هدف الحیاة الإنسانیة (1)

مرتضى المطهری

نسخه متنی
نمايش فراداده

دراســــات

هدف الحياة الإنسانية

( 1 )

* الشيخ مرتضى المطهري

هدف الخِلقة :

تعتبر مسألة (هدف الحياة) إحدى المسائل الأساسية التي ينبغي أن يركز عليها الفكر الإنساني . فلقد ارتسم أمام الإنسان دائماً هذا السؤال :

ماهو الهدف من هذه الحياة ؟ أي ، لأي شيء يعيش الإنسان ؟ أو ماهو الهدف الذي ينبغي أن يستهدفه الإنسان من حياته وفي هذه الحياة ؟

ومن جانب آخر فإنّا إذا حاولنا أن نبحث الموضوع من وجهة النظر الإسلامية ; للزمنا أن نطرحه على النحو التالي : (والواقع أن جذور البحث ترجع إلى هذه النقطة بالخصوص) :

ماهو الهدف من إرسال الأنبياء ؟ وماهي الغاية الأصلية لذلك ؟

من المسلّم به أن هدف بعث الأنبياء لا ينفصل ـ بحال ـ عن الهدف الحياتي لاُولئك الذين بُعث إليهم الأنبياء ليرشدوهم ، فإن الأنبياء بعثوا ليقودوا البشرية ويوصلوها إلى هدفها النهائي .

ولو تقدمنا مرحلة اُخرى ، لوصلنا إلى بحث حول (الهدف من الخلقة)، ومن خلال البحث عن مسألة (هدف الخلقة) تطرح مسألة خلق الأشياء ، ومن جملتها خلق الإنسان والهدف منه . وهنا يجب أن يوضح الموضوع على النحو التالي :

إن تعبير (هدف الخلقة) ماهو ؟ تارة يطلق ويراد منه التساؤل عن هدف الخالق من عملية الخلق هذه، أي ماهي الدوافع والعوامل التي دفعته لهذه العملية ؟ وحينئذ نقول : إن هذا التساؤل ـ بهذا العرض ـ لا معنى له ، ولا يمكن أن يكون لعملية الخلق هنا هدف ، أي لا معنى لأن يستهدف الخالق تحقيق شيء من عملية الخلق . فإن الهدف هنا يعني العامل والدافع المحرّك للفاعل ليقوم بهذا العمل ، ولولا وجود هذا العامل والدافع لما قام به .

إننا لا نستطيع أن نقول بوجود هدف وغرض في المجال الإلهي ، بمعنى أن الفاعل يريد عبر فعله أن يصل إلى غرض معيّن ، وأن ذلك الغرض هو الذي حرّكه نحو هذا الفعل . أي أن هناك شيئاً دفع الفاعل ليكون فاعلاً ، يسعى لتحقيق ذلك الشيء . وهذا يستلزم نقص الفاعل . ومثل هذا الاستهداف إنما يتصور في الفاعلين بالقوة والمخلوقات ، أمّا في الخالق فهو غير متصور . إن مثل هذا الاستهداف يرجع إلى الاستكمال ، بمعنى أن الفاعل يسعى عبر عمله هذا للوصول إلى شيء يفقده .

ولكن ـ وتارة اُخرى ـ يتركز الحديث عن هدف الخلق ، لا على غاية الفاعل وهدفه ، وإنما على هدف الفعل ومعنى غاية الفعل . إن أي فعل ـ نركز عليه ـ لابد أن يكون باتجاه هدف معيّن ، ونحو كمال خُلق لأجله ، فالفعل خلق ليصل إلى هذا الكمال ، لا أن الفاعل عمل هذا العمل ليصل هو إلى كماله ، بل ليصل الفعل إلى كماله ، أي أن نفس الفعل يسير باتجاه الكمال .

فإذا قلنا أن ناموس الخلقة يقضي بأن أي فعل يتحرك منذ بدئه باتجاه الكمال ، فإنه ـ والحال هذه ـ تكون للخلقة غاية .

وهذا هو الواقع ، فإن أي شيء يوجد له ـ أساساً ـ كمال منتزع ، وأنه خلق ليصل إلى كماله المنتزع ، وأن ناموس هذا العالم ـ بشكل عام ـ قائم على أن أي شيء يبدأ وجوده من النقص ، وتكون مسيرته مسيرة الكمال، لكي يصل إلى كماله اللائق والممكن .

إن مسألة (ماهي الغاية من خلق الإنسان ؟) ، ترجع إلى التساؤل عن (ماهية الإنسان) ، وماهي الإمكانات الكامنة في الوجود الإنساني ، وماهي الكمالات الممكنة له ؟ لذا يجب البحث عن الكمالات التي يمكن للإنسان أن يبلغها .

إن الإنسان خلق لتلك الكمالات ، وطبيعي أن الحكمة ـ بهذا الاعتبار ـ تعبّر عن أن يكون عملٌ ما لأجل هدف معيّن ، فلا يختلف الحال إذا عبّرنا عنها بالحكمة أو الغاية .

وعلى هذا فلا داعي لأن نبحث بشكل مستقل عن غاية الخلقة الإنسانية وهدفها ، وإنما يرجع هذا البحث إلى التساؤل عن هذا الإنسان .

ماهو ؟ وماهي الإمكانات الكامنة فيه ؟

وبعبارة اُخرى : ما دمنا ننظر للبحث من زاوية إسلامية لا عقلية فلسفية ; فإن علينا أن نعرف نظرة الإسلام للإنسان ، والكمالات التي يمكنه أن يبلغها في التصور الإسلامي .

وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان . ومما يتفق الجميع عليه أن الأنبياء جاءوا ليعينوا الإنسان ، ويأخذوا بيده إلى الكمال .

إن في حياة الإنسان ـ في الواقع ـ نوعاً من الخلأ والنقص لا يمكن للإنسان الفردي ، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين ، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي ليكون قادراً على التحرك باتجاه مجموعة الكمالات الممكنة له . فكون الهدف من بعثة الأنبياء هو تكميل الإنسان وإيصاله إلى غاية خلقته بشكل عام ، أمر لا ينبغي البحث فيه لأن الكل مسلّمٌ به .

كما أنه لا مجال للبحث في ماهية الهدف الحياتي ـ بشكل عام ـ لكل فرد من الزاوية الفردية ، فإنه ـ وحسب ما يمكننا أن نكون ، وماهية الاستعدادات المتوفرة في وجودنا بالقوة والتي نستطيع إلى نوصلها إلى المرحلة الفعلية يكون هدفنا الحياتي مطابقاً لذلك تماماً .

إلاّ أن هذا المقدار من البحوث يبقى كلياً مبهماً ، ويلزمنا حينئذ أن نعود إلى القرآن ليحدثنا ـ بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً ـ عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان ؟ وهل ذكر لنا الهدف من بعثة الأنبياء ؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان ؟

إننا ـ في الغالب ـ نتحدث عن المفهوم العام ـ وهو صحيح بدوره . فنقول : إن الإنسان خلق للسعادة ، وإن اللّه لا هدف له من خلق الإنسان ، ولا يصله نفع من ذلك ، وإنما خلقه ليصل إلى سعادته ، منتهى الأمر أن الإنسان يقف في مرتبة من الوجود ، وموضع يجب معه أن يختار سبيله بكل حرية ، وإن الهداية الإنسانية تكليفية وتشريعية لا هداية تكوينية وغريزية وجبرية .

ولما كانت له حريته فإن الإنسان بعد أن هدي السبيل قد يحسن الاختيار وقد يسيء ذلك . (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا)[1] .

وهذا أمر صحيح بلا ريب ، ولكن أين يشخّص القرآن هذه السعادة الإنسانية ؟

يقال ـ عادة ـ : إن الهدف من خلقة الإنسان ، والذي ترتهن به السعادة الإنسانية ، وبالتالي يكون الهدف من بعثة الأنبياء ـ بالطبع ـ ، هو تقوية الإنسان في جانبي (العلم) و(الإرادة) ، فاللّه خلق الإنسان للعلم والمعرفة ـ وكماله في معرفته الأكثر ـ كما خلقه للقدرة ليحقّق ما يريد ، فتقوى إرادته ويصبح قادراً على تحقيق ما يشاء .

وعلى هذا فإن الهدف من خلق حبة حنطة (أو ما هو استعدادها) هو أن تكون بشكل نبتة الحنطة ، وأن سعادة الخروف ـ في حدها الأقصى ـ تكمن في التهامه علفه وصيرورته سميناً ، أمّا ما في إمكان الإنسان فهو يعلو فوق هذه المسائل وهو أن (يعلم) و(يقدر) . وكلما علم أكثر ، وقدر أكثر، كان إلى الغاية والهدف الإنساني أقرب .

