أن ندور في فلك أية قوة غربية أو شرقية ، ولن نكون ظلاً لاحد يوماً ما» ، ثم يقول : «فكرنا مؤسس على مبدأ الصراع الطبقي ، ولكننا لسنا شيوعيين ، ولم تذكر كلمة الشيوعية في سجلنا السياسي ، كما لم يكن في افغانستان حزب شيوعي يوماً ما» . والظاهر أن تراقي هذا لم يكن شيوعياً بالمفهوم الروسي التقليدي ، ولم يكن مدركاً لكثير من الامور التي تدور حوله ، إذ إنه كان مطوقاً بحزام أمني وعسكري روسي مباشر ، اجهز عليه بعد أول خلاف ، بل إن تراقي قال مرة : «نحن ديمقراطيون فقط ، وحزبنا يحمل منذ انشائه اسم حزب الشعب الديمقراطي ، ولم نقل اننا اشتراكيون ، ولا نريد أن نوضع في قوالب صبها الاخرون ، ولا نقف تحت لافتات رفعها الاخرون» . ووصل به الامر إلى أن قال : «نحن مسلمون موحدون»(7) .
إن تراقي لم يظهر الاتجاه الشيوعي ; لان افغانستان وشعبها تدين بالاسلام ، ولكي يتمكن هو وحزبه من كسب الانصار في الجيش واوساط المثقفين دون أن يثيروا حساسية أحد ، سواء في الداخل أو في الخارج ، وقد سلكوا نوعاً من الشيوعية الباطنية تتمثل بعدم اظهار أي التزام واضح وعلني بالماركسية والشيوعية ، فمنذ تأسيس حزب خلق عام 1956م ، لم يذكر في برنامجه السياسي أو الفكري أي التزام أو اتجاه شيوعي ، وهذا ما سار عليه ايضاً تنظيم بارشام .
أما حفيظ اللّه أمين مساعد تراقي ورئيس الوزارة الافغانية ، فقد اعلن بشكل واضح وصريح ـ خصوصاً بعد الانقلاب العسكري الذي قاده بنفسه ـ ما حاول تراقي أن يخفيه ، فقد زعم أن ثورة نيسان 1978م هي ثورة الطبقة العاملة ، لكنه قد استولت على السلطة قيادة بروليتارية .
إلاّ إن المسألة الاساسية التي واجهت الشيوعيون ، وكثيراً تستروا عليها ، هي المعارضة الشعبية المتزايدة التي تصاعدت بشكل مطرد ، وتحولت إلى ثورة اسلامية شعبية ضد النظام السياسي ، وضد التدخل الروسي في شؤون افغانستان .
(1) احمد عطية، القاموس السياسي (افغانستان) .
(2) الكامل في التاريخ 3:137، طـ . بيروت.
(3) محمود شاكر، كتاب افغانستان : 46 ـ 49.
(4) افغانستان والغزو الشيوعي : 13 ـ 24.