وتجدهم تارةً يقولون : إن الهدف من حياة الإنسان هو السعادة . بمعنى أن يقضي الإنسان نصيبه من الحياة الدنيا بشكل أفضل وأسعد ... يتمتع أكثر بمواهب الخلقة والطبيعة ، ويقلّل من تألمه فيها ، سواء من جانب العوامل الطبيعية ، أو من جانب أمثاله من أبناء نوعه الإنساني . وليست السعادة شيئاً غير ذلك .

فالهدف من خلقنا ، هو أن نستفيد في هذه الدنيا من وجودنا ، ومن الأشياء التي حولنا غاية الاستفادة ، أي أن نحصل على (الحد الأعلى من اللذة) و(الحد الأقل من الألم) .

وحينئذ فإن الأنبياء جاءوا ليحقّقوا هذا الغرض ، فتكون حياة الإنسان قرينة السعادة ، أي الحد الأكثر من اللذة الممكنة والحد الأقل من الألم الممكن ـ وهو الهدف . وإذا كان الأنبياء قد عنونوا مسألة الآخرة بعد ذكر مسألة (الحياة) ; فإنما ذلك لأنهم عينوا سبيلاً للسعادة الإنسانية . وبالطبع فإن سلوك هذا السبيل يستلزم ثواباً ، كما أن مخالفته تستدعي عقاباً خاصاً . ومن هنا جاءت الآخرة تبعاً للدنيا كما أن كل جزاء يتبع وضع أي قانون ، فلكي لا تكون القوانين في هذه الدنيا عبثاً ولغواً ـ خصوصاً وأن الأنبياء لم يكونوا قوة تنفيذية ، ولم يستطيعوا أن يثيبوا أو يعاقبوا الأشخاص ـ فقد طرحوا مسألة عالم الآخرة ، لكي يعاقب المذنبون ويثاب المحسنون ، إلاّ أننا لا نجد مثل هذا في القرآن الكريم .

إن القرآن يصرح في موضع منه : (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون)[2]فغاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ (الجن) هي العبادة .

وربما كان هذا أمراً صعب القبول ، فما معنى هذا الهدف ؟ وماهي الفائدة التي تعود بها العبادة على اللّه ؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له ، وماهي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة؟ ولكن القرآن ـ على أي حال ـ يذكر هذا الموضوع بكل صراحة (أي أن العبادة هي غاية الخلق الإنساني) .

وعلى العكس من النظرة السابقة التي تجعل الآخرة أمراً طفيلياً تبعياً ; تصرّح بعض الآيات بأنه لو لم تكن القيامة لكان الخلق عبثاً ، وهذا يعني أنها جعلت بمنزلة الغاية . وقد تكرر هذا المفهوم في القرآن الكريم كثيراً (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)[3] .

والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له في قبال الحكمة . فيأتي الإنكار بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم ، وأن ليس هناك غاية حكيمة ، ولذا فهذه الخلقة عبث وخواء . ثم يأتي عطف البيان (وإنكم إلينا لا ترجعون) وهذا يعني أنه لو لم يكن هناك رجوع إلى اللّه ; فالخلقة عبث.

وإننا لنجد القرآن يكرر التقارن بين مسألة القيامة من جهة ، ومسألة كون الخلق بالحق ، وعدم الباطل واللغو واللعب فيه ، وهو في الواقع نوع من الاستدلال .

ذلك أن أحد أنماط الاستدلال القرآني على الآخرة هو الاستدلال اللمي ـ حسب المصطلح المنطقي ـ ، بمعنى أنه بعد الإيمان بوجود إله لهذا العالم ، وأنه لا يفعل عبثاً ، وأن عمله إنما هو بالحق ، ولا مجال للباطل واللعب فيه ، نعم ، بعد الإيمان بأن الخليقة لها خالق حكيم ، يأتي الإيمان بالرجوع إلى الخالق . في الواقع أن القيامة والرجوع إلى اللّه هي التي تبرر خلق هذا العالم ، وهذا ما يركز عليه التعبير القرآني . وإننا لن نعثر في القرآن الكريم على ما يوحي بأن الإنسان خلق ليعلم أكثر ، ويقدر أكثر لكي يصل إلى هدفه حين يعلم ويقدر ، وإنما خلق الإنسان ليعبد اللّه ، وأن عبادة اللّه هي الهدف . فلو أن الإنسان علم وعلم أكثر ، وقدر وقدر أكثر ، ولم تكن في البين معرفة اللّه التي هي مقدمة العبادة ، ولم تكن هناك عبادة للّه ; فإن الإنسان لم يخطُ على طريق هدف الخلقة ، ولا يُعدُّ من وجهة نظر القرآن إنساناً سعيداً . أما الأنبياء فقد جاءوا ليوصلوا البشرية إلى السعادة وهي في نظرهم عبادة اللّه .

وبهذا المعنى فلن يكون الهدف الأصلي من الحياة في منطق الإسلام ـ بالطبع ـ شيئاً سوى المعبود ، فالقرآن يريد صياغة الإنسان ، ويمنحه هدفه وغايته . والهدف الذي يريد أن يوصل الإنسان إليه هو اللّه لا غير ، وأي شيء غير ذلك ؟ ليس إلاّ مقدمة لا أصالة له ولا استقلال ، وليس هو الهدف الأصلي .

فالآيات التي تصف الإنسان الكامل ، أو تتحدث على لسان هذا الإنسان ، تعرف هذا الإنسان بأنه الذي حدد هدفه بوضوح ، واتجه نحوه وعمل لأجله .

يقول القرآن الكريم على لسان إبراهيم : (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين)[4] و (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين)[5] .

وتوحيد القرآن هذا ليس توحيداً فكرياً يعتقد الإنسان معه بأن مبدأ العالم واحد ، وخالقه واحد فحسب ، وإنما هو توحيد في المرحلة الخاصة للإنسان أيضاً ، بمعنى أن الإنسان من الجانب العقائدي يعتقد بأن خالق العالم واحد لا شريك له . ومن جانب الهدف يصل إلى الحد الذي لا يرى هدفاً يستحق أن يستهدف إلاّ اللّه لا غير . وبالطبع تكون الأهداف الاُخرى منبعثة ونابعة من هذا الهدف ، فلا استقلال لها ولا أصالة وإنما تستمد من هذا الهدف وجودها .

فكل شيء في الإسلام يدور حول المحور الإلهي ، سواء من حيث الهدف من بعثة الأنبياء ، أو من حيث الهدف الحياتي للفرد .

ولندرس الآن مسألة جعل العبادة هدفاً للخلق في القرآن :

فعن الإنسان الكامل وعن هدفه الحياتي يقول القرآن الكريم : (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين)[6] فالإخلاص هو المقصود قبل كل شيء ، والعبد المخلص هو الذي لا يجد في وجوده حاكماً غير اللّه.

وأما مسألة هدف الأنبياء فللقرآن فيها تعبيرات مختلفة . فهو يقول تارة : (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً) [7] .

واُخرى يقول : (يخرجهم من الظلمات إلى النور)[8] .

فمن الواضح أن بعض التعبيرات صريحة في دعوتها الناس للتعرف على اللّه ، وأن الأنبياء هم حلقة اتصال بين المخلوق والخالق والرابط بينهما .

ونجد آية اُخرى تذكر بصراحة تامة شيئاً آخر كهدف لبعث الأنبياء ، وهو «العدالة الاجتماعية» .

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس)([9] ، فما هو هدف البعثة ـ طبق الآية ـ وهي من أفعال اللّه التي لا يمكن أن تكون بلا هدف ؟

إن القرآن يقول : بأن البعثة تمت لإقرار العدالة بين الناس ، فكل الأنبياء جاءوا للعدالة . وهنا نجد فلسفة البعثة قد طرحت بشكل آخر من خلال فرضين :

الفرض الأول : إن الهدف الأساس هو إقرار العدالة بين الناس ، ولما كانت العدالة الواقعية لا تقوم بين الناس ، ـ كما يستدل أمثال الفيلسوف أبو علي سينا ـ إلاّ أن يقوم قانون عادل بينهم ، ومثل هذا القانون العادل لا يمكن أن يضعه البشر لعلتين :

الاُولى : لأن البشر غير قادر على أن يشخّص الحقيقة ، ويتخلَّص من الميول والأغراض المصلحية .

والثانية : لعدم وجود ضمان للتطبيق ، فإن الطبع الإنساني يدفعه لتقديم نفسه على الغير ، أو تشريع القانون إلى الحد الذي يحقّق منافعه ، فإذا كان هناك أي ضرر رفضه ، وعليه فيجب أن يكون القانون قانوناً يخضع له الإنسان ، ومثل هذا القانون لا سبيل له إلاّ أن يكون من اللّه، بحيث يحس الإنسان من عمق وجدانه بالخوف من عصيانه . ولما كان الأمر كذلك أي لكي تتم العدالة ; نحتاج إلى القانون العادل ، وهذا القانون يجب أن يكون له ثواب وعقاب موضوعان من قبل اللّه . ولكي يؤمن الناس بالثواب والعقاب ; يجب أن يعرفوا اللّه . فمعرفة اللّه صارت عبر عدة وسائط مقدمة لإقرار العدالة . وكذلك فإن العبادات قررت لهذا الفرض ، أي لكي لا ينسى الناس مقنن القانون ، ويبقوا دائماً على ارتباطهم به ، ويذكروا أنَّ لهم رباً يراقبهم ، وهو اللّه الذي شرع القانون العادل لهم .

ووفقاً لمثل هذا السير الفكري ـ ولو بقينا نحن وهذه الآية ـ وجب أن نقول : إن الهدف الأصلي من بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس . وتكون الدعوة إلى اللّه ثانوية لكي يتعرَّفوا على مقنن القانون ، ويحسبوا له حسابه ، وإلاّ فليست لمسألة الدعوة إلى اللّه ومعرفة اللّه أصالة ، وإنما تقوم على الأساس الآنف .

فلدينا هنا في الواقع ثلاثة أنماط من المنطق يجب أن نعرف القابل منها للقبول .

الأول : هذا المنطق الذي عرضناه ، ولا نجد له مؤيداً ، أما ما نقلناه عن أمثال أبي علي بن سينا ، فلم يكن مؤيداً منهم تأييداً تاماً .

لقد جعل هذا المنطق هدف بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس ، فالحياة السعيدة ـ في الواقع ـ للناس هي في هذه الدنيا . ومسألة المعرفة والإيمان باللّه والإيمان بالمعاد هي ـ تماماً ـ مقدمة ذلك ، لأن العدالة لا تتم إلاّ بمعرفة الناس لإلههم وإيمانهم بالمعاد . فالإيمان مقدمة العدالة .

أما المنطق الثاني ـ فعلي العكس من ذلك ـ يؤكد أن الهدف الأصلي هو معرفة اللّه وعبادة اللّه هي الهدف الأصيل ، والتقرب إلى اللّه هو الهدف الحقيقي ، أما العدالة فهي هدف ثانوي ، ذلك لأن البشرية لكي تصل إلى المعنوية وتفوز بها ، عليها أن تعيش هذه الحياة الدنيا ، ولأن الحياة الإنسانية لا تستقر إلاّ في ظل الشكل الاجتماعي لها ، والشكل الاجتماعي لا يتم إلاّ باستقرار العدالة . فالقانون والعدالة هما مقدمتان لأن يقوم الإنسان في هذه الحياة الدنيا ـ باطمئنان ـ بعبادة اللّه . وإذا لم يكن الأمر كذلك فلا قيمة للعدالة .

وعليه فإن المسائل الاجتماعية التي نقول بأهميتها إلى هذا الحد ، ونطرحها في مجال العدالة ، هي هدف الأنبياء ، ولكن لا الهدف الأولي وإنما الهدف الثانوي أي هي مقدمة لهدف آخر .

وهناك رأي ثالث ، بأن يقول أحد : ما الداعي لأن نفترض ـ لبعثة الأنبياء وبالتالي للخلقة والحياةـ هدفاً أصيلاً ونعتبر باقي الأهداف مقدمية ؟ فإن بالإمكان القول بوجود هدفين لذلك ، وأنهم بعثوا لهدفين مستقلين عن بعضهما .

الأول : لكي يكونوا واسطة الاتصال بين البشر وخالقهم ، وليعبدوا اللّه، والثاني : لإقرار العدالة بين الناس .

وليس أي من هذين الهدفين مقدمة للآخر ، بل كل منهما هدف أصلي ، خصوصاً وأننا رأينا القرآن الكريم يذكر كلا الهدفين . فما المانع من أن يكونا هدفين أصليين ولا يكون أيٌ منهما مقدمة للآخر؟

ولهذا الأمر نظائر في مجالات اُخرى تعرّض لها القرآن .

فمثلاً نجد القرآن الكريم يؤكد على تزكية النفس كثيراً ، أنه يؤكد على هذا التهذيب والتنمية النفسية كثيراً فيقول :

(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)[10] .

ففلاح الإنسان رهين تزكية النفس في نظر القرآن وهنا يقال :

هل أن تزكية النفس هذه هي بنفسها هدف في تصور الإسلام ؟

هل أن تزكية النفس هدف لحياة الإنسان وبعثة الأنبياء وخلقة الإنسان ؟

أم أنها مقدمة ؟

وإذا كانت مقدمة فهي مقدمة لأي شيء ؟

هل هي مقدمة لمعرفة اللّه ، ومقدمة للاتصال باللّه وعبادته ؟

هل هي مقدمة لإقرار العدالة الاجتماعية ؟

وقد جاء الأنبياء لهدف إقامة العدالة الاجتماعية ، ومن الضروري لكي تقوم بين الناس أن تعتبر بعض الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية رذيلة ، والاُخرى المنسجمة معها فضيلة ، وحنيئذ فلابد للإنسان أن ينزه نفسه من الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية، ويخلّصها من الحسد والكبر والعجب ، وعبادة الذات والهوى وغير ذلك ، ويزين نفسه بتلك الصفات التي تعتبر أخلاقاً اجتماعية، وتساعد على إقرار العدالة الاجتماعية ، مثل الصدق والأمانة والإحسان والمحبة والتواضع وغيرها .

أو قد يقال : إن تزكية النفس ـ أساساً وبقطع النظر عن أيّ هدف آخر ـ هي بنفسها هدف مستقل .

والآن أيُّ هذه الآراء ينبغي قبوله ؟

إننا نرى أن القرآن يرفض أي نوع من الشرك ، وبأي معنىً كان . إنه كتاب توحيدي بكل معنى الكلمة .

l توحيدي بمعنى أنه يرفض وجود أي مثل للّه (التوحيد الذاتي : (ليس كمثله شيء)[11]) .

l وهو توحيدي بمعنى أنه يصف اللّه بكل الصفات التي تعطي الحد الأعلى من الكمال له (له الأسماء الحسنى)[12] والأمثال العليا (وللّه المثل الأعلى)[13] .

l إنه كتاب التوحيد ، بمعنى أنه يرفض أيَّ فاعل في قبال اللّه ، ويرى أن أي فاعل ; يأتي بعد اللّه وفي طوله ـ كما يصطلح ـ وهذا هو معنى (لا حول ولا قوة إلاّ باللّه) .

l وهو كتاب التوحيد بمعنى أنه لا يرى الكائنات هدفاً أساسياً مستقلاً ونهائياً إلاّ اللّه .

l وخلال كل ذلك فهو لا يرى للإنسان ـ سواء في حركته التكوينية أو حركته التكليفية والتشريعية ـ هدفاً غير اللّه .

إن البون يتسع باتساع البعد بين السماء والأرض ... بين الإنسان الذي تريده المدارس الفلسفية البشرية ، وذاك الذي يريده الإسلام . فهناك الكثير من الأشياء التي يقول بها الإسلام والتي تشبه ما يقوله الآخرون ، ولكن ليس من زواية نظر واحدة . إن الإسلام ينظر للاُمور دائماً نظرة توحيدية إلهية .

فمثلاً أشرنا سابقاً إلى أن الإنسان في فلسفته توصل إلى وجود قوانين ثابتة غير متغيرة حاكمة في هذا الكون .

والقرآن الكريم يقول بهذا الرأي ، ولكن ليس بهذا التعبير ، وإنما يقول به من زاوية إلهية :

(فلن تجد لسنة اللّه تبديلاً ولن تجد لسنّة اللّه تحويلاً)([14] إن القرآن يقبل مبدأ العدالة . بل هو يعطيه قيمه غير عادية وأهمية خاصة ، ولكن لا بعنوان أن العدالة هي هدف نهائي ، أو أن العدالة مقدمة ليسعد بها الإنسان في هذه الحياة بهذا الشكل الذي نعرفه من السعادة ، بل إنه يعتبر الحياة السعيدة في الدنيا بالنحو الذي يرضاه الإسلام ، في ظل نوع من التوحيد العملي ، أي أن يكون الإنسان خالصاً للّه .

إن إنسان القرآن موجود لا يستطيع تأمين سعادته أحد إلاّ اللّه ، بمعنى أن الإنسان موجود لا يروي ظمأه إلى السعادة ، ولا يؤمن له سد الخلأ ، ولا يحقق رضاه الكامل ، ولا يقوده في مسيرته الحقيقية ; إلاّ الذات الإلهية (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب)[15] وهو تعبير عجيب ومعجز ! هؤلاء الذين آمنوا واطمأنت قلوبهم بذكر اللّه ... ذكرهم مثبّت لهم هذه الصفة وهي اطمئنان قلوبهم بذكر اللّه ... ولكن هل تطمئن قلوب الآخرين بأشياء اُخرى ؟ كلاّ إن القرآن ينفي ذلك ، بعد أن يمهد بذكر كلمة (ألا) التنبيهية ! إنه يذكر وينبه ويعلن أمراً هاماً ، ويقدم كلمة (بذكر اللّه) وحقها أن تتأخر نحوياً ، ولكنه يقدمها لتفيد الحصر كما يقول أهل البيان ، إذ أن ما من حقه ـ بحسب القاعدة ـ أن يؤخر إذا قُدِّم أفاد الحصر بشكل طبيعي ، والجار والمجرور متعلق بالفعل ويأتي بعده ـ بحسب القاعدة ـ ولكنه هنا قدّم ليفيد الحصر ويعلن أنه يذكر اللّه لا غير ، بنسيان ما عدا اللّه ، تطمئن القلوب ، وأن الذي يؤمن سعادة القلب المضطرب الباحث عن الحقيقة ليس إلاّ اللّه ، أما كل شيء عداه فما هو إلاّ مقدمة له ، إنه موقف من المواقف الإنسانية في مسيرتها الطويلة لا المقصد النهائي ، وحتى العبادة كذلك ، إذ يقول : (وأقم الصلاة لذكري[16]وفي آية الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[17] يذكر القرآن خاصية الصلاة ويقول عن هدفها : (ولذكر اللّه أكبر)[18] .

إن الإسلام يريد الإنسان للعبادة وسبيل التقرب إلى اللّه والتعرف عليه وذكره . وطبيعي أن يحصل الإنسان على قدرته هنا ، إلاّ أن العلم والقدرة بالنسبة لكل الأشياء أيضاً مقدمة لا أصل . وكذلك تزكية النفس فإنها جميعاً أهداف ثانوية ، فهي أهداف لشيء ووسائل لشيء آخر . أساس الأخلاق الفردية والاجتماعية :

يحتاج الإنسان في حياته الإنسانية ـ الفردية والاجتماعية ـ إلى مجموعة من الأهداف اللامادية . ونحن هنا لن نتعرض إلى جانب الضرورة الفردية في حياة الفرد للأهداف والقيم المعنوية وغير المادية ، لأننا لا نرى فعلاً حاجة لذلك ، وربما يتوضح الحال فيها من خلال بحوثنا الاجتماعية .

ومن المسلّم به أن أية مدرسة اجتماعية تحتاج إلى وجود مجموعة من الأهداف المشتركة بين جميع الأفراد ، ذلك أن هذه الأهداف المشتركة إن عدمت فإن الحياة الاجتماعية بمفهومها الواقعي ـ أي الحياة المنظمة ـ تعود غير ممكنة . فالحياة الاجتماعية معناها التعاون . والتعاون في مجال الأهداف المشتركة ممكن . أما إذا لم يوجد في البين هدف مشترك; فإن هذا الإمكان ينتفي . وإن الهدف المشترك يعم الأهداف المادية والمعنوية .

فمن الممكن أن يكون الهدف المشترك لجميع الأفراد هدفاً مادياً ، كمثل الشركات التجارية والصناعية للأفراد المشتركين في تأسيسها ، حيث يجتمع عدٌ من الرأسماليين ويؤسسون شركة تجارية أو صناعية ، أو يتفق صاحب رأسمال وصاحب ساعد عامل ، أو يتفق أصحاب سواعد عاملة ، فالعمل والساعد من أحدهما ، ورأس المال من الآخر ثم يأتي العمل المشترك .

فالهدف المشترك أعم من المادي والمعنوي ، إلاّ أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يُشكَّل تماماً كما تشكل الشركات ، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون أساس الحياة الاجتماعية شركة كبرى لا غير . هذا ما نراه نحن بالطبع . وإلاّ فإن البعض يفترض هذا التصور . وهذا (راسل) يبني أخلاقه على هذا الأساس!! لأنه لا يرى للأخلاق أساساً اجتماعياً سوى المنافع الفردية . إنه يقول إن أخلاق المجتمع في الواقع نوع من التعاقد يقوم به الأفراد . ذلك لأن الأفراد جميعاً يدركون أن الحفاظ الأفضل على منافعهم يقتضي أن يراعي كل منهم حقوق الآخرين ووجودهم .

ويضرب لذلك مثالاً فيقول :

«أنا ـ بحسب الطبع ـ أميل لأن امتلك بقرة جاري ، ولكني ملتفت إلى أن هذا العمل إذا تحقق فإن جاري سوف يردُّ عليه ويأخذ بقرتي ، وهكذا يقوم الجار الآخر بنفس العمل ، وحينئذ ـ فبدلاً من الانتفاع الأكبر ـ سوف اُصاب بضرر أكبر ، وحينئذ أقول : إن المصلحة تقتضي أن أحترم حقك وأعتبر بقرتك ملكاً لك ، لتكون بقرتي ملكاً لي» . وهكذا يعتبر (راسل) الحفاظ على المنافع الفردية أساساً للأخلاق الاجتماعية . وفي الواقع فهو يرى أن أساس الاحترام للحقوق الفردية . هو أن يحترم عدة من الشركاء حقوق كل فرد منهم ، لأنهم يرون أن مصلحة الفرد تكمن في التعاون .

ونحن نقول : إن العلاقة بين اللصوص تقوم على هذا الأساس ، فإن عدداً من اللصوص عندما يتفقون على السرقة ، ويقطعون الطريق ; نراهم يقسمون النتائج بالسوية والعدالة بينهم ، ويراعي بعضهم البعض لأنهم يعلمون أن كل فرد لوحده لا يستطيع القيام بهذا العمل ، ولأن كل فرد يحتاج للآخرين فإنه يحترم حقوقهم . ولهذا كنا نقول دائماً : إن فلسفة (راسل) تخالف شعاره ، فلقد كان شعاره المحبة الإنسانية ، في حين تعمل فلسفته على اقتلاع جذور الإنسانية ، ذلك لأنه كان يرى الأخلاق الاجتماعية قائمة على أساس المنافع . ويمكن لهذه الأخلاق أن تشمل الفرد الذي يلاحظ منفعته في التعاون مع الآخرين ويخاف ردود فعلهم ، وعندما تكون هناك مجموعة متكافئة من حيث القدرة والقوة فإن كل فرد يخاف الآخرين ، ويرعى حقوقهم ، أما عندما يصل أحدهم إلى حد يطمئن معه تماماً إلى أن أيّاً من هؤلاء المتعاونين معه لا يستطيع أن يقاومه لضعفه ، فلا داعي يدعوه لمراعاة الجوانب الأخلاقية . ولماذا يفعل ذلك ؟

فلنفترض نيكسون وبريجينيف (يلاحظ أن الحديث كان في حالة كون نيكسون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية) يقف بعضهما في قبال البعض ، ولأنهما متساويان في القدرة والقوة ; فإن كلا منهما يحسب حساب الآخر ، ويرى أن منفعته تكمن في مراعاة مصالح الآخر، ولكنه في قبال أي شعب ضعيف ليس لديه أي داع للسلوك الأخلاقي، وهناك فاعتراض (راسل) على أميركا في حربها ضد فيتنام مثلاً لا معنى له ، ولا معنى لوصفه بأنه غير إنساني ، إذ ماذا يعني قوله غير إنساني ؟ وما الملزم لأميركا أن لا تحارب ولا تعتدي ؟

وعلى أي حال فهذا منطق مطروح ، وطبيعي ، أنه منطق سخيف ذلك لأنه يجيز أساساً للقوي أن يستغلَّ قوته ، غاية الأمر أنه يقول للضعيف: كن قوياً لكيلا يستطيع القوي أن يظلمك ، وهذا كلام صحيح ، ولكنه لا يبقي للأخلاق موضعاً ، لأنه لا يستطيع أن يأمر القوي قائلاً له : مع أنك تعلم أن الضعيف لا يستطيع أن يرد عليك ولكن لا تظلم . فإن أمره هذا بلا مبرر . فلماذا لا يفعل ، مع أن هذا العمل في مثل هذه المدرسة مجاز قطعاً .

إذن يجب الاتجاه نحو شيء آخر . ويمكن أن يقوم رأي على أساس تلك الأهداف المادية المشتركة . ولكن للتخلص من المفاسد يطرح سبيلاً آخر فيقول :

إن علينا أن نبحث عن دوافع اعتداء الأفراد على غيرهم ، ثم نعمل على محو هذه الدوافع ، وليس من الضروري أن تكون تلك عللاً وجدانية أو نفسية ، أو نتيجة اتباع مدرسة خاصة وتربية معينة أنه يقول :

«لنفترض أنكم اعترضتم بعدم وجود مانع ورادع للقوي حين يصمم على ظلم الضعيف ، ولكننا يجب أن نبني المجتمع على النحو الذي لا يتضمن وجود قوي وضعيف ، إذ في أي شيء يكمن أساس القوة والضعف ؟ فإذا استطعنا القضاء جذرياً على هذا الأساس ، كان أفراد المجتمع على حد سواء ، وحنيئذ نجدهم ـ بالطبع ـ يمتلكون الاحترام المتبادل لحقوق الأفراد لأنهم متساوون .

وليس ذلك الأساس سوى الملكية ، ذلك لأن كل القدرات السياسية والاجتماعية وغيرها تنبع منه .

أقضوا على الملكية ليعود الأفراد جميعاً بمستوىً واحد ، وبقدرة واحدة ، وبهذا فهم لا يستطيعون الاعتداء على غيرهم ، وتكون للجميع أهداف مشتركة ـ وهي الحياة المادية ـ ، ويعود المجتمع بشكل شركة واقعية لا يستطيع أي من المشتركين فيها أن يتحكم بالأفراد الآخرين ، لأن وسيلة الضغط والشقاء هي الملكية وقد أزلناها .

والماركسية تقريباً تقول بمثل هذا الرأي . وهذه المدرسة لا تعتمد مطلقاً على المسائل المعنوية ، ولا تتحدث عن الوجدان والوجدان الأخلاقي وأمثال ذلك . أنها تعتمد فقط على الشيء الذي تعتقد أنه سر الشرور والشقاء ، وأنماط الظلم المختلفة ، والتعدي . وهو الملكية . فإذا قضينا على الملكية فقد قضينا على وسيلة الاجرام والتجني ، وإذا ما انتفت الملكية الفردية وحلت محلها الملكية الاجتماعية ، وراح كل فرد يعمل بقدر ما يستطيع ، ويأخذ من المجتمع بقدر ما يحتاج ; فسوف يعم المجتمع الصفاء والعدل والأخلاق الحسنة ، وتنمحي أسباب العداء والنفور والعقد ، ويعيش الناس كأخوة متساوين .

وهكذا ، وبدون أن يلجأ هذا الاتجاه للمعنويات ; يعمل على أن يدير المجتمع بلا إعطاء أي دور للقيم المعنوية . وهذا الأمر ناقص وباطل . وذلك لأن الواقع العملي أظهر أن المجتمعات التي ألغت الملكية لم ينعدم فيها الظلم والانحراف ، ولو كان ما يقولون صحيحاً لما عدنا نرى أي فساد فيها بعد وصولها للحياة الاشتراكية ، في حين إننا نجد هذه المجتمعات الشيوعية مبتلاة بين الحين والحين بأساليب التصفية وغير ذلك ... إن سبب ذلك يرجع إلى أن الملكية ليست العامل الوحيد للحصول على الامتيازات .

ويتوضح ذلك بملاحظة ما يلي :

أولاً : إن الامتيازات ليست كلها امتيازات مالية ، فهناك امتيازات يقول بها الإنسان لا ترتبط بالمال . فالمرأة الجميلة لها امتيازها على النسوة الاُخرى وهو امتياز حياتي لا ربط له بالمال ، بمعنى أنه حتى لو كانت الملكية اشتراكية فإن هذا الامتياز باق على حاله .

والأهم من كل ذلك ، المقامات ، فقيمة المقام لدى البشر أعلى من قيمة المال وأكبر ، فهذا فورد أوروكفلر يسعى دائماً للاشتراك في انتخابات رئاسة جمهورية أميركا، وهكذا نجد هذا الرجل ـ وهو أغنى أغنياء العالم، أو من جملة مجموعة تمتلك أكبر ثروة في العالم ـ نجده وحلم رئاسة الجمهورية يؤرقه ويكوي قلبه . وهناك الكثيرون ممن يضحون بثروتهم ـ غالباً ـ لكي يصلوا إلى الشهرة والفخر والرئاسة والقدرة وغير ذلك . وذلك أمر له قيمته ; أن يجد الإنسان الآخرين يخضعون له إما من خلال إيمانهم وحبّهم وتعلقهم به ، أو خوفاً منه ومن سطوته .

فمثلاً ألا يأمل الأفراد أن يكون أحدهم كالإمام المرحوم البروجردي ـ (وهو أحد كبار العلماء المحبوبين) والذي يحلم الكثيرون برؤيته ، ويقبّلون يده بكل خشوع ، ويعطونه أموالهم ، ويفتخرون بجوابه على سلامهم ؟ أليست هذه قيمة للإنسان ؟ وهل أن كل القيم تأتي من المال ؟

أو في الطرف الآخر يصبح الإنسان ملكاً يقف أمامه مئات الآلاف من الجنود والضباط ـ ولو لخوفهم منه ـ فيستعرضهم ويقدمون عرضهم احتراماً له .

وعلى أي حال فمثل هذه الاُمور لها قيمتها لدى البشر ، ولو لم تكن كذلك ; لما ضحى الإنسان في سبيلها بكل شيء . وهذه اُمور ليست بغير ذات بال .

وعلى هذا فجذور الاعتداء على حقوق الآخرين ، وسر الامتيازات ليست المال والثروة فحسب . على أن الأشياء الاُخرى لا تقبل الاشتراك ليجعلوها اشتراكية .

ثانياً : عندما يكسبون امتيازاتهم بوسائل اُخرى ; فإنهم ـ حتى في تلك المجتمعات الاشتراكية ـ سيحصلون على المال والثروة ، وتكون فرصتهم في الحصول على هذه الامتيازات أكبر بلا ريب . ففي روسيا مثلاً هل تساوى خروشوف والفلاح الروسي من حيث المال والثروة ؟

وحتى مع كونه مندوباً للطبقة الفلاحية ، لكنه على أي حال يقطع الدنيا هنا وهناك في أضخم الطائرات ، مع أن ذلك الفلاح لم يتفق له في عمره كله أن وفق لركوب طائرة من هذه المدينة إلى تلك .

فليس الامتياز الوحيد هو المال والثروة لتحل المشكلة عبر الاشتراكية في الثروة ، كما أنه ليست استفادة الأفراد من الثروة الاشتراكية على حد واحد مع اختلاف مقاماتهم .

وبالتالي فإذا ركزنا على أموال الدولة ـ وهي من الأموال العامة، وليست ضمن الملكية الفردية ـ فهل يستفيد الأفراد منها بشكل واحد ؟ كلا . فالمدير العام ـ مثلاً ـ يستفيد من الخزينة العامة بعناوين مختلفة ، الأمر الذي لا يمكن لغيره أن يفعله .

علاوة على هذا فإن هناك أمراً لا يخلو من أهمية ، بل هو الأهم مما سبق، فالمجتمع الاشتراكي يحتاج إلى أنماط من الإيثار والتضحية وغض النظر عن المواهب المادية . كأن يكون أحدهم جندياً ، وعليه الدخول إلى ميدان الحرب والتضحية بالنفس . وفي مثل هذه الحال لا معنى لتحكيم المنافع المشتركة ، وإنما يجب الاعتماد على المبادئ والعواطف وغيرها ليضحي الجندي بنفسه في سبيلها . وهنا نجد أشدّ المبادئ مادية في حاجة ماسة للّجوء إلى نوع من المعنويات ، ولو على أساس جعل المسلك نفسه معبوداً ومحبوباً قيماً ، يضحي الفرد لأجله . وهذا نوع من المعنويات .

إن مسلكاً يبني كل شيء على أساس الاشتراك في المنافع المادية والحفاظ عليها ; لا يمكنه أن يكون مسلكاً جامعاً ، بل لا يمكنه ـ أساساً ـ أن يكون مذهباً عملياً ، ولهذا فإن هذه الحاجات تطرح مسألة مجموعة من المعنويات ، فسلوك القادة الماديين الشيوعيين ـ مثلاً ـ بالنسبة للشعارات والعلائم المتعلقة بالمذهب له حالة متميزة . إنهم يسلكون على النحو الذي يجعل المذهب فوق كل شيء ، في حين أنه ـ وفقاً لما تبنَّوهُ ـ لا يكون المذهب إلاّ وسيلة للوصول إلى المنافع الحياتية . فإنه ـ في التصور المادي ـ لا يعود المذهب إلاّ خارطة يعمل المهندسون وفق مخطّطها لكي يتم البناء. وليس لها في قبال البناء أي جانب تقديسي مطلقاً. إن أفضل الخرائط ينظر إليها نظرة ثانوية في قبال أصل البناء ، ولذا فلا يتصور أن نضحي بالبناء في سبيل الحفاظ على الخارطة ، لأنها هي بدورها لصالح البناء . والمسلك المادي ـ في أفضل حال ـ إنما هو وسيلة لبناء المجتمع ، فلماذا تتحول المادة إلى صنم يعبد ؟ إن الخارطة لصالح البناء ، والبناء بدوره لمصلحتي ، فلماذا أضحي في سبيله ؟

إن هذا ممّا لا معنى له ، ومع ذلك نجدهم ينظرون إلى مذهبهم على أنه وسيلة لبناء المجتمع من جهة ، ولصالح حياة الأفراد من جهة اُخرى ، وكأنه أمر له قيمته وقدسيته وعظمته ، يفتخر الإنسان بالتضحية في سبيله ورغم أنه أمر لا مبرر له ; ولكنهم مضطرون لهذا المعنى فهم يغرسونه في الأفراد ولو بنحو التلقين .

وعلى هذا التصور وهو عدم استغناء أي مجتمع كان عن مجموعة من الأهداف المعنوية أو (القيم المعنوية) ـ كما يعبر عنها حديثاً ـ يجب أن نعرف حقيقة هذه القيم المعنوية ، هل هي اُمور واقعية أو هي مجموعة من التلقينات والخداع للأفراد السذج ، تماماً كما يقال بالنسبة للوطن والشعب ، وأمثال ذلك حيث يطرحون هذه الشعارات الفارغة لخداع السذج البسطاء ؟

نعم يجب أن نعرف حقيقة هذه القيم المعنوية التي يعطيها الإنسان قيماً عظمى ، إلى الحد الذي يضحي معه بكل منافعه المادية في سبيلها . وهنا يبرز هذا السؤال : ماهي (القيمة) ؟

إن الإنسان يقوم بأعمال إرادية ، ولكل عمل اختياري هدف ، وعندما يستهدف الإنسان شيئاً فإن ذلك الشيء له أهميته وقيمته لديه بلا ريب ، سواء كان هذا الهدف مادياً أو معنوياً . بمعنى أن للهدف جاذبية للطبيعة الإنسانية ، وإلاّ فمن المحال أن يتحرك ويسعى الإنسان نحو هدف لا يجذبه إليه. فقد قيل أن العبث المطلق لغو ، واللغو المطلق محال صدوره من الإنسان ، وكل ما نسميه عبثاً فقد يكون من حيث المبدأ الفكري والعقلي عبثاً ، ولكنه من حيث مبدأ آخر يصدر عنه ليس عبثاً . فقوة الخيال ـ مثلاً ـ محرك نحو هدف ما . إن قوة الخيال تصل إلى هدفها بينما تعجز القوة العاقلة.

لا ريب في أنه يكمن في الاُمور المادية شيء نافع لحياتي . ولما كنت أحب حياتي هذه حباً غريزياً وبالطبع ; فإني أتحرك باتجاهه . لأن له قيمة لدي ، وإن كانوا لم يصطلحوا بعد على إعطاء قيمة للاُمور المادية ، ولكنا نقصد القيمة بمعناها الأعم من الاُمور المادية . فالطبيب له قيمة لدي لأنه يساعدني في الخلاص من المرض ، والدواء له قيمته ، والغذاء كذلك لأنه يحلّ محل ما يفقده الجسم من الخلايا .

بعد هذا نصل إلى الاُمور المعنوية التي لها ما يوازيها من الماديات في الخارج . فما هو الحال فيها ؟

إن الاُمور المادية هي الاُمور الجسمانية واقعاً والنافعة للجسم ، بأن تكون هي بنفسها من الأجسام مثل الغذاء ، أو أنها ليست بجسم ، ولكن الجسم وسلامته تتعلق بها كالرياضة . ذلك أن الإنسان يهتم بسلامة بدنه ، ولما كانت الرياضة توجب سلامته فهي ذات قيمة لديه ... أما عمل الخير ـ بالنسبة للآخرين ـ دون أن تكون فيه للإنسان منفعة مادية ولكنه عموماً يشكّل خدمة للمجتمع ، والجيل الآتي فما هو الموقف فيه ؟

كأن يشتغل إنسان ما في مؤسسة ثقافية ، ويبذل جهوداً جبارة لكي يخدم الجيل الآتي من هذا الشعب. وبشكل لا يعود على شخصه بأي منفعة ، بل له ضرر أيضاً لأنه يستهلك من وقته وعمله ، ويمنعه من الكسب الأكثر ، فكيف ندرس هذه الحالة ؟

إن مسألة المعنويات مسألة هامة في حياة الإنسان ، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه : هل أن الإيمان بالاُمور المعنوية ينحصر بالإيمان باللّه ؟ وهل أن الإيمان باللّه يقع في أول قائمة الإيمان بالمعنويات ؟ أو أنه لا مانع من أن لا يكون في البين إيمان باللّه ؟ في حين تتحكم بالحياة الإنسانية مجموعة من القيم المعنوية .

هناك جملة وردت في كتاب (أصالة الإنسانية) لسارتر نقلاً عن داستويوفسكي الكاتب الروسي المعروف إذ يقول :

«إن لم يكن هناك واجب الوجود ; فكل شيء جائز» بمعنى أننا إذ نقسم الأعمال إلى حسن وسىّء فنقول : هذا فعل حسن يجب فعله ، وهذا قبيح يجب تركه ، وإذ تفرض الجوانب المعنوية ـ طبيعة ـ أن نصدق وأن لا نكذب ، وأن لا نخون المجتمع بل نخدمه ، فهذا كله تابع للاعتقاد باللّه وواجب الوجود . فإذا لم يكن هناك واجب الوجود ; فكل شيء جائز ، أي أن كل شيء مباح لنا ، ولا معنى للمنع والردع ، وما ينبغي وما لا ينبغي، فكلها تنتفي من قاموس الحياة . فهل أن الأمر كذلك؟

هناك خصلة حسنة في فعال الماركسيين ، وهي أنهم لا يسعون خلف المسائل المعنوية ولا يدَّعونها ـ لأنهم ماديون ـ ولا يتحدثون عن الإنسانية ، وإذا ذكروا الإنسانية السالمة وضحوا أنهم يقصدون المجتمع اللاطبقي ، لأن الإنسان في نظرهم إما سالم أو ذو عيب ، فالناس لأجل الملكية والتفاوت الطبقي يفسدون . فإذا رفعنا الملكية ; عاد الناس إلى حالتهم الاُولى ، ولا كمال آخر للإنسان ، ولا مجال آخر للرقي والتكامل في المجال المعنوي .

فيكفي الإنسان أن لا يفسد بواسطة الملكية ، أن لا يكون عابداً للمال . ولكن المذاهب المادية الحديثة نجدها مادية من جهة ، وتدَّعي الإنسانية من جهة اُخرى .

فمثل سارتر وغيره يبني مذهبه على الاُمور المعنوية ، ويعتمد على مبدأ (المسؤولية) فكيف يكون ذلك؟

إنهم يعتقدون من جهة بأن الإنسان حرّ وأن ليس هناك أي شيء يتحكم في مصيره لا إلهي ولا طبيعي، وأن الإرادة الإنسانية لا ترتبط مطلقاً بالماضي ، فالإنسان هو الذي يصنع نفسه ، لا البيئة ولا القدر ولا اللّه ولا غير ذلك ، فهو مسؤول عن نفسه ، ولأن كل عمل يؤديه الإنسان يقوم به على أنه عمل حسن ـ وهو أمر صحيح ، بمعنى أن الإنسان حتى عندما يأتي عملاً سيئاً فإنه لن يفعله ما لم يعطه عنواناً حسناً ليقنع به وجدانه ـ ولو بلحاظ خاص ، أنه يجعله مما ينبغي في وجدانه .

وعلى هذا فهو يقول ـ أي سارتر ـ إن كل عمل يختاره الإنسان عمل جيد ، أي يدل ـ كما يصطلح عليه طلاب العلوم العقلية والنقلية ـ بالدلالة الالتزامية على أنه حسن . فعندما أقوم بعمل فكأني أقول للمجتمع : بأن عملي حسن ، ويجب عمله وينبغي أن تعملوا مثله ... أنه يقول : إن كل عمل جزئي يحمل في مضمونه طابعاً كلياً ، بمعنى أن كل عمل يؤديه الإنسان بشكل فردي فإنه يريد أن يقول للمجتمع : هكذا يجب أن يكون العمل ، وعندئذ يجبر المجتمع على هذا السلوك ، بمعنى أن كل إنسان يعتبر عمله نموذجاً يحتذى . فالإنسان إذن مسؤول عن نفسه وعن الآخرين ، ذلك لأنه يعطي عمله قيمة ويراه حسناً . ومن هنا فهو يدعو الآخرين إليه . وهنا يطرحون مسألة (المسؤولية) فيرون كل فرد في هذا العالم مسؤولاً عن نفسه والآخرين . فلنلاحظ الآن هذه المسؤولية : ماهي ؟ وما معناها ؟

إن المسؤولية ليست أمراً مادياً ، إنها أمرٌ معنوي بالمعنى غير المادي. ومن الطبيعي أن نقول : أن يصبح الشخص موضعاً للتساؤل يتطلب البحث عن شخصية المحاسب ومن هو ؟ يجب أن يجيب الماديون على مثل هذا السؤال . فيقولون مثلاً : إن للإنسان وجداناً يحاسبه ، مثل النفس اللوامة في المنطق الديني . وفي الواقع يمتلك الإنسان شخصيّتين ، إحداهما حيوانية والاُخرى إنسانية ملكوتية . فإذا قام بفعل قبيح ، عاتبت الشخصية الثانية الشخصية الاُولى ، ولكنهم ينكرون مثل هذا الوجدان ، فإذا لم يكن شيء من هذا القبيل فأين هو مركز المسؤولية ؟ وبغض النظر عن مركز المسؤولية ، فإذا لم يستطيعوا إثباتها ; فإنهم يقولون بها على أيّ حال ، وكما قلنا فإن المسؤولية أمرٌ معنوي : فأنا مسؤول أمام أفراد البشرية ، وأنا مسؤول أمام الجيل الآتي وأمثال ذلك ، ماذا يعني ؟

إنهم يسلكون مسلكاً مادياً ، ومع ذلك فهم يسعون لطرح الإنسانية والمعنوية للإنسان ، ويلزمونه بهذه المعنوية . كل ذلك بغض النظر عن الإيمان باللّه ، بل نجدهم يقولون : إذا آمنا باللّه ; ذابت كل هذه المعنويات ، ذلك إن سرها جميعاً هو حرية الإنسان ، فإذا آمنا باللّه ; انتفت الحرية ، فإذا لم تكن هناك حرية فلا معنى للاختيار ، وبالتالي فلا مجال للمسؤولية . ولأنه لا يوجد في البين إله ، ولكون الإنسان حراً فالمسؤولية غير موجودة في حياة الإنسان .

وهكذا نجدهم يسعون للاعتقاد بنوع من المعنويات المسلكية لا الفلسفية، رغم أن مذهبهم مادي ، فهل ترى ذلك ممكناً أم لا؟ قد يقول أحد: ما المانع من أن لا نعتقد باللّه مع الإيمان بنوع من المعنوية؟ ذلك لأن جذور المعنوية متوفرة في الوجدان الإنساني ، بغض النظر عن منشأ البناء الإنساني ، فهي ليست إلهية ، ولكنها موجودة ، بمعنى أن الإنسان مهما كان يملك من وجدان فهو يلتذ بمجموعة من الأعمال الحسنة ، وينفر من مجموعة من الأعمال القبيحة ، ولذا فإن الإنسان يؤدي العمل لا لأجل منافعه المادية وإنما لأنه يلتذ به ، وعليه فلذّات الإنسان لا تنحصر باللذات المادية ، بل لديه لذّات معنوية ، فهو يلتذ للعلم رغم أن لا يعود عليه بشيء ... يلتذ لمعرفة التاريخ والاطلاع على أحوال الماضين ، أو الجغرافية أو رؤية أعماق البحار ، رغم أنه يعلم ـ على الفرض ـ أن هذه المعلومات لا تعود عليه بشيء من الفائدة ولا تضيف إلى دخله المادي شيئاً ، ولكنه يلتذ بهذه المعرفة أنه خلق ـ على أي حال ـ بشكل يلتذ عند المعرفة .

كما أنه خلق بشكل يلتذ معه بالاُمور الأخلاقية حتى ولو لم تعد عليه بأية منفعة مادية ، لأن الإنسان يقوم بالعمل ليلتذ . منتهى الأمر أن هناك لذة مادية واُخرى معنوية .

فهذا أبيقور ـ وهو من قدماء الفلاسفة ـ يعتبر من أنصار اللذة ، أصالة اللذة ، وإن كانوا يعبرون عنه عادة بأنه من أنصار (اغتنام الفرصة) ـ كما جاء في التعبير المنسوب للخيام ـ ويقصدون الالتذاذ والتمتع الطائش الظاهري واغتنام أية فرصة في الأكل والشرب ، وأية لذة مادية ، ولهذا فقد عرف مذهب (اللامبالاة) بعد ذلك بالمذهب الأبيقوري ، إلاّ أنهم يقولون المذهب الواقعي لأبيقور لم يكن كذلك ، أنه لم يحصر اللذات باللذائذ الحيوانية ، وإنما يعتقد بوجود مجموعة من اللذائذ المعنوية ، ويعتقد أن اللذائذ المعنوية أكثر دواماً وأقل تألماً من اللذائذ المادية .

فما المانع من أن نقيم المعنوية على أساس الوجدان الإنساني الملتذ بالأعمال الأخلاقية حتى لو لم يكن هناك إله في ا لبين ؟ فالإنسان ـ مثلاً ـ يلتذ بالجمال دون أن تكون له أية منفعة مادية تعود على جسمه بالنفع . ونحن نجد الإنسان يلتذ بمنظر باقات الزهور التي يزين بها منزله ولها قيمتها لديه ، في حين أن المنظر بنفسه ليس مادة يصل إليها الإنسان ، ولا تعود على الجسم بأية منفعة ، إلاّ أنه يعود على النفس الإنسانية بالفائدة والمتعة . فالإنسان إذن ينتفع بها ويلتذ . وهكذا لو كان هناك طائر شجي الألحان يملأ البستان نغماً فإن له قيمته لدى الإنسان ، ويلتذ به في حين أنه لا النغم أمرٌ مادي يصل إليه ولا ينتفع جسمه به وإن كانت نفسه تلتذ به .

وهذا الكلام ـ إلى حد ما ـ صحيح ولكن يواجه اعتراضين :

الأول : إن مثل هذه الأنماط من الوجدانيات ليست قوية ، إلى الحد الذي يمكن أن يبنى على أساس منه مذهب يستطيع أن يصل برنامجه التربوي، إلى الحد الذي يضحي فيه الإنسان بمنافعه للصالح العام، أو إلى المستوى الذي يضحي الإنسان فيه بنفسه في سبيل ذلك . كلا فليس يمتلك هذا المستوى من التأثير .

وفي الواقع أن الإنسان إذا كان يؤدي عملاً للذة فقط ولو للذة المعنوية; فإنه يقف عند حد الموت ، وقد يصل إلى حد الرضوخ للسجون المتوالية ، فيصبح الأمر لديه عادة وتفنناً ، ولكنه لا يستطيع أن يشكل حاجة بشرية عميقة ، وهي التي يحتاجها المذهب التربوي لكي يدفع الأفراد المعتقدين به إلى (التضحية) و (الفداء) ، تماماً كما لا نجد في العالم إنساناً يضحي بنفسه في سبيل بقاء باقات الزهور في بيته ، ذلك أنه يريد الزهور ليلتذ بها لا العكس . وهكذا بالنسبة للتعاون الذي يبديه للآخرين . فإذا افترضنا أنه يلتذ بهذا العمل ولذا يقوم به ، وولاؤه لمثل هذا العمل هو بمقدار التذاذه ; به فإنه سوف لن يقدم على التضحية بنفسه في سبيله لأن ذلك لا معنى له .

فصحيح إذن أن الإنسان يلتذ في عمق وجدانه بالأعمال العامة والحسنة . والقرآن الكريم نفسه يقبل هذا الوجدان ، ولكن هذا المقدار من الوجدان لا يكفي لأن يشكل أساساً وخميرة لمذهب ما . فحاجة المذهب للإيمان بالمعنوية هي بمستوىً أعلى بكثير وأسمى . فإذا قال أحدهم مثلاً : «إن الحسين انطلق إلى كربلاء وضحى بنفسه وشبابه وقدم نساءه وأطفاله للأسر ; لأن وجدانه كان يلتذ بالخدمة التي يقدمها للناس» كان هذا الكلام باطلاً ، ذلك أن اللذة تعود في النهاية لنفس الإنسان وبالتالي فهي لا تنسجم مع فقدان الذات .

الثاني : إن لم يكن هناك إله في العالم ، ولم يكن هناك أي هدف لهذا النظام ، وإن لم تكن هناك أية رابطة باطنية بين الأشياء والأفراد; فبالإمكان أن يقال أن هذه اللذة التي عُجِنّا بها هي مجرد غلط في الطبيعة ، فهي أمر موجود فينا ، لكنه اشتباه طبيعي محض ، ذلك أن أية لذة من اللذات المادية إنما هي لأجل الحاجة الطبيعية لها لا غير .

يقول شو بنهاور : «إن الطبيعة لكي تخدع الأفراد وتقودهم إلى مقاصدها ; عجنت الإنسان بلذائذ ، وهي بالتالي تخدعهم وترسلهم خلف مقاصدها وأهدافها» .

فالطبيعة ـ مثلاً ـ تستهدف أن يبقى النسل الإنساني . فإذا راحت تأمر الإنسان بأنه لكي يبقى النسل ، عليك أن تمتلك عائلة وتعيلها كادحاً . فإن الإنسان العاقل لن يفعل ذلك ولكن لكي تخدع الإنسان وترسله خلف مقاصدها ، فقد غرست في أعماقه اللذة لينطلق بنفسه برغبة واختيار، وبكل شوق نحو الزواج . فعلى أي حال كل لذة تنبع من حاجة . فإذا كنا نلتذ بطعام فلأن طبيعتنا تحتاج إليه ، وإذا لم نكن نلتذ لم نقدم على الأكل ، وإننا نلتذ بشرب الماء لأن طبيعتنا تحتاجه ، وهكذا نلتذ بالنوم ، فكل لذة هي على أساس حاجة واقعية ، وكذلك كل ألم يقوم على أساس مانع طبيعي .

ففلسفة اللذائذ المادية واضحة ، وهي أعمال حكيمة في الطبيعة ، ولكن ماهو الحال بالنسبة للذائذ المعنوية ؟

لماذا ألتذ من شبع طفل يتيم وما علاقة ذلك بي ؟ أنه يلتذ ، فلماذا ألتذُّ أنا؟ إن هذا الالتذاذ شيء شبيه بالخواء واللغو ، بمعنى أنه لا حكمة وعلة لذلك في وجودي أنا ، فهي بلا دليل . فإذا قلنا بوجود نوع من الروابط والعلائق في نظام العالم والخلقة ; فهو يعمل على أساس ، من الحكمة ، كانت هناك بيني وبين الأفراد الآخرين علاقة في أصل الخليقة ، وكنا جميعاً أعضاء لجسم واحد . ولذا فأنا أسعى على أساس مبدأ متقن في الخلقة . أما إذا كانت هذه اللذة بالصدفة ، كأن أكون قد خلقت صدفة بنحو يجعلني ألتذ من إيصال الخير للآخرين ، حتى ولو لم تكن هناك أية فلسفة من هذا الالتذاذ ، فإن الأمر بالتالي ينتهي إلى الخواء واللغو . بمعنى أن الطبيعة لم تكن ذات هدف في غرسها هذه اللذة ، وها أنذا أسعى خلف هذا العمل الطبيعي اللغو ، وأفدي نفسي في سبيله ، فأنا أضحي بنفسي مثلاً ـ وأنا جندي ـ للوطن لأني ألتذ بذلك . ولكن ما هي اللذة نفسها ؟ لا أدري ... ولكني هكذا بنيت تماماً كأن يولد الإنسان وفي يديه أصابع ستة ، فالطبيعة في هذه الحال قامت بعمل خاطىء لا معنى له ، وعملي أنا بالتبع مما لا معنى له . وهذا في الواقع ليس قيمة ولا هدفاً .

إن الشيء الذي يكمن فيه هدفي ، والذي يقوم على أساس من لذة غرست خطأ في أعماقي فهي بلا هدف ، لا يمكنه أن يخلص حياتي من العبثية . فنحن إذن في نفس الوقت الذي نقول بالوجدان الأخلاقي ، وأن الإنسان يلتذ بالفطرة من العمل الحسن ، وينفر من العمل القبيح ، فإننا نؤمن بأنه لو لم يكن في البين إله وخلقة هادفة فإن عملنا لن يتخلص من العبث مطلقاً .

إنني أعتقد أن الوجدان خلقه اللّه في أعماقنا لكي نقوم بأعمال هادفة . إنني أنا وهذا اليتيم وهذه العجوز ـ أعضاء في متن الخلقة لجسم واحد ، وأجزاء لخارطة واحدة ، واُطروحة معيّنة نتبع مشيئة أزلية واحدة ، ونسير نحو حكمة واحدة . فنحن إذن نؤمن هدف الخلقة وهدف خالق الخلقة، وعندئذ فإن هذا الأمر المعنوي ليس عبثاً ، وإنما هو حقيقي واقعي. وعلى هذا فإن أي مذهب أو نظام فكري واجتماعي محتاج إلى مجموعة من المثل المعنوية . ولهذا نقول : إن الأيديولوجية بحاجة إلى القيم فوق المادية ، وإن هذه القيم يجب أن تكون أقوى إذا امتلكت نوعاً من القدسية . وعلاقة التقديس في أمر ما هو أن يراه الإنسان أمراً يضحي لأجله بنفسه فداء له .

فكل مذهب يحتاج إلى مثل هذه الأهداف والقيم المعنوية ، ولا يكفي مجرد الاشتراك في المنافع ، ولا يمكن إقامة مذهب إنساني جامع على أساسها ، كما تقوم الماركسية على مثل هذا الأساس .

وكذلك فإنه لا يمكن ـ بدون اللّه ـ أن توجد مثل هذه المثل القيمة للإنسان .

إن المذهب الذي يدعي على لسان الشاعر :

إن السحاب والضباب والشموس والقمر***تسعى لكي تأكل خبزاً ضمن وعي وبصر

ويقول ـ كما جاء في القرآن الكريم :

(ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)([19] .

إنه يلقي عبء المسؤولية على كل ذرة ، ويرى أن كل شيء في الخلقة خلق لسبيل خاص ، وكلٌ مسؤول عن عمل . فالشمس لها عمل ومسؤولية ، وهي تقوم بعملها ، والسحاب المتحرك يقوم بأداء واجبه ، فحركته تعني القيام بمسؤوليته ، وحركة الهواء تعني القيام بواجب ، وكذلك أن تقوم الشجرة بالإثمار .

هذا المذهب يجعل الإنسان مسؤولاً . إن الإنسان موجود مسؤول في بحر من المسؤولية .

أما المذهب العاري من الهدف والغاية ، ولا يعتقد لأي موجود بمسؤولية ، وعندما يصل للإنسان فقط يجعل له وظيفةً وواجباً بحيث يشعر الإنسان واقعاً بأنه مسؤول ... مسؤول عن نفسه والآخرين ... وعليه أن يضحي في سبيل هذه المسؤوليات والمعنويات ، هذا المذهب سخيف بلا ريب .

وإلاّ فلماذا هذه التضحية وعلى أي أساس ؟ إن أقصى ما يمكن أن يقال: إنه يفعل ذلك للالتذاذ ، وهي لذة عبثية تقوم بها الطبيعة هباءاً .

وعلى هذا فلا يمكن لأي مذهب ـ دون الاعتقاد بحكمة الخلقة ـ أن يصل إلى الايمان بالقيم المعنوية. في حين أن مثل هذه القيم هي من ضروريات أية حركة يريد إيجادها . إن الهدف يعني منتهى الأماني ، بمعنى أن لا تكون الحياة الفردية منتهى أمله ، وإنما هو الأعمال الكبرى .

فهذا رجل يتزوج حديثاً ويعمل على تشكيل عشه العائلي يأتي إلى الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ويخبره بأنه يتمنى الشهادة ويطلب من الرسول أن يدعو اللّه ليرزقه الشهادة .

إن المذهب يمنح الإنسان شأواً بعيداً من الأهداف ، بحيث يسعى نحوها ويطلب الشهادة في سبيلها . ومثل هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تنسجم مع هذه التحليلات السخيفة ، فلا يمكن أن يصنع الإنسان هكذا. فبدون المثل العليا لا يستحق أيُّ مذهب تربوي أن يطلق عليه إسم (المذهب) .

[1] الإنسان : 3 .

[2] الذاريات : 56 .

[3] المؤمنون : 115 .

[4] الأنعام : 79 .

[5] الأنعام : 162 .

[6] الأنعام : 162 .

[7] الأحزاب : 45 .

[8] البقرة : 275 .

[9] الحديد : 25 .

[10] الشمس : 9 .

[11] الشورى : 11 .

[12] الحشر : 24 .

[13] النحل : 60 .

[14] فاطر : 43 .

[15] الرعد : 28 .

[16] طه : 14 .

[17] العنكبوت : 45 .

[18] م . ن .

[19] لقمان : 20 .